طلال سلمان

هوامش

رعية من «المتصرفية» على باب اسطنبول
لكأن المسافة بين اسطنبول وبيني «ضوئية»: كلما دانيتها نفرت، أو وقع ما يمنع اللقاء الحميم.
عبرت اليها ومنها، حتى الآن، أربع مرات: ثلاثاً عن طريق الجو في اتجاه غيرها، ومرة عن طريق البر برفقة صديق من عشاقها فتهنا عنها لننتهي «محتجزين» في «خان الشيخ حسن»، في بعض ضواحي الفقراء من النازحين إلى جوارها طلباً للرغيف.
المرة الأولى: في منتصف تموز 1964. كنت في بغداد موفداً من دار الصياد كمدعو الى حضور الاحتفال بالعيد الخامس «لثورة 14 تموز الخالدة» التي كانت قد التهمت قائدها «الأول» الزعيم عبد الكريم قاسم، الذي طالما هتفت له الجماهير المؤطرة شيوعياً «ماكو زعيم إلا كريم» ليخلفه «شريكه» الوحيد الناجي من مذبحة التخلص من «الناصريين» عبد السلام عارف الذي شكل «المنطة» التي كان يحتاجها الشركاء البعثيون لإعادة تنظيم صفوفهم تمهيداً للاستيلاء على السلطة، بعد أربع سنوات شهدت «سقوط» طائرة الرئيس ليخلفه شقيقه عبد الرحمن عارف فلما انتبه إلى «الحركة» نجا بجلده.. مختاراً!
كانت مكتبة المثنى مقرّي اليومي، بعد أن أنجز مهمتي الاحتفالية. أذهب فأجلس إلى صاحبها أو إلى بعض موظفيها يحدثونني عن العراق الذي استولد الحزن البشري، وأخرج متأبطاً كتباً ومجلات وصحفاً… ثم أعود في اليوم التالي بذريعة تحصيل ما لدار الصياد من مستحقات، ثم أخرج ومعي ما هو أثمن.
ذات مساء اتصل بي «معلمي» المرحوم سعيد فريحة، وكلفني أن أقصد إلى الاسكندرون للقاء صلاح الشيشكلي (شقيق الانقلابي الشهير في سوريا العقيد أديب الشيشكلي) والذي أبلغ الزميل الكبير انه يملك وثائق خطيرة، ويريد من هو مؤتمن لتسلمها.
دخت قبل أن أعثر على طائرة تابعة لشركة بان أميركان تقصد اسطنبول مباشرة من بغداد، وموعدها قبيل الفجر بقليل… وهكذا فقد وصلت عاصمة السلطنة في ساعات الصباح الأولى. لم أكن أعرف أحداً في تركيا. قلت: سأجرب السفارة اللبنانية. اتصلت فرحب بي دبلوماسي لطيف لينصحني بأن أغتنم الفرصة لتمضية أيام سياحية في اسطنبول… ولم أكن أملك الحق في هذا الترف، فضلاً عن كلفته. وهكذا قصدت فندقاً أعطاني اسمه لتبدأ المواجهة مع تمسك الأتراك بلغتهم دون غيرها.. وبالكاد تفاهمت مع موظفة الاستقبال!
في الغرفة التي تطل على البوسفور واجهت مشكلة: لا ماء في الحمام. اتصلت بالاستقبال فلم أجد من يفهم مطلبي، فنزلت لأشرح لموظفيه حاجتي إلى الاستحمام. هزوا رؤوسهم ففهمت أنهم سيرسلون من يهتم. وبالفعل جاء من يسأل، فلما عجزت عن الشرح قدته إلى الحمام وأثبتّ له أن لا ماء فهتف كمن اكتشف سر الخلق: آه… سو؟! وعرفت ان كلمة «سو» تعني الماء، ففرحت: هذه أول كلمة تركية تعلمتها!
قصدت اسكندرون عابراً أضنه ومدناً صغيرة وقرى في «اللواء السليب». لم تكن المشاهد مختلفة عنها في الريف الساحلي السوري…
في اسكندرون كان الجو في غاية التوتر: فثمة من حاول ـ وفق الرواية الرسمية ـ نسف تمثال كمال أتاتورك، وهذه من «الكبائر». الناس، وغالبيتهم من أصول عربية ـ نظريا ـ في قلق، والجيش مستنفر. وصلاح الشيشكلي غير موجود، وأنا تائه، لا عمل لي ولا أعرف في المدينة أحداً. أمضيت يومين موزعاً بين بيت الشيشكلي ومقهى شعبي والمشي مع الغروب عند الشاطئ. كان القمع يشل الألسنة، حتى ان خادماً في المقهى تبعنا حتى زقاق قريب لينفّس عن كربته فيتكلم معنا باللغة العربية المحظورة تماماً، كما العديد من التقاليد في اللباس والسلوك وصولاً إلى الصلاة والأذان.
وهكذا انتهت الرحلة الأولى بفشل مهني ومرارات كثيرة!
^^ بين الخميني وخان الشيخ حسن!
المرة الثانية: في أيلول 1980 أغراني الصديق غسان ناصر، وقد التقينا في صوفيا، ببلغاريا، أن أرافقه في رحلته بالسيارة إلى بيروت. كان العرض جذاباً… وهكذا قطعنا بلغاريا طولاً، بلا توقف، إلا بعد أن بتنا في الأراضي التركية، للتزود بالوقود. كان صوت المذيع في راديو السيارة واضحا وهو يقدم نشرة الأخبار بالعربية. وتصادف ورود خبر عن الإمام الخميني، قائد الثورة الاسلامية في إيران، فإذا بالعامل يتوقف ليباشر الهتاف وهو يهز قبضتيه: خميني! خميني! الله أكبر! الحمد لله! خميني..
أخذنا شيء من الخوف، فقبل فترة وجيزة كان الجيش قد أتم انقلاباً استولى فيه على السلطة، خوفاً على النظام من تأثيرات الثورة الايرانية. وهكذا انطلقنا مبتعدين عن العمال المتحمسين، وحين بلغنا مشارف اسطنبول أخذنا ننسج الأحلام حول هذه الليلة التي سنمضيها في أفخم فندق في المدينة الساحرة. سألنا كثيراً، وكنا لا نلقى جواباً، إلا حين قلنا: أوتيل! فقال الجميع: تقسيم!.. وهكذا اندفعنا نتبع الايماءات بالأيدي والعيون والهمهمات، نحو قلب المدينة الفريدة في موقعها كما في تاريخها. من شارع إلى ميدان، ومن ميدان إلى آخر متبعين تعليمات الموجهين بالإشارة حتى انتبهنا متأخرين إلى اننا قد بتنا خارج اسطنبول! وعلقنا في شبكة معقدة من الجسور والطرقات المتفرعة، وحين عدنا إلى الأوتوستراد برز أمامنا حاجز عسكري: توقفنا، طبعا، فطلب أوراقنا. كنا متعجلين، فسألنا عن الفنادق المعروفة الأسماء.. رطن الضابط بكلمات لم نفهمها ثم طلب إلى جندي أن يصعد إلى السيارة معنا. استبشرنا بهذا اللطف الزائد، واتبع غسان توجيهات الجندي لننتهي عند خان قريب. أشار الجندي أن نوقف السيارة، وان ننزل منها إلى هذا الفندق. ثم حاول جهده أن يشرح منع التجول بالإشارة بالذراعين المتقاطعين وبالساعة، مع الأمر بأن نترجل ونرقى الدرج إلى صالة الاستقبال البائسة في الخان الفقير أثاثه. قادنا خادم إلى غرفة بسريرين فنفرنا من كل ما فيها: الشراشف متسخة والمخدات كالصخر، ولا ماء، ولا طعام! نزلنا مرة أخرى إلى الاستقبال، وفي زاوية منه كان ثمة براد فارغ بواجهة مكشوفة. في أعمق أعماق الواجهة كان ثمة طاسة من اللبن. طلبنا شراءها، فهز الخادم رأسه بالنفي مردداً: الآغا حسن! وفهمنا انها لصاحب الفندق. على ان أكثر ما أثار فينا مشاعر الغيظ والقهر أن نافذة غرفتنا كانت تطل على حمام تركي، يتصاعد البخار من سقفه فينتشر في الفضاء المعتم مما يزيد في تعذيبنا ونحن ننتظر انبلاج الضوء لنكمل رحلتنا في اتجاه بيروت بغير أن نحظى بلقاء اسطنبول لكي نودعها.
^^^ بين أنقرة وبيروت: السلطنة والمتصرفية!
في الفاصل الزمني القصير بين رحلتي العبور في مطار اسطنبول قاصدين أنقرة، الزميل ساطع نور الدين وأنا، ثم عائدين من العاصمة التركية المستحدثة بعد لقاء مع رئيس الحكومة الذي صيّرته المواجهة مع اسرائيل بطلا عربياً، رجب الطيب أردوغان، إلى بيروت عبر اسطنبول، دهمتني مشاعر متباينة، لا سيما أن التاريخ لعب دوره المؤثر في الجغرافيا، أرضا وسياسة.
بين مطار بيروت والمطار الفسيح والأنيق في اسطنبول مسافة خمسمئة سنة إلا قليلاً تقطعها الطائرة في ساعة ونصف الساعة.
أما بين اسطنبول وأنقره التي تكاد ان تكون من عمر بيروت، كمدينة وكعاصمة رسمية، فمسافة مماثلة تقطعها الطائرة في حوالى الساعة منتقلة بك من ماضي الامبراطورية العثمانية وسلاطينها إلى حاضر المدينة التي ابتدعها كمال أتاتورك في قلب بلاده التي خسرت ماضيها المجيد فأراد ان يبني مستقبلها خارجه مغيراً الوجهة من الشرق المنطفئة أنواره إلى الغرب الذي أغواه فأراد أن يقلده لينتمي اليه.. لكنهم قبلوا منه الهجانة ولم يقبلوه بينهم، ولم يروه «منهم» برغم كل ما بذل من جهود جعلته غريباً بين «أهله» ممن أصر على أن يتبرأ منهم.
عبرنا الشوارع التي تلتف من حول هضبات المدينة التي بنيت بالأمر، داخل البلاد، بما يزيد على الطامعين من صعوبة الوصول إليها، ويمكّن أتاتورك من أن يبني دولته ـ بهدوء ـ خارج السلطنة وتركتها الثقيلة.
شرح لنا مرافق مهذب تاريخ المدينة التي تغمر الغابات محيطها والتي اعتمدت عاصمة في الحقبة ذاتها التي أنهيت فيها «المتصرفية» التي فرضها الغرب على السلطان، كمخرج افتراضي من الحرب الأهلية في جبل لبنان (1860)، تاركاً للباب العالي أن يعين «المتصرف» من رعاياه، بشرط ان يكون مسيحيا، وكانت «العاصمة» في بعبدا… بعد إقامة «الجمهورية اللبنانية» تحت رعاية الانتداب الفرنسي، وبعد ضم «الأقضية الأربعة»، إلى الشمال والبقاع والجنوب والساحل بما فيه بيروت، إلى تلك «المتصرفية» الفريدة في بابها، صارت بيروت «العاصمة» بقرار من الجنرال غورو. ومن هنا ان «الجمهورية» ولدت وها هي مستمرة، وفيها مناخات وولاءات متعددة… ولا أتاتورك!
وحين جلسنا إلى رئيس الحكومة التركية كان يحيط به عدد من المستشارين تولى بعضهم الترجمة: كان منهم من جاء من ديار بكر، ومن جاء من اسطنبول، ومن ماردين على الحدود مع سوريا (وأحدهم من مواليد دمشق ذاتها)… ولم يكن في الجلسة أو الحوار ما يذكر بالماضي.
أما نحن فكان أحدنا متحدراً من بعض رعايا «المتصرفية» في جبل لبنان، بمتصرفها الارمني، أما الثاني فكان أهله، يومها، من رعايا والي عكا العثماني الذي عصى السلطان ذات مذبحة، أحمد باشا الجزار، فكان جزاؤه مكملا لما مارسه ضد غيره!
.. وأما الأمير بشير الشهابي الثاني الذي قسم ولاءه بين السلطان والجزار والخديوي في مصر وابنه ابراهيم باشا قائد الحملة ضد السلطنة ونابليون فحكم أربعين سنة، وبأكثر من دين، وانتهى منفياً في مالطا.. ولكنه صنف بطلاً وطنياً ونقشت رسومه على العملة!
.. ولا بد من اسطنبول، في مرة خامسة، وان طال السفر!
حكاية/طرب من الماضي؟
القاعة أضيق من رحابة الصوت، والقلق أثقل من وطأة الصمت، والوحدة شيطان ثرثار يرمي أخيلته المعابثة في الزوايا ثم يخرجها من أبواب الضجر إلى شارع الضجيج المزدحم بالذاهبين من مقاهي الثرثرة إلى ملاهي الرقص بتفاصيل الجسد.
قال لنفسه: لو انها كانت معي.
قالت له نفسه: لكنك من هرب منها. تقصدت أن تكون وحدك.. لتفكر!
رد بهمس كاد يكون مسموعاً: وها أنا لا أفكر إلا فيها!
لم يكن الجمهور القليل عديده في حاجة إلى أكثر مما لديه هنا: صوت قوي يتجاوز نزف العود الذي كثيراً ما تنطوي أوتاره بين أصابع المغنية الواثقة من نفسها لتترك المساحة للطرب الذي يغني وجع الهجر، بعدما غيب دوي الطبول ليالي النشوة والاستماع بالقلب لآهات الحنين.
قطعت عليه نشوته تساؤلات هبطت عليه من وجدانه:
هل اختلفت أذواق الناس باختلاف الزمان فذهبت أجيال الاستماع بالقلب إلى صمت الشيخوخة، وجاءت أجيال المستمعين بهواجسهم ومشاعر الاغتراب عن الذات والافتراق عن التاريخ والجغرافيا والتنكر للتراث وقد «اكتشفوا» ـ متأخرين ـ انه بدائي وتخلف عن العصر، يلغي «الفردية» ويفرض الإقامة الجبرية في الماضي الذي لن يعود.
انهمرت نفحات محمد عبد الوهاب ولعلع الصوت الفني بأغنيات لأم كلثوم وأسمهان التي لا تشيخ قبل أن تنعطف المطربة التي تغني لنفسها في اتجاه سيد درويش ومنه إلى فيروز بألحان زياد الرحباني استجابة لجمهور الشباب في جمهورها الذين هربوا من الحرب على أجنحة التهكم على الذات وتحويل الخوف إلى أغان كاريكاتورية تضحكهم من أنفسهم.
وحين قام لينصرف عاندته فبقيت لنواصل السماع.
ديوان في باب الحب
قرأت «أغاني الهوى ورسائل الحنين» في عيون الحشد من الرجال والنساء الذين تحلقوا حول إحسان شرارة وهو يوقع لهم الديوان الجديد لحبه المشاع والذي يوزعه على الناس بغير حساب: «أغاني الهوى ورسائل الحنين».
كان الجمع يعتبر نفسه في الكتاب الجديد لهذا الذي دخل دنياه من باب الحب ثم أقام فيه، يكتب لنفسه فإذا هو يكتب الناس جميعاً.
لم أنتظر طويلاً، تناولت أغنيتي ومضيت بعد أن قرأت قصيدة جديدة في الابتسامة التي تحتل دائماً وجه هذا الذي أنبتته بنت جبيل في قلب غابة من الشعراء فاجتهد لان يكون من رواتهم حتى صار واحداً منهم.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ أمضّني الصمت، فحبيبي غائب، وليس لصوتي من يقرأ فيه أشجاني.
المحبون ثرثارون، بلغات عديدة، أما وسائل التعبير فأكثر من أن تحصى.. وها أنا أكاد أفرغ من نظم ديوان الغياب.

Exit mobile version