نجاح طاهر ترسم «الهجر»: يا حادي العيس سلم لي على..
هو كتاب فريد في بابه شكلا وموضوعاً: انه ثلاثة كتب في واحد، يربط بينها ما يربط بين «الهجر» و«التيه»، والرابط هنا ريشة يسكنها الشعر.
أما في الشكل، فإن دار الآداب قد خرجت على المألوف، إذ هي أصدرت الكتاب الجديد بطريقة غير عادية: فالغلاف الأول تزركشه رسوم مستوحاة من سيرة الهجر، وبطلته المفترضة بعيون من كرز. أما الغلاف الثاني فتتصدره صورة الاسكافي بطل «المتاهة» للكاتب عبد المنعم رمضان، وتُرك هامشه لبعض سطور المخطوطة مقلوبة، ربما لتؤكد المتاهة.
هنا رحلة سريعة بين «الهجر» و«المتاهة»، وهما «سيرتان تجاورتا ليس فقط لأنهما تخشيان الوحدة، لكن لأن بينهما إمكان ان تظلا بعيدتين، كأن احداهما شرق الروح، والأخرى عزبها».
لسيرة «الهجر» راوية تزين صورتها الصفحات في أكثر من موضع، وإن حلت الكاتبة محل «عمتها» لتسرد مضامين الرموز وتشرح ما تومئ إليه الجمل المقتضبة، تاركة لريشتها ان تعبر عما لا تبوح به الكلمات.
فأما سيرة «الهجر» فقد كتبتها تلك الريشة التي يسكنها الشعر لتقدم من سيرة جدها لأمها بعضاً من صفحات التاريخ (العربي عموما، واللبناني خصوصا) الذي يستعصي على النوم في مهجع الذكريات.
إنها، في جانب، بعض سيرة جبل عامل مع الكيان اللبناني، أو سيرة آل الأسعد مع الثورة العربية، وضمنها المواجهات مع الاستعمار الفرنسي الذي ورث العثمانيين، أو هي سيرة الخداع الغربي للعرب وثورتهم الكبرى التي لم تنجب مملكة في بلاد الشام، كما توهموا للوهلة الأولى، بل إنها انتهت بكوارث عدة: تقسيم سوريا دويلات، بعد «طرد» الملك فيصل الأول والحكومة العربية، وضم الأقضية الأربعة الى المتصرفية لاستيلاد «لبنان الكبير»، فضلا عن وعد بلفور الذي اقطع فلسطين للحركة الصهيونية كي تقيم فوقها، وعلى حساب شعبها، دولة اسرائيل!
سيرة «الهجر» هي مشاهدات طفلة ترى ما خلف المشهد لمرحلة انقضت قبل ان يكتمل وعيها، فلما استعادتها رأتها فكتبتها بعقل تحليلي تقوده عينان لا تغفلان عن أي تفصيل في اللوحة بألوانها التي تمتد من سواد عاشوراء الى ألوان قوس قزح، في تظاهرات الفلاحين تأييدا لسيد دارة الطيبة كامل الأسعد (الكبير).
كيف استطاعت هذه التي تقرأ الحياة ثم تكتبها باللون، أن تربط بين الخاص والعام، بين التفاصيل العائلية لدار الزعامة والتطورات السياسية في البلاد، مقدمة ـ بغير تكلف او ادعاء ـ تفسيرا للمفارقة التي عاشها العرب بين طموحاتهم السياسية المثقلة بتخلفهم سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وبين واقع عجزهم أمام الغرب الذي تمكن من خداعهم لانه كان «يعرفهم» من الداخل، في حين لم يكونوا يعرفون عنه وعن مشروعه للهيمنة على بلادهم شيئا… فجربوا الاستعانة بالبريطانيين على الفرنسيين وبالعكس، وبالأميركيين على القوتين المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى، فكانوا، فعلا، كالمستجير من الرمضاء بالنار؟!
لقد أعادت نجاح طاهر، ربما من حيث لا تقصد، الاعتبار الى الجانب الوطني ـ العربي من تاريخ آل الأسعد، بدءا من «كامل الكبير» الذي ولد في الطيبة سنة 1870، حتى انطفاء «الحركات» الثورية بالفتنة الطائفية… فكانت حركة أدهم خنجر وصادق الحمزة خط الدفاع الأخير حيث واجهت المستعمر الفرنسي الجديد بحرب عصابات، رد عليها بفتنة طائفية حتى «سادت الفوضى واختل الأمن وتعطلت المصالح»، على حد ما جاء في مذكرات الشيخ أحمد رضا.
÷ الوائليون: الماضي وغربة الحاضر
تستعيد نجاح طاهر فصول تاريخ الوائليين في لبنان: فهي عشيرة جاءت إلى جبل عامل من بادية نجد في زمن صلاح الدين الأيوبي، أي في أوائل القرن الثالث عشر. الجد الأكبر محمد بن هزاع الوائلي القحطاني من رؤساء قبائل عنزة، وهو أول من جاء الى بلاد بشارة، والأمير عليها يومئذ بشارة بن مقبل القحطاني. لكن وحدة النسب لم تمنع الصراع على السلطة، فساق محمد بن هزاع حربا على القحطاني انتهت بفوزه، فاستولى على البلاد وحكمها وتزوج بابنة خصمه بشارة، وبقي أميرا عليها طوال حياته، وخلفه ابناؤه وأبناء أبنائه… حتى جاء زمن كامل الأسعد الذي آلت اليه الزعامة عن ابيه خليل، متصرف لواء البلقاء (نابلس) إبان الحكم العثماني. وقد تخرج كامل من المكتب الملكي الإعدادي في بيروت (المدرسة السلطانية) برئاسة الشيخ محمد عبده. وعمل مديرا للنبطية ثم استقال. وانتخب عضوا في المجلس العمومي في بيروت، ثم عضوا في «مجلس المبعوثان»/ مجلس الأمة العثماني، وأحرز رتبة «سعادتلو» في عصر السلطان عبد الحميد.
كامل بيك الكبير يختصر هنا الوائليين، ليس كزعيم يمشي في ركابه ستمئة رجل ويعلو صوت النفير متى رأوه خارجا من باب دائرة الطيبة، ويرفع البيرق، فإذا كان ذاهبا الى الصيد تقدمه ستون كلب صيد، إنما كرجل ليس كالرجال، وإن ظللت حياته غصة عدم إنجابه الصبيان:
«في عمرة الطيبة، مريم العبد الله لم تنجب الا بنتيها، جدتي فاطمة وأختها خديجة. وكامل ضاق ذرعاً بهن وبأصواتهن.
«كن كالسجينات في ما يسمى غرفة البنات. وما أدراك ما غرفة البنات. كانت غرفة في وسط الدار وجدرانها الأربعة لم يكن فيها حتى نافذة واحدة.
«كان كل شيء ممنوعاً. ممنوع خروجهن من العَمرة، ممنوع نشر ملابسهن المغسولة في أماكن مكشوفة. ممنوع ان يراهن أحد من نافذة ما. حتى اصواتهن كان ممنوعا ان تصل خارج الغرفة.
«في حادثة يذكرها الجميع: خرجت ضحكة مكتومة. ضحكة واحدة، هكذا، بالغلط! فغرقت العمرة في صمت خانق».
هل قصدت نجاح طاهر ان تقدم، بغير خطابة وعبر الوقائع اليومية، تجسيما للمفارقة التي كان يعيشها الوطنيون، انصار الثورة العربية ثم المملكة، بين مطالبتهم الصادقة بالاستقلال والوحدة، وتخلفهم الاجتماعي والثقافي، وبالتالي السياسي، الذي يجعل تحركهم الاعتراضي على الاستعمار الجديد أقرب الى الهبّات المرتجلة ذات الطابع الشعبي منها الى الحركة السياسية، ذات البرنامج الواضح وذات التحالفات الواضحة، وذات الأفق المفتوح على متغيرات الواقع الدولي في تلك المرحلة؟
÷ دخلك يا حادي الركبان..
مع خيبة الأمل من الحلفاء (الفرنسيين والبريطانيين) بزغ نجم الاميركيين عبر لجنة غراي ـ كينغ (سنة 1918) التي أرسلها الرئيس الاميركي ولسن لسؤال اللبنانيين عن مطامحهم السياسية. ولقد أرسلت اللجنة وفودا الى ما يقارب 36 مدينة و1520 قرية، وتلقت حوالى 1863 عريضة… وقد استقر وفدها لاستفتاء اهل جبل عامل في بلدية صيدا. وكان نص العريضة التي وقعها وجهاء جبل عامل واعيانه: «لا نرضى بغير استقلال سوريا التام الناجز بحدودها الطبيعية التي تضم قسمها الجنوبي (فلسطين) والغربي (لبنان) وكل ما يعرف ببر الشام، دون حماية او وصاية، تحت لواء الملك فيصل الاول».
قُدمت العريضة الى مؤتمر الصلح في باريس… لكن ما كتبه الاستعمار كان قد كُتب!
ورداً على التحرك الشعبي المقاوم للاحتلال، دبر الفرنسيون فتنة ذات طابع طائفي ذهب ضحيتها العشرات من المسيحيين في بعض بلدات الجنوب… وعلى اثرها شن الكولونيل نيجر حملة انتقامية في 11/5/1920 دامت شهورا وأُزهقت فيها نفوس ونهبت اموال وقطعت السابلة، وهي استمرت حتى 5 حزيران في الطيبة بعد ان أحرقت بلدات عدة منها بنت جبيل وتبنين.
أضحت العمرة جربة مهجورة في مهب الريح، بعدما ذهب الرجال على الخيل ومعهم بنادقهم، وبعد أيام تبعتهم النساء على الجمال في الهوادج.
وقد أرخ الشيخ محمد نجيب مروة لتلك المحنة الوطنية بشعر عامي ناطق:
«دخلك يا حادي الركبان
عرج عاجبل عامل
وان جزت بهاك البلدان
سلم عالبيك الكامل
سلم عامير العربان
هللي من بلد وائل
قل له يا شيخ الاعيان
ليش بلادك محترقة»!
في 24 تموز 1920 هُزم الملك فيصل وطُرد من دمشق، وخرج كامل بيك ايضا منها مع رجال فيصل. وقبيل دخول الجيش الفرنسي، في 1/9/1920 اعلن الجنرال غورو قيام «دولة لبنان الكبير» وقد ضم جبل عامل اليها.
[[[
«ربما كنت في الخامسة من عمري حينها. طفلة تمرض كثيرا. رأسي يشتعل بالحمى وأنا أرقد في فراشي في الغرفة الخاوية المغلقة. ظلال شقة الشمس على الجدار تشي بان الوقت كان قبل ظهر ما. كان رأسي ملقى على المخدة بإعياء شديد وعيناي الملتهبتان تحدقان إلى الجدار على الجهة اليسرى من السرير.
«فجأة بدأوا بالظهور: الجمل الاول يمشي الهوينا. أسمع حفيف أخفافه على الأرض، ثم الثاني والثالث، والهوادج على ظهور الجمال تتمايل مع دعساتها. هل كنت اسمع صوت حداء حزين: يا حادي العيس سلم لي على…
«وكلما ابتعدت الجمال ازداد الشجن في الصوت. ماذا كن يردن ان يقلن لي؟ توكأت بإعياء على يدي اليسرى، وباليمنى أخذت قلما من مقلمتي وحددت ظلال الجمال على الجدار. كنت أريد ان تتوقف وتبقى معي، لكنها تابعت السفر».
÷ الغول… ومؤتمر الحجير
يوم السبت في 24 نيسان عقد مؤتمر الحجير بدعوة من كامل الأسعد، وشارك فيه عدد من المفكرين والعلماء والأعيان ورجال الدين من جبل عامل. وحضره صادق الحمزة وأدهم خنجر الذي استقبل بالهتاف: يهنيك يا بيك الخليل/ صادق ابو محمد لفا.
أقسم ويده اليمنى على صفحات القرآن الكريم ألا يتعرض لأي مواطن، مسلما كان ام مسيحيا، اذا لم يكن يتعامل مع الفرنسيين، لأن جهاده سياسي وليس طائفياً. ثم تقدم كامل من صادق وأهدى اليه سيفه اعجابا بشجاعته قائلا:
هذا السيف لا يليق بابن سعدى، بل بابن خديجة!
في ذلك المؤتمر خطب العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين فقال ضمن ما قاله: «فوّتوا على الدخيل الغاصب، برباطة الجأش، فرصته واخمدوا بالصبر الجميل فتنة، فإنه، والله أعلم، ما سلح فريقا على آخر إلا ليثير الفتنة الطائفية ويشعل الحرب الأهلية حتى اذا صدق زعمه وتحقق حلمه استقر في البلاد بحجة حماية الاقليات.. ألا وإن النصارى اخوانكم في الله وفي الدين وفي المصير، فأحبوا لهم ما تحبونه لأنفسكم».
[[[
«الغول كان اختطف البنت الصغيرة وسجنها في منزله.
«الحكاية وأمي كانتا تحاولان تحذير البنت الصغيرة من النوايا المبيتة:
الغول عم يسمنك تا ياكلك. لكن البنت لغبائها وحماستها كانت تنسى ان تحترس من الغول. وتنتهي الحكاية بأن يأكل الغول البنت الصغيرة».
[[[
«كامل الكبير كان لا يزال مصراً على الوريث الذكر، فتزوج للمرة الثالثة من سكنة التامر. ولقد قُتل أخوها في احدى المواجهات. وحين جاءها كامل بالخبر المشؤوم اسبلت جفنيها وقالت باستحياء: فدا رجلك يا سيدي!
اشمأز من جوابها فطلقها!».
[[[
«بقيت بنت الباشا، الزوجة الثانية، هي الأثيرة في العمرة. كانت يداها جميلتين بأصابعهما الطويلة. وكانت تمضي معظم أوقات فراغها متطلعة من النافذة بمنظار صغير أصفر، أصفر نحاسي».
[[[
«تزوج كامل (بيك) زيجته الثانية من فاطمة بنت ناصيف باشا الأسعد. كان لقبها بنت الباشا.
«أحبها، تقول عمتي باستسلام. كانت جميلة جداً وتعرف كيف تسايسه.
كانت دائما في كامل زينتها وقد كحلت عينيها السوداوين ووضعت العصبة السوداء على جبينها الأبيض. وقد تدلت منها على طول عرض الجانبين خصلات شعر سوداء معقوصة على شكل عقارب. وقد امتلأت جدائلها بالليرات الذهبية.
بنت الباشا لم تنجب ذكورا ولا اناثا».
[[[
ما زالت الطفلة داخل نجاح طاهر تتناوم أحيانا، حتى لا يلمحها الفضوليون. وكثيرا ما تطل من عينيها، من كلماتها، من ايماءاتها.
لكن نجاح طاهر تملك من الذكاء ما يكفي لتوظيف الطفلة فترسم بأصابعها الرقيقة وعبر التماعة «الشيطنة» في عينيها. ان لوحاتها تشي برهافة الحس الى جانب الثقافة والظرف والميل النقدي الذي يغني الموهبة ويحولها الى ابداعات.
.. والطفلة في نجاح طاهر هي التي تقصدت تمويه صلات القربى والنسب في كتابها الذي جنح الى التأريخ بقصد مقصود، واختار مرحلة بالذات لم تعشها الكاتبة، وان كانت سمعت رواتها الاقربين يحدثونها عنها بكثير من الفخر والتحسر على ما كان.
الاهداء وحده يشير الى «أميرة» عصر البكوات..
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ كيف السبيل إلى انقاذ الحب والمحبين من مطربي الطبول الذين يفسدون علينا الحب بأغانيهم الرديئة، مبنى ومعنى؟
حتى العامة ممن لا يعرفون القراءة والكتابة، يتذوقون الغناء بقلوبــهم وعيــونهم قبــل آذانــهم، ويحفظون قصائد الحب ويرددونها كي يصلوا بالحب الى ذروته.
الحب أرقى من المحبين… فكيف بمن لم يعرفوا الحب إلا عبر الطبل؟