عن «كلّ النساء» التي ذابت في نجمة الصبح
البلدة صغيرة وأضيق من أن تتسع لحيوية المرأة التي تختصر النساء جميعا وحضورها الطاغي.
معها يصبح أي حفل زفاف بين فقيرين فرحاً مشاعاً لكل عابر سبيل يحمل نصيبه منه في وجدانه مختزناً النشوة لأيام الرماد، ومعها يكتسب الموت معناه كافتراق لا لقاء بعده إلا عبر لحن الشجن و«الأوف» الممدودة ببحة الدمع حتى الغرق فيه.
الكل يعرف أنها هناك، في بيتها العالي، المختلف في طراز بنائه وفي ارتفاعه عن سائر البيوت، ساهرة لا تنام، ولديها دائماً ضيوفها وانهماكاتها، لا تفاجئها صرخة ملتاعة تنذر بموت مفاجئ، ولا زغرودة تبشر بالاتفاق على موعد العرس بين حبيبين شاعت قصة غرامهما حتى باتت الخاتمة السعيدة بين الأمنيات.
هي لا تحتاج دعوة. ما ان تسمع «الصوت» حتى تبادر إلى أحد الثوبين الجاهزين دائماً: الجمال لا يحتاج إلى تصنيع، والطلة المشرقة تغني عن التزين، واللهفة تؤكد الانتماء الى المجموع، فالكل يجتمع فيها وقد أسقطوا الخصومات وتلاقوا معها وعبرها شركاء في الأفراح والأتراح.
هي «الأنس». هي مهجع حكايات حب ما قبل الزواج، وهي المرجع في الأنساب، تعرف منشأ التداخل وأسباب الافتراق، ومصدر العداوات الموروثة بين أبناء أخفى آباؤهم عنهم بعض الحقيقة فعاشوا أسرى أحقاد لا يعرفون منشأها أو المتسبب فيها.
الدنيا عيد… والعيد هو الموعد، فلتسبق حتى لا تفسد على الناس البهجة التي صارت تباع جاهزة في الدكاكين: أسلحة ومفرقعات للأطفال تزعج الأهل لكنها تساعد على إعداد جيل أو أجيال جديدة للحرب أو الحروب الأهلية المقبلة.
السياسة مفسدة، فلنعد إلى الموضوع: الخيار الأفضل أن تذوب في نجمة الصبح عشية العيد. ستخرج البلدة، حسب التقليد، إلى الجبانة، ليقرأ أهلها الفاتحة على من فقدوا، وهكذا يصل نعشها في الزحام فلا تكلف أحداً رحلة مع أحزانه الخاصة التي قد تفضح ما انطوت عليه الصدور… ولسوف تختصر في شخصها كل الذين غابوا وكانت فيهم دائمة الحضور.
[[[
سرى الخبر في البلدة، التي غدت الآن كبيرة وبأحياء عديدة ومتباعدة، بإيقاع الموسيقى الجنائزية: ماتت تلك التي لم نكن نتصور أن يقترب منها الموت. ماتت صناجة الضيعة. مات الفرح. مات الشجن. ماتت أم العرسان جميعاً، ماتت أم الحزانى جميعاً.. وانطفأ في السماء ضوءكان يؤنسنا.
طغى الحزن حتى جمع في أفيائه الأهالي كلهم، كباراً لهم ذكرياتهم المخبوءة في صدورهم كحافظة لشبابهم، وفتياناً كانوا يسمعون الحكايات مطعمة ببعض ما شهدوه مباشرة في مناسبات شاركتهم بحضورها الطاغي فيها، رجالاً هربوا بدموعهم من غيرة نسائهم المخبوءة، ونساء طالما خفن من سحرها الذي كان يسحب رجالهم إلى حيث تكون فيعودون منها بمزيج من الفرح والنشوة التي يتمنون لو انها امتدت وقتاً أطول.
ماتت «صناجة بلاد بعلبك». لمن يمد العريس كفه ليتحنى، بعد اليوم؟ قال من غدا الآن كهلاً: كنا نأتي في الليالي المظلمة نتلصص من حول بيتها الذي كان يتسع للكثير من الضيوف. ننتظر أن نسمعها تغني، أو تطلق نكاتها اللاذعة… وفي بعض الحالات كانت تلمح أطيافنا، أو تسمع وقع أقدامنا فتخرج إلى شرفتها العالية لتدعونا… وغالبا ما كان خجلنا يتحول الى أجنحة فنطير عائدين إلى بيوتنا، ونحن نتبادل اللوم على المغامرة البتراء التي كان يمكن أن تكتمل لو اننا كنا أكثر شجاعة.
قال كهل ثان: كان يأتيها الضيوف من قرى بعيدة. وكان آخرون يأتون بطلبها لإحياء أفراحهم، ولم يعرف عنها أنها تقاضت أجراً من أي منهم..
هز كهل ثالث رأسه وقد غطت وجهه ابتسامة عريضة قبل أن تتدفق ذكرياته نهراً: كانت الأظرف بين النساء، الأسرع بديهة، نكاتها لاذعة، فهي تعرفنا جميعا. تعرف الرجل منا، وتعرف الجبان الذي يغطي على خوفه بادعاءات كاذبة. فإذا ما تجرأ وروى في حضرتها بعضا من مغامراته المدعاة أمطرته بنكاتها الكاشفة حقيقته فانسحب لا يلوي على شيء.
قالت إحدى النساء: رحمها الله.. هي من زفتني إلى عريسي. كانت ولادة الفرح.
قالت امرأة أخرى: أخرنا موعد عرسنا أسبوعاً حتى عادت من رحلة لتفقد بعض أقاربها في بيروت. لم تكن تقصر في واجب مهما كان متعباً.. ولقد عوضت التأخير بأن جعلت العرس يمتد لثلاثة أيام بلياليها!
قالت العجوز: ما زال صوتها القوي يرن في أذني. كنا نتجمع لنبكي معاً حين تزف العريس بأنشودة يشدو بها الجميع لكنها منها مختلفة جداً، فهي تبكيك من الفرح: «عريّس، عريّس، مد الكف واتحنى…». لقد أبكتني مرات ومرات في أعراس أبنائي. كانت تبكينا فرحاً، وكانت تبكينا حزناً. كانت شريكتنا جميعاً في أفراحنا وأتراحنا. كانت الأم لمن فقد أمه، والثاكل لمن فقدت ولدها. كانت أم الضيعة وأختها وابنتها جميعا.
في جناح الرجال طغت أحاديث الذكريات الحميمة، فهي كانت تعرف كل شيء عن كل الناس. كان المحبون يستودعونها أسرارهم، والعاشقات يلذن بها للاستشارة، فإن لم يأتين ذهبت إليهن بالنصيحة أو الفتوى.
قال «المختار»: كانت العارفة. خزان أسرار الضيعة… وهي كانت أمينة على الأسرار، لا تكشفها ولا تلمح إليها، بل تسعى لطيها في الصدور حتى لا تكون فضيحة.
مشت البلدة في جنازتها بصمت. كان الطقس ممطراً فصحا. وكان العيد على الباب فأرجأ الناس استقباله ريثما يعودون من وداع هذه المرأة التي كانت النساء جميعاً، بل الضيعة جميعاً.
في طريق العودة من وداعها اكتشف الناس أن ضيعتهم قد فقدت بعض أَلقها.. وأنهم ازدادوا غربة، بعضهم عن البعض الآخر، فلقد كانوا يجتمعون فيها ومن حولها وكأنها الجدة والأم والأخت والابنة معاً… ثم انها «الكل»، عائلتها مجموع البلدة لا عائلة منها، وحبها كنور الشمس يغمر الجميع بالضياء.
قال عجوز كان يعد بين الرجال الرجال في جيله: لا تعرفون من فقدتم. لقد كانت النساء جميعاً، هي الغواية والأغنية والمغنى، هي الجمال جسداً وروحاً، صوتاً ودلالاً، هي الطرب والحزن معاً، هي المعشوقة السرية وعاشقة الحياة، هي الشعر تتذوقه وإن جهلت قواعد الصرف والنحو. هي الدلال والسحر الحلال. لطالما توهّم جيلي أنها امرأة كل الرجال، ثم اكتشفوا أنها ليست امرأة أي منهم. هي المرأة كلية الأنوثة، جسداً ورغبة ومرحاً، وهي الأشد محافظة حتى ان أحداً لم ير إلا كاحلها. هي المعشوقة التي لم تعشق أحداً، وإن توهم المراهقون والحالمون في يقظتهم أنها عشيقة كل منهم. ليرحمها الله… لن تعوضها كل نساء الأرض. إنه الخريف، إنه زمن الرحيل، ومن أسف أن ورقتها سقطت قبل أوراقي.
(تحية لخديجة التي غابت وهي التي كانت باهرة الحضور..)
الحياة مرّة ومستحيلة إلا بالشعر
فاتحة الديوان استشهاد بدموع الحلاج: أرسلت غزالاً نحو الشمس ومعها مباشرة شيء من شعره: يا نسيم الروح قولي للرشا / لم يزدني الورد إلا عطشاً. بعدها مباشرة يطلق محمد علي شمس الدين ديوانه الجديد «اليأس من الوردة» الذي تعلو فيه رنة إحساس مبالغ فيه بوطأة العمر. لعله بعض الوهن. لعله بعض حطام الآمال. لعله الخريف وكآبة الجو في القرية التي أحبها حتى سكنت شعره:
«أحس أنني أفقت من إغفاءة طويلة/ لأبصر الحياة فجأة في الموت
قصيرة هي الحياة/ مرة ومستحيلة/ كأنها منذورة لكي يعيشها سواك/ وأنت كي تموتها الحياة».
ولان مناخ الإحساس بثقل السنوات على الشاعر، والشعراء لا يشيخون، يهيمن على الجو النفسي لصاحب «الاسم الأكثر وعداً في آخر ما كتب من الشعر اللبناني الحديث»، على حد ما قال بدرو مارتنيز مونتابث في مقدمته لديوان «من قصائد مهربة الى حبيبتي آسيا» فإن ذكر الموت يتردد في العديد من المواقع في الديوان الجديد الذي صدر كملحق للجزء الثاني من الاعمال الكاملة.
«هب شتاء عاصف/ ورأيت بأرض حديقتنا شبحا يمشي/ فخرجت فلم أبصر إلا نعشي/ والموت كذلك يسعى نحو مشاغله».
وكما أرسل الحلاج غزالاً فقد فعل محمد علي شمس الدين مع غزاله، ولكن بمهمة أخرى:
«أرسلت غزالاً نحو الشمس لينطحها/ وأسلت بكائي في القصب
ليس نبيذاً ما يعصره العصارون/ ولكن فيض دمي في العنب»
وفي مناخ الحلاج دائماً فإن محمد علي شمس الدين يعلي دموعه كي يبصرها الله ويعيد إليه الامطار: فلتنشر غيمك حيث تشاء/ فإن الغوث يعود إليك/ والحزن يعود إلي».
وهو يضع نفسه، في حالة انتظار العشق، دائماً: يكفي أن ترسل في طلبي/ نسمة صيف فأوافيك/ وتحرك أوتار الموسيقى لأموت وأحيا فيك/ هذا ألمي/ هذا ألمي/ خفف من وقع جمالك فوق فمي.
والحياة أعظم من أن تأكلها الدودة العمياء. والجميل مكهرب بالأسلاك يبحث في شعرك عنك في عربصاليم التي صححت لنا نطقها فجعلتها «عربصالين».
«وما مر يا صاحبي/ على النبع من طفلة أو غزال/ لم يكن غير هذا الجمال الذي رنا/ يوماً على الغمر ثم ابتعد».
محمد علي شمس الدين، يا الأغنية الجنوبية المنشية لتكن لك مع الدواوين الجديدة حياة «مرة ومستحيلة» ولكنك تجعلها أبهى اذا ما نزعت عن الوردة شوك اليأس.. حتى لو كان بين منابع الشعر.
أحمد سويد يستعيد شبابه شعراً
ربما بسبب اليأس من الحاضر، أو ربما برغبة في الانتصار على اليأس، عاد أحمد سويد إلى دفاتر شبابه أيام النضال والآمال العراض في توحيد الأمة وبناء غدها الأفضل، فانتقى بعض قصائد الحماسة والغزل ورصفها جنباً إلى جنب مع خواطر عن الحاضر وأصدرها تحت عنوان يدل على طبيعتها: «دندنات ورعود»..
في المقدمة يقول في ما يشبه الاعتذار: «بين الدفتين لهاث حار سمّه إن شئت شعرا، سمّه نصوصاً من النثر الشعري أو الشعر المنثور، سمّه نماذج من النثر الجميل، وسمّه إن شئت هلوسة أو لزوم ما لا يلزم. ولا تنسَ أن محمود درويش نقل عن أبو حيان التوحيدي قوله: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم».
لنقل إنها «دندنات بصوت عال»، فيها الترنيمة والاغنية، والوطنيات، والغزليات، ونداءات العروبة في زمن الجهاد النفطي: فيها نفثات الشاب ابن كفرحمام، أحد حصون العرقوب بتاريخه الناصع في المقاومة ما بين الثورة السورية والجهد لتحرير فلسطين وصولاً الى الانتصار بالمقاومة في لبنان في أيار 2000 ثم بالصمود البطولي أمام الحرب الاسرائيلية في تموز 2006.
في أولى القصائد وقد نظمها في العام 1945: تبرج الوادي، وما متعت بالوادي، وغنت السواقي ولم أغنّ مع السواقي»…
أما في 1947 فقد توجه إلى «ابن حرمون» الذي يبدأ في سوريا ويمتد في لبنان لينتهي عند بحيرة طبريا في فلسطين، فقال: قالت عرافة الحب: كفارة الغيرة ضجعة للعاشقين/ على ضجة الخافق وتشابك الأيدي وجفلة النهدين.
وحين سجن الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، أيام الحكم الملكي في بغداد، خاطبه قائلا: «وغدا يبسم الفجر/ ويطرف النور عين سجانك/ وغدا يومئ النصر/ ويدكّ أسوار البغي نبل غفرانك/ هابك الفجّار حفارو القبول/ لأنهم صانعو ظلام وأنت صانع نور».
بين أواخر نظم هذا «المجاهد»، بلغة أيام المواجهات مع العدو في الخارج والخصوم في الداخل «تحية من بهية» يقول فيها: «لم تبق في الجرة شربة ما ء يا بهية/ لعقتها الفانتوم وهي ترعد هذي العشية/ وفي عقدة المنديل حطت بقايا شظية/ يا طائر الوروار عرج على الدار/ وفي عقدة المنديل أغرز بقايا شظية/ يا سادة الهوان المضمخ بالطيب/ هذي التحية من بهية/ من أخت لكم تغسل وحدها عاركم وتصد عنكم زحف الهمجية».
لتكن لك الصحة يا شاعر العرقوب.
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب الزمان. والحب المكان. لمسة، نظرة، ابتسامة، مصافحة تشعل حريقاً ولو كان اللقاء مصادفة وفي تقاطع بين طريقين.
أجمل الحرائق تلك التي لا يطفئها إلا الضياع بين الطريقين وكل يبحث عن الآخر داخله.