«النسر الأزرق» عثمان العائدي يجدد التاريخ بالماء!
ـ أنا عثمان العائدي. لم نلتق من قبل، وهذا تقصير مني، ولقد عرفت الآن انك نزيل في فندقك هذا، رويال مونسو، فأردت أن أرحب بك.. ثق بأننا سنكون اصدقاء، فأنا أعرف ما يكفي عن «السفير» ودورها القومي، ولسوف تعرف عني ما يجعلنا قريبين.
بغتتني المفاجأة، ولكنني سرعان ما وجدتني أشد على يدي هذا الدمشقي العريق الذي لازمه النجاح في مختلف اقتحاماته المتعددة الجبهات، داخل سوريا وعلى امتداد مساحتها، وفي لبنان وعبره، وفي الأردن وبعض الخليج، لتبقى درة إنجازاته في فرنسا، سلسلة الفنادق التي أثار تملكها اكثر من «حرب» سياسية لا يمكن فصلها عن المواجهات مع اسرائيل في ميادين القتال.
كنت قد سمعت الكثير عن هذا «النسر الأزرق»، من زملاء صحافيين كبار، شاركهم أو رغبوا في شراكته، (جورج ابو عضل، غسان تويني، سليم اللوزي، نبيل خوري، سعيد فريحة الخ)، وكذلك من سياسيين كبار لعبوا أدوارا لا تنسى في تاريخ لبنان الحديث واستطرادا في العلاقات بين سوريا ولبنان التي كانت تقارب أحيانا حدود التكامل ثم تهوي أحيانا أخرى الى حافة الحرب. وبين صداقاته المميزة تلك التي ربطته مع الرئيس سليمان فرنجية فقرر منحه الجنسية اللبنانية وكذلك مع اركان غرفة التجارة والصناعة وقد ضموه اليهم فيها استثنائيا. بل انه قد مارس الصحافة في لبنان لفترة كرئيس لمجلس الادارة في مجلتي الاسبوع العربي والماغازين، قبل ان تخرجه الحرب الاهلية منها ومن لبنان ليتجه إلى العمل المصرفي.. مع شركاء لبنانيين وسوريين من دون ان يصرفه هذا كله عن مواصلة عمله الدؤوب في بناء السدود، في سوريا، مع التنبه لحماية المواقع الاثرية، ثم الاندفاع الى تزيين سوريا، داخلا وجبلا، وساحلا بمجموعة من فنادق الدرجة الأولى تؤهلها لان تحتل موقعاً متقدما على خريطة السياحة الدولية.
تكررت اللقاءات في باريس وفي دمشق، وأقل في بيروت. وكنت أخرج من كل لقاء وأنا اكثر اعجابا بهذا الرجل المتفجر طاقة، برغم هدوئه اللافت.. وزادت الاتصالات الهاتفية المعوضة عن مواعيد التلاقي مع هذا «النسر الأزرق»، وفي كل اتصال أسمع منه عن معركة رابحة، داخل فرنسا، او عن انجاز سياحي على مستوى توثيق العلاقات العربية ـ العربية سياحيا في غياب القدرة او الارادة على تمتينها سياسياً.
شيء من التاريخ
بعد حين تفجرت أزمة ملكية فندق رويال مونسو، الذي غدا بإدارة عثمان العائدي شبكة من الفنادق بينها فندق فرنيه، في باريس ومنتجع ميرامار كروستي في مقاطعة بريتانيا المطلة على الاطلسي، ثم اليزيه بالاس في الكوت دازور.
… وعثمان العائدي كان قد عاش جزءا من حياته في رويال مونصو، الذي نزل فيه اول مرة في العام 1952، بينما أخوه يقضي شهر العسل فيه.
كانت عائلة بيار بريمون تملك هذا الفندق الأنيق القائم قريبا من قوس النصر، والمطل على شارع هوش، في قلب باريس.. ولاسباب تخصها عرضت العائلة على عثمان العائدي، الذي كان قد بات صديقاً لها، ان يشتري الفندق ليخلصها من ازمة مالية تعرضت لها. ولقد أقدم على الصفقة مستعيناً على اتمامها بشركاء ثلاثة هم: لوسيان دحداح، وجوزف عبده الخوري وموفق الميداني، وكان ذلك في 7/3/1977.
وجن جنون اسرائيل! ففي واحدة من ردهات هذا الفندق، تم اعلان قيام دولة اسرائيل، يوم 14 أيار 1947، وبحضور غولدا مائير وبن غوريون. كانت الصالة تعرف باسم لويس السادس عشر، وهي تحولت الى مطعم كرباشيو، بعد ان تملك عثمان العائدي الفندق. ولأسباب متعددة خرج الشركاء دحداح والخوري والميداني وصار «النسر الأزرق» المالك الوحيد، وبالتالي بات يواجه العاصفة الاسرائيلية وحده. وانفتحت ابواب جهنم امام هذا «الوافد» ابن العائلة الدمشقية العريقة التي يمتد نسبها الى قحطان والى فخذ جذام بالتحديد…
فالجد الأعلى جاء في جيش الفتح تحت قيادة عمرو بن العاص، الى مصر.. اما جده المباشر شيخ العرب ابراهيم العائدي فقد قاوم مع اولاده احتلال نابليون مصر في بداية القرن التاسع عشر، ثم تولى ابنه محمد ومن بعده ابنه عثمان قيادة احدى الفرق في جيش محمد علي باشا الكبير، وهي بين الفرق التي قاتلت السلطنة العثمانية، فلما هزم الغرب الذي هب لمساعدة السلطان، الجيش المصري وانسحب ابراهيم باشا تخلف عنه محمد العائدي واستقر في دمشق حتى بلغ من العمر مئة وسبعة واربعين عاماً وتزوج وأنجب اولاداً كثرا.
هو ابن عائلة احترفت السبق الى الانجاز، لا سيما في المجالات العلمية والتعليم. فالأب منيف طبيب الأمراض الداخلية والأطفال، وأحد مؤسسي المعهد الطبي العربي في دمشق، والذي اصبح في ما بعد كلية الطب في جامعة دمشق، وهو اول من درّس الطب باللغة العربية. كذلك فهو منشئ اول مدرسة خاصة للذكور تعلم بالعربية واول مدرسة للاناث تعلم اللغات الاجنبية (1931). وألّف مع اصدقائه جمعية الاصلاح الوطني (1913) وكان بين اعضائها عبد الرحمن الشهبندر، الامير عارف الشهابي، فخري البارودي، كامل القصاب، محمد كرد علي، عبد الغني العسلي…
ولقد تزوج منيف ابنة سعدو الشيشكلي، زعيم الأسرة في حماه، والنائب في «المبعوثان».
من السدود إلى الفنادق
ذلك زمن آخر، كانت «العائلات» تتقدم صف النضال الوطني من اجل اجلاء المستعمر، ثم كان افرادها طليعة من اندفع متطوعاً لنصرة الاشقاء في فلسطين في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي.
ما علينا، لنعد إلى «النسر الطائر» عثمان العائدي..
لقد درس في البوليتكنيك في فرنسا، وتخصص في غرينوبل في الهندسة المائية وتخرج في العام 1952. وكانت أطروحته حول «الناشر القصير الدوراني» وتخرج مهندساً اختصاصياً في السدود والعلوم المائية. ثم التحق بالسوربون ليتخرج حاملا لقب دكتوراه دولة في الهندسة العامة بمرتبة الشرف مع الامتياز 1955، وقد نشرتها وزارة الطيران الفرنسية 1966.
وحين عاد إلى دمشق تم تعيينه مديرا للشؤون الفنية في مؤسسة المشاريع الكبرى، التي كانت قد باشرت في العمل في مشروع الغاب، تمهيدا لبناء سد الرستن وسد محرده على نهر العاصي. ولقد عينه جمال عبد الناصر، بعد قيام دولة الوحدة، عضواً في المجلس الأعلى للعلوم، وفي اللجنة العليا للسدود والقناطر الكبرى والري والصرف، وفي لجنة التخطيط والطاقة والوقود.
من خلال المتابعة يأخذك التوهم الى الافتراض ان عثمان العائدي اكثر من واحد. فهو في باريس، اياما، وفي دمشق يومين، وفي حلب مدرّسا في جامعتها بعض اليوم، وفي جامعة دمشق ليومين.
ومن خلال الوقائع يمكنك القول انه مساهم كبير في بناء القطاع الفندقي في سوريا، فله حيثما توجهت انجاز: فندق الشام في دمشق، ثم سلسلة الفنادق المنتشرة من تدمر إلى الشاطئ الأزرق في اللاذقية، ومن شهباء حلب إلى صافيتا، ومن حماه إلى بصرى… وهو كان قد بدأ نشاطه السياحي بإنجاز فندق ميريديان (وهي شركة تابعة لشركة الطيران الفرنسية)، بأن أقام جسرا جويا بين فرنسا ودمشق لنقل التجهيزات والفنيين لينتهي العمل فيه قبيل افتتاح موعد الدورة الرياضية العربية. ولقد سدد المستحقات عن الدولة لاكمال ميريديان في كل من اللاذقية وتدمر.
في الزنزانة الرقم 10 مرتين
عاد عثمان العائدي من فرنسا إلى سوريا على دراجة، فتجول في فرنسا وايطاليا واسبانيا، وعبر جبل طارق الى المغرب فالجزائر فتونس وليبيا الى مصر.
وبرغم كل ما ناله من أذى، عبر اتهامات ظالمة، قادته إلى السجن مرتين، فإن عثمان العائدي لم يترك سوريا، وان كان قد طلب عند اعتقاله للمرة الثانية ان ينزلوه في الزنزانة نفسها، الرقم 10، في معتقل الشيخ حسن في المزة، لأنه «اعتاد عليها».
ولقد ربطته علاقة وثيقة مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي خصه بمقابلات عديدة، واستمع منه إلى رؤيته لما يمكن ان تحققه سوريا في المجال السياحي، خاصة، وعلى الصعيد الاقتصادي عموماً. وفي أكثر من مرة استدعاه الى اللاذقية حيث كان يجلس اليه ساعات يستمع فيها إلى أحلامه التي نجح في تحقيق العديد منها.
ولأنه من المستحيل ان نكتب عن هذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بحياد بارد، فقد جاء كتاب «المهندس الدكتور عثمان العائدي»، للسيدة نضال بهجت صدقي تحية ود، اكثر منه دراسة جامعية معمقة وموثقة، مفترضة ـ عن حق ـ ان «نشاطاته المبدعة ملهمة لشباب اليوم، وهمته الباهرة قدوة لأجيال المستقبل».
لكن السيرة الشخصية لعثمان العائدي تطرح اسئلة جدية، منها:
هل ترانا ظلمنا تلك الفئة الاجتماعية التي كانت تتصدر بعائلاتها ذات الوجاهة المسرح السياسي؟! هل أخذنا الصالح بالطالح وأغفلنا دورها في بناء المؤسسات، وفي الاهتمام بالجانب الثقافي ـ العمراني، وبالتحديد في مجالات الأدب والفن وحماية التراث العمراني، وقبل ذلك وبعده: حماية كل ما له علاقة بالتاريخ والوجدان والسيرة الذاتية للوطن وأهله؟
هل أصدرنا أحكاما سياسية ظالمة بتسرعها على من اعطوا بلادهم نور العيون، ثم استهلكتهم لعبة السلطة، وقد كانوا شركاء فيها، لا سيما بعد ان دخلها «العسكر» فأعاد صياغتها بما يناسب تطلعاته؟
كائنا ما كان الأمر، ومهما كانت اخطاء هذه «الطبقة»، فلا شك في انها أعطت اوطانها الكثير، قبل ان يضيعها الصراع على السلطة الذي كثيرا ما ضيع الأوطان ذاتها متباهياً بأنه قد استنقذ السلطة التي هي ـ في رأيه ـ اهم من الأوطان!
عثمان العائدي أدرك بحسه السليم، ان لا شأن له بالسلطة، ولذلك فإن كل ما أعطاه قد ذهب خالصا الى وطنه… وهكذا فهو قد أضاف الى رصيد أسرته العريقة، كما إلى رصيد وطنه الكبير.
/ حكاية/ في مقهى القبلات الراقصة
لم يكن مقهى كتلك المقاهي التي نادرا ما ارتادها، والتي كانت «رجالية» في الغالب الأعم، و«نهارية» دائما.. لذا كان عليه ان يعيش متعة اكتشاف الجديد في مكان عام هو خليط من المطعم والملهى والمقهى والمرقص الحر.
جلس يتأمل «اكتشافه» الجديد في مدينته التي لا تكف عن التطور والتحول والتبدل والتغير بالحذف والاضافة، بغير ان تفقد ذلك الحنين الى ماضيها.
كان الزبائن الذين سبقوه، قد جاؤوا ـ على ما قدّر ـ كي يغطوا كمد النهارات بصخب ليلي مضبوط الايقاع محدد التوقيت. والعدة بسيطة: بار لمن رغب في كاس على الماشي، ومطعم «لبناني» لمحبي المازات، ومرقص لمن اشتاق الى «دبكة» ايقاعها أهم من صوت المغني.
الطاولات عائلية الطابع بمجملها، مع استثناء لقلة من «العشاق البلديين». الى كل طاولة جلس اصدقاء مع اصدقاء لأصدقائهم فتعارفوا الى حد شبك الأيدي على حوافي الخصور والصدور احتراما لقواعد الدبكة.
اما المغني فهو ميكانيكي نهارا، واما ضابط الايقاع فشرطي متقاعد.. بعض الطاولات نسائية صرف، ليس لانها في جناح الحريم، بل لأن الجالسات اليها صديقات تغيّب «رفاق السمر» عنهن لسبب او لآخر، فقررن ان يحتفلن بهذا الغياب…
واما الساقي فهو «الملك»… ولذا فقد أمر من رأى من «الجميلات» ان يرقصن فلبين النداء خفافا! وحين قامت بعضهن الى الرقص انتظم الباقون جمهوراً من المشجعين… ثم انطلقت الشرارات: نظرة فابتسامة فرقصة مشتركة فعناق وسط تصفيق المشوقين الى الحب ولو عابراً!
على باب الخروج ودّعت الصديقات بعضهن بعضا، لكن اثنتين منهن كانتا في شغل شاغل عن الوداع لانهما قررتا استقدام الموعد التالي الى المقهى حتى لا يذهب الرقص هباء.
واستمع من بقي من الساهرين الى زقزقات القبل وقد طغت على صوت المغني الذي أسكت صاحب الطبلة حتى لا يضيع منه النغم المنشي!
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب هو المنقذ، بقوته يمكنك مواجهة عواصف الأحقاد والبغض التي تتهددك في انسانيتك.
عمم عدوى الحب لتكون لك الحياة.
أما أنا فسأوزع من حبي على الدنيا لتصير جنة لحبيبي.