طلال سلمان

هوامش

رهيف فياض يناضل لاستنقاذ المدينة ـ القلب وأهلها
يناضل رهيف فياض في الميدان الصعب: حماية الذاكرة بحفظ أنفاس الذين عبروا، فأحبوا بلادهم جميلة، لذلك اهتموا بعمارتها التي لا بد من أن تشبههم وتعكس بعضاً من قيمهم وتذوقهم الفني وتراثهم الديني في تجلياته الهندسية. أفليست اللغة، ولا سيما في الشعر، بناء هندسياً فذاً، يتدفق موسيقى شجية ويتعملق وهو يمزج الحب بالفخر، وتطلع الانسان إلى السمو بينما تترقرق عواطفه جدولاً من النغم في حين تتسامق أحلامه متجاوزة حدود الممكن بالابداع؟!
ولقد جاهد رهيف فياض مع نخبة من المهندسين وأبناء المدينة التي كانت جميلة وغنية بتراثها المعماري لحمايتها من غزوة الأثرياء والنهابين وباعة الهواء… ذلك ان أهلها كانوا قد أفادوا فحفظوا موقعها كمدينة يشكل البحر فضاء ثانيا لها، بينما هي تستند إلى مجموعة من الهضاب الخضراء المتدرجة علواً لتنتهي عند قمم صنين المكللة في بعض فصول السنة بالثلوج. وكان الأهالي يراعون هذا التدرج ويحفظون حقوق بعضهم البعض في المدى البحري كما في المشهد الأخضر في الخلف. والأخطر ان الكل قد أسهم، بوعي، في حفظ قلب المدينة الذي يعرفه أبناؤنا الآن باسمه الأجنبي «داون تاون»، بينما هو يضج بالفراغ، ويكاد يشعرك وأنت تعبر ما كان «ساحة البرج» أو ساحة الشهداء، بأنك في القلب من وطنك، وليس فقط من عاصمتك.
ويفزعك مشهد الفراغ المدوي والذي استحدث ـ بالأمر والدولار ـ ليلغي الفسحة اليتيمة التي كان يتلاقى فيها أبناء البلاد جميعا، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن أقصى البقاع إلى أقصى الجبل، وبيروت هي القلب، وساحة البرج هي قلب القلب، تتسع لهم جميعاً، فيتعارفون ويتبادلون الأحاديث والهموم والطموحات وقد يغدون أصدقاء، يجلسون في المقاهي معاً، يدخلون المطاعم ـ وفيها الفخم والمتوسط والشعبي ـ معاً، يجوبون في الأسواق الضيقة و«المتخصصة» معاً: سوق القناز، سوق سرسق، سوق اياس، سوق الفرنج، سوق الطويلة، وحين يفرغون من «مصالحهم» يقصدون مواقف سيارات الأوتوبيس الملونة كي يرجعوا من حيث أتوا، سعداء بهذه الجولة في عاصمتهم ذات القلب الكبير الذي يتسع لجميعهم.
أخطر ما في كتابة رهيف فياض انها تكشف عن كاتب انيق اللغة، رقيق العبارة، يسري شيء من الشعر في صوره فتشف كلماته حتى لتغدو بعضا من الموسيقى. لذلك لم أستغرب ان يقدم محمد دكروب لكتاب رهيف فياض «من العمارة إلى المدينة» بمقدمة حاول ان يجاريه فيها بأسلوبه الشعري، فكتب يتساءل: «هل أقرأ أدبا إبداعياً أم أقرأ كتابة متقنة في أمور العمارة والعمران وكيفية تنظيم المدن والضواحي والبلدات والقرى؟».
ولا يغادر دكروب (الذي يحتاج اسمه إلى إعادة إعمار!!) الحقيقة حين يقول في أسلوب رهيف فياض في مقالاته:
«بنيان المقالة أقرب إلى القصة القصيرة، وقد يشابه الكتابة الروائية، حيث تتحول العمارة والساحة والمجال والشارع والطرقات الفرعية والحدائق في وجودها أو اضمحلالها… هذه البناءات كلها تتبدى في كتابة المعماري رهيف فياض كأنها شخصيات روائية».
ولأن رهيف فياض يرى بيروت «مدينته» كما مدينة كل مواطن، فهو يرثي ما آلت اليه حالتها في خطة إعادة إعمار ما هدمته الحرب فيها، وما أفسح في المجال لتحويل قلب المدينة إلى شركة استثمارية يهمها الربح لا الإنسان، والاستثمار المجزي لا أسباب حياة أهلها وسكانها… فقد «ضاع الحس الوطني بين المالك الكبير ومن لا يملك شيئاً، بين مستثمر جشع ومن لا يستطيع أن يؤمن قوت عياله. تم تدمير البيئة البحرية وعطلت وحدة الشاطئ… فلنترك مسارات عمران المدينة واستكمال هكذا عمران لاهواء المتمولين وشراسة البنيان المعولم… الجديد الذي يحجب الناس عن الناس ويحجب ناس المدينة عن الطبيعة ويحجب المدينة عن بحرها».
ولأن «الناس لا يسكنون المتاحف»، فإن رهيف فياض يعتبر ان «قلب المدينة قد تم ترميمه لا لنسكنه بل لاعطائه صفة مشهدية أفرغت من نسيجها الاجتماعي».
هكذا، فقد صارت بيروت «مدينة مفتتة، أبرز ما يظهر ما فيها تنافر أهلها الديني ـ الطائفي ـ المذهبي»، وصارت بيروت «خارج المقياس مقارنة بقياسات الوطن وبمساحته وعدد سكانه».
ويخاف رهيف فياض «النظافة التي تندلق من شبابيك المباني الموجودة في شارع المعرض وامتداداته، التي هي في الأصل كولونيالية يناهز عمرها ثمانين عاماً… والشبابيك في طوابقها العلوية الفارغة كأنما لننظر اليها لا لنسكن فيها».
من البديهي أن يلحظ رهيف فياض ان المدينة قد التهمت البلدات الريفية فغاب الريف بطابعه الخاص ولم تقم فيه مدينة، وان يستنتج ان بيروت قد غدت «دبي ثانية»، أملاكها لمن يدفع أكثر لا لمن أنجبته او سكنها فسكنته، ليخلص إلى القول: «يكتب التاريخ الزمن في المدن. وعلى مدننا التاريخية ان تدير مجالها، لكن عليها أيضا ان تدير تاريخها»، وإلى القول أيضا: «ان الشاطئ مجال وطني، أملاك عامة بامتياز».
الكتاب هو عبارة عن مجموعة مقالات ـ صرخات حاول بها رهيف فياض ان يحمي مدينتنا، لكنها ضاعت في الهواء، او انها تحولت إلى ما يشبه المراثي في مدينة كانت عاصمتنا وقلب وطننا وساحة نضالنا والشارع الوطني العربي والمكتبة والمطبعة والكتاب والصحيفة والمشفى والمقهى، فصارت بهجة الناظر إلى مدينة أفخم من أن تكون لناسها، الذين طردهم أهل الدولار إلى التلال القريبة التي كانت تزين بيروت فصارت بديلة منها وصار أهلها فيــها أشتــاتا متباعدة ينظرون إلى ما كان أملاكهم ـ بل مدينتــهم ـ بحسرة ثم ينصرفون حتى لا يقــولوا كــلاما قد يحـسب عليهم في السياسة فيحاسَبون عليه.

مقطع من حديث متصل مع غائب لا يغيب
على امتداد أسابيع، اليوم منها بدهر، كنا في الخارج، وكان في الداخل وبيننا شبح الموت يخطر فيرانا ونحس بأنفاسه فوق وجوهنا ومن حولنا يرانا ولا نراه، مع انه الأعظم حضوراً.
يمر بنا الأطباء متعجلين، يلتفتون ويتمتمون بأنصاف كلمات، وترتسم على وجوههم نتف من ابتسامات آلية، يعرفون انها لا تطمئن الملهوفين إلى كلمة تبث شيئا من الأمل، ولكنهم لا يملكون ان يعطوا أكثر منها. كيف يمكن ان تبلغ هؤلاء المتقلبين فوق أحزانهم، أن انتظارهم عبثي، وهم لا يملكون من حطام الرجاء الا انتظار المعجزة التي لا تجيء؟
يأتي الزائرون الذين عرفوا للتو. يُظهرون أساهم مشفوعاً بحقيقة انهم قد فوجئوا بالخبر. يتجنبون ذكر اسم المرض. يهربون من السؤال المباشر. يحتل الخوف المساحة البيضاء. تهرب العيون من العيون. يفتعل واحد حديثاً عن أي موضوع، كزحمة السير، تقلبات الطقس، الخلافات السياسية. ويجتهد آخرون في دفع الحديث بعيداً عن المكان والزمان.
هو وحده في الداخل. يأتيه الطبيب بين فينة وأخرى، يطمئن إلى عمل الأجهزة. يحاوره بالعينين، باليدين، بالابتسامة الباهتة. يشير إلى الممرضة فتهز رأسها دلالة أنها عرفت ما يريده. تطمئن إلى وضع الكمامة فوق الوجه. تراقب حركة التنفس. تبتسم له بود. تدير وجهها عنه إذا ما انتبهت إلى ان بعض ملامح الأسى قد ارتسمت فوقه. تعود إليه مقبلة تتقدمها ابتسامة عريضة. لو انها تستطيع أكثر لأعطت. هي تعرف انه يعرف. الأطباء أكثر صلابة. لقد اعتادوا مواجهة الموت. احترفوا مقارعته بعلمهم. أحيانا ينتصرون عليه، أو انهم يفترضون انهم قد انتصروا. لكنه كثيرا ما هزمهم وأرجعهم إلى أحجامهم: ماذا يملكون في مواجهة القدر؟ ولأنهم عايشوه طويلاً، وعاينوه وهو يقترب من مرضاهم فينتزعهم من بين أيديهم، ويتركهم غارقين في وحدتهم، يفكرون ويعيدون استعراض مراحل العلاج ليتثبتوا من انهم لم يخطئوا لا في التشخيص ولا في تحديد العلاج، لا في المتابعة، ولا في المراقبة، فإذا ما خلصوا إلى أنهم قد أدوا واجبهم كاملاً، لبست وجوههم ملامح الجد مختلطاً بالحزن، وتقدموا يشدون على أيدي أهل الفقيد، وتمتموا بكلمات الأسف، مشفوعة بالتأكيد ان كل ما يمكن تقديمه قد تم تقديمه، وأن هذا هو قدر الله، لا مفر منه ولا مهرب… و«البركة في الشباب».
لن يصبح الموت أليفا حتى لو جلست في أحضانه أياماً وأسابيع.
سيظل مخيفاً مهما كانت مقدماته منطقية. سيظل غامضا، بلا ملامح، جباراً عتيا، حتى وأنت تغالبه ويغالبك ويترك لك فرصة ان تتوهم انه قد جاء قليلاً ثم مضى.
يوماً بعد يوم، تهاوت الأشباح المخيفة المحيطة بالموت.
صار الموت شريكا في جلسات انتظاره، يسمع التعليقات حول انقضاضه فجأة، أحيانا، وحول تسلله بخفة الثعلب أحياناً، حول احاطته بالموجودين. ها هم كلهم في أحضانه، يحادثونه، يشكونه إلى ذاته، يتأففون، يضيقون به ذرعاً، ثم في لحظة أخرى يرونه رحيما… بل قد يطلبونه بالرجاء ان يأتي كي يريح مريضهم. يسقط الخوف تماماً. يصير الموت في مستوى الأمنية.
يبلغ الحب ذروته: تتمنى ان يأتي الموت ليريح هذا الذي تكاد تكون منه او يكاد يكون منك.
يصير الصمت لغة الحب الموؤود… وحين ينحب الصمت تهرب بعينيك إلى السماء فيهطل مطرها غزيراً من دون أن يشوش على حزنك الأبكم.
تنظر من حولك، تتأمل في وجوهه الباقية بعده، وقد غمرها إحساس ثقيل يختلط فيه الحزن بالزهو بجسامة المسؤولية: هم الآن في مواجهته تماماً. سيرافقهم حيثما ذهبوا. سيتقدمهم وسيكون عليهم دائماً ان يخوضوا الامتحان الصعب معه ليؤكدوا جدارتهم به. ولعل بعضهم سيندفع إلى الأبعد كي ينتصر عليه فيُفرحه.
اما حين تصل «الضيعة» الغارقة في حزنها على نخبتها التي تغيب بعدما جعلتها «اسم علم»، فلست تملك ما تعزي به أهلها غير أهلها.

فاطمة شرف الدين ترسم لأطفالنا التاريخ والجغرافيا بالعمة زيون
كلنا ضعفاء أمام أطفالنا. وكلنا نراوح ازاءهم بين حالتين: مرة نريدهم ان يكبروا في غمضة عين، كأن ننام ثم نصحو لنجدهم شبانا وصبايا يلونون حياتنا بالفرح والشعور بامتداد حياتنا فيهم، ومرة أخرى نحبهم صغاراً ظرفاء حتى حين يغضبون فيبكون ويملأون أفق البيت صراخاً، أو يضحكون لسبب لا نفهمه فتجلجل قهقهاتهم المغرية بتقليدها فإذا البيت يرقص بينما دموع الفرح تترقرق في عيون الأمهات والآباء.
ومخاطبة الأطفال هي اللغة الأصعب. تفترضهم سذّجاً فتفاجأ بأنهم أكثر ذكاء مما توقعت، وأحيانا تخطئ فتحادثهم كأنهم اندادك فينصرفون عنك ويتركونك تائها بين غضبك من عجزك وبين اكتشافك جهلك بطبائعهم قيد التكوين فتضحك من نفسك.
بين التجارب الناجحة لتضمين «قضية» في حكايات للأطفال، واحدة تخوضها فاطمة شرف الدين التي أنتجت عدداً من الكتيبات بنصوص تكاد تكون مباشرة في دلالاتها تاركة للرسوم شبه العفوية أن تؤكد المعنى، عبر قارئها الذي سيجد نفسه ملزماً إكمال النص.
«في مدينتي حرب» نجح الرسام توماس بروم في «تجسيم» الحكاية المهداة «إلى كل أطفال فلسطين. إلى كل أطفال العراق» (ويمكن هنا إضافة أطفال لبنان، لا سيما جنوبه، وأطفال مصر الذين لن يتاح لهم ان يعرفوا الحكاية إلا بعد حين).
ولأن الحرب تتبدى كقدر مفروض بالنسبة الى شعوب عربية عديدة، وهي دائماً حرب ظالمة، سواء أقام بها العدو الاسرائيلي أو الاحتلال الأميركي، أم تسبب فيها حاكم سفاح، فمن الضروري أن يُهيَّأ هذا الطفل العربي، ليس كي يقبل بحرب الاحتلال او حرب الدخيل الآتي بسلاحه والحماية الدولية كي يأخذ منا أرضنا ويجعلها دولته، بل ليتأكد فيه إحساسه بحقه في أرضه، تحفظه فيحفظها ولو بدمه.
في حكاية «العمة زيّون وشجرة الزيتون» التي رسمها سنان حلاق لنص فاطمة شرف الدين، وأصدرتها دار «اصالة» ـ دار النهضة العربية في بيروت مع مؤسسة تامر للتعليم الجامعي في رام الله، يتبدى الرمز، مرة أخرى، واضحا:
«عجوز تعيش في كوخ صغير على رأس الجبل يسميها أهالي الضيعة العمة زيون.
«على رأس الجبل شجرة زيتون كبيرة. عمرها ثلاثمئة عام. يسميها أهالي الضيعة الزيتونة». زيون والزيتونة رفيقتا عمر وشريكتا مصير.
أما كتيب «لو كنت طائرا» الذي نصُّه لفاطمة شرف الدين ورسومه لأمل كرزاي، فيروي قصة جدار الفصل العنصري الذي يبنيه العدو الاسرائيلي ليجعل من أهل الأرض الفلسطينية أسرى متباعدين بعضهم عن البعض الآخر، فترق اللغة بالشجن المختزن فيها حتى تكاد تكون شعرا:
«لو كنت طائراً لطرت فوق هذا الجدار لأصل إلى بيتنا. بيتنا على الجهة الأخرى من الجدار.
هناك بين القصص واحدة من خارج السياسة، مثل «ديك الجبل»، وقد كتبتها فاطمة شرف الدين ورسمها توماس بروم أيضا. وهي حكاية لطيفة تلامس الغرور والادعاء والعفوية وتلمح إلى ان الموهبة أخطر من «تصنيع» الشكل او الاعتماد على المظهر، وان كانت تعطي للدجاجات شرف تزكية الفائز من بين الديوك… ما قد يسبب نشوب الحرب بين الصبية والبنات، برغم ان أقدار الرجال غالبا ما تصنعها نساؤهم.
هناك أيضا اعادة صياغة لحكايات شعبية، مثل «البنت نونو» التي كتبتها فاطمة شرف الدين ورسمتها نادين صيداني وهي أول قصة من سلسلة القصص الشعبية اللبنانية، حكايات عمتي، وقد «أعيدت صياغتها وتقديمها بأسلوب بسيط ورسوم جذابة».
يمكن القول براحة ضمير انها تجربة ناجحة نتمنى لها ان تستمر وان يجري تطويرها وان يعزز استمرارها استقطاب المزيد من الكاتبات والرسامين، والأخطر: ان تجد الجهات القادرة على تمويلها ورعايتها بالشكل الأنيق الذي توفره دار «اصالة» و«دار النهضة العربية» و«اشراقات»، حتى لا يتكرر ما حصل مع التجربة الناجحة جدا لـ «دار الفتى العربي» التي قدمت بعض أفضل ما في مكتبة الطفل العربي، إذا جاز مثل هذا التوصيف، والتي توقف انتاجها لأسباب يختلط فيها السياسي مع الاقتصادي مع طغيان الهزيمة على تفكير من لم يكن جائزاً لهم ان يسقطوا حين كان السلاح في أيديهم، بعد.

مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ للحب كبرياؤه أيضا. كثير من العشاق يخسرون حبهم لأنهم يحجزون عاطفتهم خلف الخوف من النزول بها إلى حيــث لا يرضــى الحــب ان يقيم. فاحم كبرياء حبيبك بقلبك لا بغضــبك. الغضب خــصم عنـيد للحــب لأنه مثله ذروة الأنانية!

Exit mobile version