غازي القصيبي: رسام الكاريكاتور الملكي… خارج البلاط!
لم تيسر لي الظروف فرصة اللقاء مع الأديب ـ الكاتب ـ الشاعر ـ الدبلوماسي ـ الوزير غازي بن عبد الرحمن القصيبي… وبقيت علاقتي به من موقع القارئ المتابع لما ينشره او ما يكتبه عنه زملاء كثر عرفوه في المملكة او في مواقع عمله كسفير.
بعيداً عن تظاهرة التقريظ واستذكار وجوه الإبداع التي شاركت فيها جمهرة من الكتّاب والصحافيين داخل السعودية وخارجها، أريد ـ ببساطة ـ ان أنوه بحس الفكاهة في كتابة القصيبي، مستشهداً بمقتبسات من حكايات أوردها في كتابه «الوزير المرافق» وهي تحمل انطباعاته الشخصية «عن عدد من رؤساء الدول والحكومات الذين أتيح لي ان أشاهدهم عن كثب، من خلال مرافقتي للملك او ولي العهد في زياراته بلادهم، او من خلال زياراتهم هم المملكة».
هنا فقرات «ضاحكة» من هذا الكتاب، الذي يتبدى فيه غازي القصيبي أقرب الى رسام الكاريكاتور الذي فرض عليه ان يكون في الحاشية الملكية، فامتنع عليه ان يرسم الداخل، فمضى يرسم الخارج، ملكيا ورئاسياً، مقدما لوحات كوميدية عن عالم البروتوكول الذي يمكن ان ينقلب، في لحظات، من ذروة المهابة الى وهدة المضحكات.
÷ في البيت الأبيض: حيوا الزعيم!
[ «كنا في قاعة من قاعات البيت الأبيض نتناول المرطبات، قبيل حفل الغداء. ظهر رئيس البروتوكول في وزارة الخارجية وطلب منا ان نقف في صف واحد بحسب التسلسل البروتوكولي لأعضاء الوفد. بقينا مصطفين كالجنود، بضع دقائق، حتى انفتح باب القاعة وظهر جندي ضخم يرتدي زياً مزركشاً، وصرخ بصوت جهوري هز القاعة: سيداتي، سادتي… رئيس الولايات المتحدة! ودخل «الامبراطور» يحف به الحرس والأعيان. لا ادري لماذا تصورت ـ لحظتها ـ ان مدفعاً صغيراً في مكان ما من القاعة سوف يطلق احدى وعشرين طلقة، وتبدأ أوركسترا صغيرة مختفية تحت احدى الطاولات بعزف «حيوا الزعيم»!
«في ذلك الغداء التفت عضو في مجلس الشيوخ الى القصيبي، فقال له:
ـ لقد كنت في هذه القاعة نفسها قبل شهرين عندما أقام الرئيس حفل غداء تكريماً لشاه العراق.
ـ تقصد شاه إيران؟
ـ لا. لا. انني أعرف الشاه محمد رضا بهلوي جيداً. وهو صديق عزيز لي. انني أقصد شاه العراق.
ـ لكن العراق ليس فيه شاه، ولم يكن فيه، بحسب علمي، شاه في أي يوم من الأيام.
ـ لكنني رأيته بنفسي في هذه القاعة!
[ ثم يضيف القصيبي فيقول عن العلاقة بين نيكسون وكيسنجر: كان نيكسون امبراطور واشنطن إلا ان كيسنجر كان في حقيقة الأمر «نائب الامبراطور». كان الجميع مبهورين بتصرفاته وكلماته ونظرياته. أذكر اثناء حفلة العشاء التي أقامها لنا، ان موظفين كبيرين في وزارة الخارجية الأميركية كانا يتحدثان في الطاولة التي الى جانبي:
ـ يا الله! كم هو عظيم هذا العشاء! انظر الى الذوق! انظر الى الترتيب.
ـ هذه طريقة الوزير! انه يتقن كل شيء! انه يعمل كل شيء بروعة وبأسلوب فريد.
هذا كله في وصف حفلة عشاء عادية أعدها متعهد أطعمة، ولعل كيسنجر كان آخر من يعرف بتفاصيلها التي أذهلت الموظفين الكبيرين.
[ للمقارنة، يصف القصيبي لقاء رسمياً مع كارتر:
«كنا في قاعة من قاعات البيت الأبيض نتناول المرطبات قبل حفل العشاء عندما لمحت شخصاً ضئيلا في بذلة زرقاء يعبر بهدوء من جانبي. وقد كانت دهشتي عظيمة عندما تبينت ان هذا الشخص لم يكن سوى الرئيس نفسه دون ان يسبقه إعلان، ودون ان يرافقه حرس، ودون ان تشعر القاعة بدخوله.
الطريف ان كارتر طلب البحث قانونياً فثبت له انه يحق له ان يوقع باسم «جيمي» بدلاً من اسمه الكامل جيمس. كذلك فقد تخلى عن نشيد «حيوا الزعيم» لفترة، ثم عاد النشيد يواكب دخول الرئيس.
÷÷ المهاتما والصبيتان العاريتان… نياما!
[ بعيداً عن واشنطن، يقدم غازي القصيبي «بورتريه» متميزاً للسيدة أنديرا غاندي، ويقول: «الصورة» امرأة قوية الشخصية، متعطشة للقوة، شديدة الدهاء، حديدية الإرادة، قاسية القسمات، لا حد لطموحها او لعنادها. «الأصل»: امرأة في الرابعة والستين، ضئيلة، ضئيلة، تتحدث بصوت هامس يكاد لا يُسمع..
ويسأل القصيبي غاندي عن نهرو وما قرأه عنه، لا سيما عن سفره بالدرجة الثالثة الذي كان يكلف الدولة أضعاف أضعاف التكلفة لو انه سافر في مقصورة خاصة في الدرجة الأولى.
ترتسم ابتسامة خفيفة على الفم الرقيق: ـ هذا صحيح! كانت أجهزة الأمن تضطر الى ان تخلي الدرجة الثالثة بأكملها من كل الركاب. كان من الاسهل والأرخص ان يسافر في مقصورة خاصة. علاوة على هذا، كان غاندي يصر على أغذية «بسيطة» أينما يذهب. صحيح ان هذه الأغذية كانت «بسيطة» لكنها قد لا تتوفر دائماً. كنا نشعر بالقلق عندما ينزل غاندي ضيفا في بيتنا.
ويسأل القصيبي: سيدتي، آسف، إذا كان هذا السؤال محرجاً! لكنني قرأت مرة ان غاندي كان يصر على النوم وبجانبه فتاتان جميلتان عاريتان. هل هذا صحيح؟!
شبح الابتسامة مرة اخرى: لقد كان هذا خلال فترة من فترات حياته، عندما قرر ان يعتزل الجنس نهائياً. أراد ان يثبت ان بوسع المرء أن يقاوم النزعة الجنسية برغم الإغراء الشديد. لا شك في ان هذا كان تصرفاً غريباً.
[ أما عن الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، فيروي، على هامش لقائه، قصة سمعها عنه تقول: ذهب إليه أحد وزرائه وطلب منه ان يقبل استقالته من العمل نظراً لمرضه وتقدمه في السن. ورفض الرئيس بإصرار. قال انه لو مات كمواطن عادي ودُفن كمواطن عادي فلن يشعر بموته أحد، أما إذا مات وهو وزير وشيع الى مقره الأخير وهو وزير، فستكون هناك وحدات من القوات المسلحة وموكب مهيب. أي انه سيموت «بما يليق به من تكريم».
[ أما عن الملكة إليزابيت، فيروي القصيبي حكايتين عن مائدتها: الأولى حين تعذر عليه حضور العشاء على متن يختها الراسي في ميناء الدمام. وجاء رئيس المراسم يعتذر للوزراء السعوديين لان طاولة الطعام في اليخت لا تتسع إلا لعدد محدود من المقاعد. وهكذا وجدت نفسي «منفياً» للمرة الثانية. كانت الأولى حين كنا في زيارة رسمية، ودعت الملكة الوفد، وأخبرتنا المراسم ان الدعوة ستكون مقتصرة على أعضاء الوفد من الأسرة الملكية. أما خلال زيارة ثالثة، وكان بصحبة ولي العهد، فقد كان ترتيبه الثاني في الوفد فما كان ممكناً استبعاده. وهكذا وجد نفسه الى يسار الملكة. وجرى الحديث عن العائلة والقيم، فتحدثت عن جدتها الملكة فيكتوريا:
ـ كان بوسع الملكة فيكتوريا ان تزور أقاربها المنتشرين في أوروبا بسهولة. أما الآن فقد اصبحت هذه الزيارات العائلية متعذرة سياسياً. هناك مشاكل سياسية في كل مكان. إن أفراد عائلتي القريبين يبلغون ثلاثة وثلاثين. أما إذا أضفنا الى هؤلاء أحفاد الملكة فيكتوريا وأولادهم، فسوف يبلغ العدد المئات.
÷÷÷ من ريغان العلاّمة؟ إلى عيدي أمين والأقزام!
[ بين الحكايات واحدة عن جهل الرئيس الأميركي ريغان. وقد روى له وزير خارجية فرنسا، ميتران كلود شيسون، قصة جرت خلال زيارة للسادات لواشنطن. كان السادات يتحدث مع ريغان عن الأوضاع في الشرق الأوسط، وذكر صدام حسين. وبعد قليل أعاد ذكره مرة اخرى. وهنا قاطعه ريغان والتفت الى مساعديه: ـ حسين؟ من هو حسين هذا؟ هل فيكم من يعرف حسين هذا؟!
أما أطرف ما يرويه القصيبي، فيتصل بتفاصيل زيارة اصر عليها عيدي أمين خلال حرب تشرين ـ رمضان (1973) للسعودية، ثم سوريا، وهنا ينقل عن الرئيس حافظ الأسد ما مؤداه:
ـ كنت في غرفة العمليات، وكانت المعركة محتدمة وضارية على كل الجبهات. فجأة وصل عيدي أمين الى دمشق وأصر على مقابلتي. قال إن لديه نصائح مهمة لا بد ان استمع إليها. حاولت ان أتهرب من المقابلة لكن دون جدوى. أخيراً اضطررت الى مقابلته. وضاع وقت ثمين في ظروف قتالية حاسمة.
وروى الرئيس الأسد كيف عرض عليه عيدي أمين، بين ما عرضه، ان يزوده بحرس خاص من أوغندا، جميعهم من الأقزام. قال لي: هؤلاء الأقزام نافعون للغاية. وحجمهم يساعدهم على حمايتك حماية ممتازة. بإمكانهم ان يختفوا تحت الكرسي الذي تجلس عليه، أو تحت الطاولة، ثم يظهروا فجأة من تحت قدميك.
ضحك الرئيس الأسد عالياً وهو يردد: تصور أقزاماً يخرجوا فجأة من تحت قدميّ! لقد شكرته بحرارة وأخبرته انني، مع التقدير، لا أحتاج الى هؤلاء الأقزام.
عن القدس في إيران قبل الثورة، وقبل إسرائيل
يحتفل العالم الإسلامي، ومن ضمنه العالم العربي، اليوم، بيوم القدس العالمي. في واحد من هذه الاحتفالات، كانت هذه «الخواطر» عن احداث وذكريات لها صلة بالقدس:
[ في واحد من لقاءاتنا الدورية مع استأذنا محمد حسنين هيكل، روى لنا واقعة تاريخية مجهولة. قال الأستاذ هيكل انه انتبه أثناء قراءته يوميات الجنرال اللنبي التي جمع فيها محاضراته أو تعليماته لضباطه وجنوده، إلى واقعة منسية أو مهملة لم يتنبه اليها المؤرخون.
تفيد الواقعة: ان الجنرال اللنبي عندما اقتحم بقواته أسوار مدينة القدس، ودخلها بعدما ألحق الهزيمة بجيوش العثمانيين، فوجئ بوجود كتيبة إيرانية بين المجاهدين الذين جاءوا من جهات عدة، عربية وغير عربية، مدفوعين بواجب الجهاد في سبيل «قدس شريف».
يضيف الجنرال اللنبي ان هؤلاء المتطوعين أظهروا كغيرهم من المجاهدين بسالة مميزة في التصدي لقواته وهي تحاول اقتحام اسوار القدس. وتبين انهم قد تلاقوا في طهران من أنحاء مختلفة في ايران، وشكلوا كتيبتهم وجاءوا متطوعين بهدف حماية القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين.
[[ تسنى لي ان أكون واحداً من الصحافيين الذين أسعدهم حظهم بأكثر من لقاء مع القائد العظيم آية الله روح الله الموسوي الخميني. الأول كان في نوفل لي شاتو بفرنسا، الملجأ الذي اعتصم فيه عشية الثورة. أما اللقاء الثاني فكان في قم بعد انتصار الثورة الإسلامية المجيدة.
ولن أضيف كثيراً إذا ما استذكرت بعض كلماته، بل مبادئه التي جعلت من القدس شعاراً للثورة، له شيء من القداسة، لكنني اود التوقف أمام واقعتين محددتين لفتتا اهتمامي خلال زيارتي الأولى طهران، ومن بعدها قم.
في طهران صحبني بعض الأصدقاء في زيارة تكريمية لمباني السفارة الإسرائيلية، التي كانت تشكل شبه حي كامل محاط بالأسوار العالية. كانت المباني التي حوصرت وأُحرق بعضها بعدما اقتحم الثوار أسوارها، قد أخليت تماماً من شاغليها الخمسمئة من رجال المخابرات الإسرائيلية الذين كانوا يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية.
ومعروف ان هذه السفارة قد قدمتها الثورة الإسلامية هدية خالصة إلى منظمة التحرير الفلسطينية لتكون سفارة فلسطين. ولنتجاوز ما صارت إليه بعدئذ، وحالها حال المنظمة ذاتها.
ولقد عرفت من خلال لقاءاتي المتعددة مع مسؤولين كبار في قيادة الثورة، ان وزارات الزراعة والدفاع والتخطيط، فضلاً عن الجيش بأفرعه البرية والبحرية والجوية، كانت تزدحم بآلاف من الخبراء الإسرائيليين، الذين طردوا في الأيام الأولى للثورة مع إقفال سفارة العدو وإسقاط مختلف أشكال الهيمنة الأجنبية، وبالتحديد الأميركية والإسرائيلية، على إيران الشاه.
أما الواقعة الثانية فتتلخص في أننا، أثناء زيارة مقام «المعصومة» في قم، التقينا عدداً من الأصدقاء اللبنانيين بينهم المخرج السينمائي الراحل مارون بغدادي، الذي أعطانا أعمالاً جميلة. وتوقفنا نتبادل الحديث والانطباعات لنفاجأ بعد قليل بمجموعات من زوار المقام تحيط بنا في شبه تظاهرة وهم يهتفون لفلسطين، فقط لأننا نتحدث العربية، إذ افترضوا اننا فلسطينيون. وكانت تلك أفضل تحية لنا، إذ تم الربط المطلق بين العروبة وفلسطين، وهذا هو الطريق إلى التحرر والوحدة، وليست المفاوضات على بضعة كيلومترات من الأرض في بطن إسرائيل، دولة يهود العالم، فأخذنا التأثر إلى حافة البكاء.
أروي هاتين الواقعتين لأقول ان فلسطين ليست طارئة على الفكر الثوري في إيران، وليست دخيلة على برنامج الإمام الخميني بأهدافه العظمى. فالقدس كانت في صلب البرنامج من قبل ان تنجح الثورة، وهو قد ركز عليها استجابة منه لمشاعر صادقة متمكنة في نفس الجمهور الإيراني منذ القدم، بدليل مادي ملموس بين يدينا يتمثل في تلك الكتيبة الإيرانية من المتطوعين الذين جاءوا للدفاع عن القدس، قبل خمسين عاماً من انتصار الثورة الإسلامية، بغير طلب من السلطة، بل وسط اعتراض منها على الأرجح.
ولعل الإمام الخميني في إعلانه «يوم القدس» موعدا للتلاقي، في سائر أنحاء الأرض، من حول فلسطين، كان يستجيب لمشاعر صادقة في نفوس الإيرانيين أكثر مما كان يفرض عليهم تظاهرة سياسية لها أغراضها الداخلية، أو يقصد منها التوظيف الخارجي.
القدس في وجدان الإيرانيين، كما في وجدان كل المسلمين والمسيحيين العرب من أهل هذه المنطقة. وبالتالي، فهي هدف سامٍ من أهداف نضالهم الذي اتخذ ابعاداً أكثر خطورة بعد اقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين والزحف الاستيطاني المنهجي لتذويب القدس العربية (المسيحية الإسلامية)، واستيعابها ضمن دولة يهود العالم التي يجري الاحتفال بها في واشنطن الآن، بمشاركة بعض أهل النظام العربي الذين سلموا بلادهم الى الهيمنة الأجنبية، وصاروا حراس حدود لهذه الدولة الوافدة العنصرية والمعادية لحقوق الإنسان، فضلاً عن جريمتها في اقتلاع الشعب الفلسطيني وتشريده في أربع رياح الأرض.
مــن أقــوال نســمة
قـال لـي «نسـمة» الـذي لـم تعـرف لــه مهنـة إلا الحـب:
ـ إذا أنت أحببت، فعليك ان تترك لحبيبك فسحة للتنفس. ليس المحب رجل شرطة، وليس محققاً. حبيبك صورة ذاتك. حاسب نفسك قبل ان تعاقبه. الحب يتعزز بالعتاب. عتابي لحبيبي المزيد من حبه.