بدر شاكر السيّاب كاسم حركي للبصرة والقرنة وعمتكم النخلة
لم يكن استذكار بدر شاكر السياب عبر كتاب ناصر الحجّاج هو ما أثار الشجن، بل هي البصيرة، بل العراق الذي صار الحديث عنه أقرب الى الاستذكار… فقد مضى زمن الحزن على رحيل هذا الشاعر العراقي الذي غنانا حتى البكاء ثم أكمل رحلته إلى نهايتها المبكرة، تاركاً لنا جيكور من ملحقات البصره بأريافها وأهلها وأساطيرهم التي جعلها قصائد وأسكنها وجداننا بموسيقاها المختلفة عن الرائج وبصورها التي تختلط فيها الأسطورة بالحكاية ويتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا فلا تعود تعرف الحدود بين الواقع والخرافة ولا يبقى لك من ملجأ إلا الشعر.
كتب ناصر الحجاج عن هوية الشعر العراقي بعنوان السياب، فإذا هو لا يتحدث إلا عن البصرة «مدينة الله الأولى لإنسانه الأول… جنة عدن التي عاش فيها آدم وزوجه، فهي أول بيت وأول أسرة.. وفي البصرة قتل الأخ أخاه ومن أهلها حمل حفيد آدم ثلة من الصالحين بسفينة حملت الكون كله، بحمائمه وغربانه لتبدأ الأرض بداية جديدة لما بعد الطوفان…».
قريباً من البصرة تقوم الشجرة ـ الخلود، شقيقة جدنا آدم وهي التي أوصى بها الله «أكرموا عمتكم النخلة»… وفي شمالها عند القرنة يلتقي نهرا دجلة والفرات، ثم نهرا السويس والكارون.
ناصر الحجاج أثار عبر أناشيده المرسلة عن البصرة ومحيطها، بأهلها ونخلها وتاريخها، ذكريات شخصية مطوية…
فلقد يسرت لي ظروف عملي الصحافي أن أمضي ثلاثة أيام في البصرة وما حولها. شاهدنا ذلك التلاقي المفرد بين النهرين الأكثر شهرة في العالم، دجلة والفرات، والذي تنتج عنه «مقدمات» طوفان نوح، ممثلة بشط العرب. كذلك تباركنا بظل شجرة آدم الفريدة في بابها، والتي تتبدى جذوعها وكأنها صفحات من تاريخ الوجود الإنساني، حتى لكأنها كانت هناك منذ اللحظة الأولى، وأنها شهدت على كل حدث جاءت السير والأساطير الشعبية على ذكره ثم أكدت بعضـها الكتب السماوية.
سألنا يومذاك عن جيكور القرية التي نشأ فيها، فقيراً ومريضاً، بدر شاكر السياب، وجلنا في المنطقة من حولها، وصولاً إلى «الأهوار» ركبنا المشحوف ونحن ننتقل من بيت إلى بيت ومن حي إلى آخر من أحياء أولئك الفقراء المبنية بيوتهم بالقصب، والتي يُنزحون إليها التراب من خارجها ثم يغرسون النخيل لتثبيته وكأنه «أرض» وبعد ذلك يتخذون منه سكناً. ولقد شهدنا حفل زفاف في الأرض المنتزعة من الماء، ونقل العروس بالمشحوف، وسط الأهازيج، إلى بيت عريسها الذي يكاد لا يمكنه ان يطعمها.
البصرة «مغنى من مغاني الدنيا»، وهي تمتد ـ جغرافياً ـ من واسط شمالاً حتى عُمان جنوباً. وكان لها موقع اقتصادي وسياحي ممتاز، وفيها يقول الحسين بن منصور الحلاج:
«وأنا أخرج الصبح من سورها قال لي رجل في الطريق
«هل دخلت إلى البصرة؟ أنت دخلت لدائرة السحر
«لامست جدرانها؟ وتنفست ريح الصحارى التي تستريح بأفيائها؟
«فإذا أنت لست! وذا رجل آخر منك يأتي، رجل آخر يجيء
«سوف ترجع للبيت وتجلس منفرداً / ويلازمك الصمت والحزن، وبعد سنين.. تضيء!»
أما بدر شاكر السياب فإنه حين عاد إلى أبي الخصيب تذكر أولئك الناس الطيبين فوصفهم في قصيدة «دار جدي» بقوله:
«وكل ضاحك فمن فؤاده / وكل ناطق فمن فؤاده / وكل نائح فمن فؤاده
«والأرض لا تدور.. والشمس، إذ تغيب، تستريح كالصغير في رقاده
«والمرء لا يموت ان لم يفترسه في الظلام ذيب
«او يختطفه مارد، والمرء لا يشيب
«فهكذا الشيوخ منذ يولدون / الشعر الأبيض والعصي والذقون»
بين لطائف ما يحتويه الكتاب حوار طويل مع الشاعرة العراقية لميعه عماره. يقول ناصر الحجاج إن السياب كان يترنّح طرباً ونشوة عندما يسمع أغنية شعبية قال شاعرها فيها (بالعامية العراقية):
«نجمة صبح يهواي / واسكط على غطاك
«وبحجة البردان وأتلفلف وياك»
ولقد أتعبت هذه الأغنية السياب، وحاول مراراً أن يضمنها في شعره فجاءت محاولاته دون ما أمله، وأخيراً صاغها عبر هذه الأبيات:
«يا ليتني نجم الصباح / آه لأسقط يا حبيبتي، إذ تنام، على الغطاء
«اعتل بالبرد: ارتجف، فلفني، برد الهواء»
تقول لميعه في حوارها مع ناصر: بدر شاكر السياب حساس جداً ورقيق جداً، حتى إن يده لرقتها تندى. وهو شاعر ذو موهبة كبيرة فإذا صافحت يده تحس برقة الشعر. هو حساس لكنه يهول المخاوف وتتضخم عنده الأشياء، فالمأساة تتضاعف والكلمة تفسر، وهذا نوع من التطرف في تفسيره الحياة.
يستذكر ناصر ان بدر شاكر السياب فُصل وهو طالب، ثم فُصل وهو مدرس، وفُصل وهو يشتغل في بغداد، وفُصل وهو يشتغل في البصرة، وآخر يوم في حياته عندما استلم الحكم من أسماهم «الخوذ الحديدية»، وكان يسميهم في فترة من الفترات بأسماء أخرى، طردوا عائلته من البيت الذي كان يسكنه.
وتؤكد لميعه ان الوحيد الذي عطف عليه كان عبد الكريم قاسم الذي ساعده من راتبه.. وأول واحد شتمه كان عبد الكريم قاسم.
كخاتمة، اختار ناصر الحجاج قصيدة «دار جدي».. ومما قاله السياب فيها:
«مطفأة هي النوافذ الكثار / وباب جدي موصد وبيته انتظار
«وأطرق الباب فمن يجيب، يفتح؟ تجيبني الطفولة، الشباب منذ صار
«تجيبني الجرار جف ماؤها، فليس تنضح / بويب، غير انها تذرذر الغبار
أَأَشَتَهيك يا حجارة الجدار، يا بلاط، يا حديد، يا طلاء
أأشتهي التقاءكن مثلما انتهى إلي فيه؟ أم الصبا صباي والطفولة اللعوب والهناء…
«وفي ليالي الصيف حين ينعس القمر / وتذبل النجوم في أوائل السحر
«أفيق أجمع الندى من الشجر / في قدح، ليقتل السعال والهزال
«وفي المساء كنت استحم بالنجوم / عيناي تلقطانهن نجمة فنجمة وراكب الهلال
«سفينة كأن سندباد في ارتحال / شراعي الغيوم ومرفأي المحال
«وأبصر الله على هيئة نخلة، كتاج نخلة بيضاء في الظلام
«أحسه يقول: يا بني يا غلام وهبتك الحياة والحنان والنجوم
«وهبتها لمقلتيك والمطر / للقدمين الغضتين،
فاشرب الحياة وعبها يحبك الإله».
كتاب ناصر الحجاج مرجع ليس حول بدر شاكر السياب وشعره، ولكن قبل ذلك حول البصرة، أم المدائن، ومحيطها بقراه ودساكره، بنخيلها والزوارق والمراكب التي جاب في واحد منها سندباد البحار جميعهاً ثم عاد…
وناصر الحجاج متعصب للبصرة… ولعل من حقه أن يحتفظ بهذا التعصب للمدينة التي كانت فيها بداية الخلق والتي دمرتها الحروب في الداخل ثم اغتالها الاحتلال الأميركي، وها إن الصراع السياسي يغيّبها بتراثها الغني جميعاً وبدر شاكر السياب من عناوينه المضيئة.
كي لا يغار الأنبياء من مهدي منصور…
مبكرا ارتحل مهدي منصور من الفيزياء إلى الشعر، مرتجلاً في البدايات، ثم منظوما ومنظما، لكي يفوز بجائزة لجنة التحكيم في برنامج «أمير الشعراء» الذي بثته قناة أبو ظبي الفضائية… وبين المحطتين كان قد أنتج ثلاثة دواوين: «متى التقينا» و«أنت الذاكرة وأنا» و«قوس قزح» وهو شعر أطفال… أما بعدما «صلب الأسى شعري على أوزانه» فقد صلب مهدي غده على شفتيه:
«ماض وعكازي هواك.. وموطني
قلقي.. وأسمالي على كتفي»
وهو يقرر ان الحزن قد اصطفاه «لأعيش جرحا أو أموت نبيا».
لمزيد من التعريف بذاته يقول في قصيدة «الظل فجر داكن»:
«أنا من يقول النخل للغرباء في بغداد/ أنه امتداد صداحي
«قلبي يقيم بكربلاء… ونبضه في القدس بين الساح والسفاح..»
هذه سطور من تقديم مهدي منصور لذاته في ديوانه الجديد «كي لا يغار الأنبياء».
نبرة الفخر الرجولية تظلل صوت الشاعر الشاب في العديد من قصائده:
«قليل من الشعر يكفي.. لأعرف كم كنت نذلاً بحق النساء
«وكم أنا منتشر في المدينة.. عبر نساء المدينة، مثل الهواء»
وهو يعترف بأنه «أعمى ولكنني أرى…»: لو ان ارخميدس استلقى في البحر بدلا من حوض السباحة الصغير، لما اضطر إلى الخروج عاريا.. وما كان ليوجدها!»
في قلب الديوان، وعلى غير توقع، تطل السياسة مواربة عبر «رسم هندسي للوطن» وقد نظمها بعد أيام من تشييع الرئيس رفيق الحريري وكان قد استبقها بقصيدة في عيد الحب تحولت معه إلى دمعة، وقد جاء فيها: «بيروت أنثاك التي أحببتها.. أحببتها حتى الرحيل.. حوتك في قلب الضريح عند التقاء الأزرق الممتد بالجسد الجريح…».
يستمتع الشاعر بفوضاه ويكتب وكأنما هو يريد ان يغطي الموضوعات كافة… وهكذا تراه يمارس اليوغا في حضرة عشتار:
«للقمح أم في عروق الأرض تسهر لا تنام
«للصوت أم في عيون الريح تحمله/ ليزهر في ربيع البال حب أو كلام
وأنا صغير بين أم في التراب.. وبين أم في الرياح.. وبين أم في الحياة تحيلني قمرا جنوبياً.. تمس جبيني الدري يوميا لأولد مرة اخرى ويسكنني السلام».
في الديوان قصيدة ـ تحية للجريدة التي أغضبت بعض نسائه:
«لماذا رميت الجريدة غاضبة صبح ذلك الأحد؟
«ألأنني ذهبت بعيدا بوصف الشفاه التي تتكور مثل الأنوثة
في وجه سيدة لا تطابق جيناتها الأنثوية والمخبرية في الشعر عالمك الغجري…
«.. كان يمكن ان تضعيها على سفرة الطعام».. ويمكن ان تمسحي الآه عن جبهات الزجاج بها…
«أعيدي الجريدة يا حلوتي فالذي كان فيها كلام الجرائد…
«… لأني أحبك كل الكلام مباح.. وكل الجنون صواب
..وللبيت تلك الجريدة دافئة/ مثل شوقي لعينيك في كل يوم أحد».
ولا يبقى إلا أن نشكر الشاعر الذي استدرك فأعاد الاعتبار إلى الجريدة فقرر أنها دافئة… وبقي أن يعيد الاعتبار إلى الأنبياء!
أمير الحوار في الحصن الأخير!
..ومن أولى من سليل آل شهاب من أن يتولى هندسة الحوار بين الأديان والطوائف والمذاهب، دفاعاً عن «الحصن الأخير» لينتج مجهوده في كتاب بالعنوان ذاته؟
فالعائلة التي توارث أفرادها إمارة السلطة قرناً أو يزيد، توزعت عبر الصراع على السلطة بين دينين مع بعض التفرعات… وبين «الأمراء» اليوم من ينتسبون إلى السنّة، وبينهم من صاروا دروزاً أما القسم الثالث فقد اختار مع الأمير بشير الثاني (الكبير) أن يتحولوا إلى الطائفة المارونية.
لعل الأمير حارس شهاب يحاور تاريخ عائلته، ويستخلص من تجربتها الغنية أهمية الحوار بين «مكونات» البلد الذي نظامه الطوائفي أقوى من دولته.. وهو بدأ مسيرته مع الحوار لدى إدراكه «أن لبنان مكوّن من جماعات مختلفة عاشت جنبا إلى جنب فانتجت صوراً برّاقة من التآخي والتعاون…».
يعترف الأمير بأن أحداث 1958 قد فتحت عينيه خصوصاً مع التجربة الشهابية في الحكم… فاقتنع «بأن كل فريق كان يملك جزءاً من الحقيقة في موقفه وليس الحقيقة كاملة، وأن الواجب الوطني كان يقتضي أن يصغي كل فريق إلى ما لدى الآخر من قول ومطلب… زد ان انتمائي إلى العائلة الشهابية ذات الجذور العربية والإسلامية الضاربة في عمق التاريخ، والمحافظة على تراثها، والفخورة بوحدتها مع تنوع انتمائها الديني المسيحي ـ الإسلامي عزز انتمائي إلى التيار الحواري».
ولقد أمضى الأمير حارس عمراً في هذا الحوار المفتوح أبداً والذي يصعب تحديد موعد لوصوله إلى غاياته… والكتاب مجموعة من المحاضرات أو المشاركة في ندوات حول هذا الحوار.
قدّم للكتاب البطريرك بشارة الراعي الذي «واكب الكاتب معنا طوال سنوات عديدة بما فيها من جيد وسيئ وحلو ومر، واتخذ في معظمها مواقف أتت متماشية مع مواقفنا».
هي تجربة في اطار الحوار الإسلامي ـ المسيحي والعيش المشترك.. ولقد أهداها الأمير حارس إلى «والديّ الأمير شكيب ونينا ماري، وإلى زوجتي آمال وأولادنا منى، شكيب، كريم وعائلاتهم… وإلى الفعلة في تدعيم هذا الحصن الأخير كي يبقى منارة للأجيال الصاعدة».
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ ليس الحب مبارزة، ولا مجال للمكابرة متى تعلق الأمر بالقلب.
بعض الأحبة يخسرون أجمل أيامهم لأنهم يعاندون في الاعتراف بأن نعمــة الحــب قد جاءتهــم على غـير توقع.
إذا لقــيت حبــــيبك فاندفــع إليــه ماشــيا علــى ألسـنة المتقــولين.. وســوف تـصله ســريعا لأن قلبــه عنـــدك…