طلال سلمان

هوامش

عبد الله لحود يزيد حضوراً بعد الغياب
قلة من الناس هم أولئك الذين يزيد غيابهم من حضورهم.. فالمواقف لا تموت ولا يطويها النسيان، بل تحفظ فرسانها منارات في الوجدان يستدل بهم على الصح، ولا سيما في بلد كلبنان لم يعرف عن نخبه عامة الصلابة في المواقف المبدئية، بل إنهم غالباً ما يقدمون الدليل على عشق التحولات باعتبارها تطوراً وولوجا الى العصر.
وها هو عبد الله لحود حاضر بيننا بعد عقدين من الزمان على رحيله، تجري أقلامنا وألسنتنا ببعض ما عرفناه عنه في حياته محامياً وكاتباً وشاعراً ورائد إصلاح سياسي ومناضلاً من اجل التقدم الاجتماعي، وبالكثير الذي عرفناه فأخذناه عنه واستبقاه معنا بعد غيابه.
قبل أربعين عاماً أو يزيد قليلاً، قادتني مناسبة حزينة الى مكتب ذلك المحامي النحيل القامة، الخفيض الصوت، الذي لا ينظرك لكنك تحس طوال الوقت أنه يمتحنك في صبرك كما في قدرتك على الفهم، تنتثر على طاولته الملفات وبعض الكتب والدوريات في حالة من الفوضى المنظمة التي يطمئن إليها أكثر من اطمئنان موكله، قطعاً…
وكان معه شريكه ـ نقيضه عبد الله حيدر، المتفجر حيوية، بصوته العالي وضحكاته المجلجلة ومبارزاته المفتوحة معه شعراً ونثراً!
في اللقاء الأول خرجت بانطباع غريب: كيف تم الائتلاف بين الماء والنار؟ بين هذا الناسك الآتي من عمشيت، كأنه يدخل المدينة لأول مرة، وذلك «البارون» الذي يحسب الدنيا امتداداً لكرسيه في اللبوة.
أما في اللقاءات التالية فقد انفتح باب الكلام، وصرت استمتع بالإصغاء إلى هذا الشاعر الرقيق الحاشية على صلابة في الموقف وصفاء في العروبة، بغير ادعاء أو حذلقة بقصد استرضاء الغير.
كنت آنذاك مديراً لتحرير مجلة «الحوادث» في ذروة نجاحها المهني بقيادة صاحبها الراحل سليم اللوزي. ولعل علاقتي بالكلمة قد أسهمت في فتح أبواب الصداقة مع الأستاذ الذي يعشق لغة الضاد، خصوصاً وقد عززتها الشراكة في صداقة «البيك» منح الصلح، الذي يكاد يختصر بشخصه المعارف جميعاً عن البلدان والأعيان، ثم الشراكة في الإيمان بالعروبة بوصفها الطريق الى المستقبل وليست العودة الى الماضي بالحنين الى ما كان.
قال لي منح الصلح: اطلب صداقة عبد الله لحود، هذا الفارس من عمشيت، فهو مناضل صلب كلفته مواقفه السياسية الكثير، لكنها بنت له رصيداً عظيماً كرجل مبادئ، لا يساوم على ما يؤمن به، ويضحي من اجل انتصار قضيته بكل ما يملك وبكل ما كان ممكناً أن يملك.
وسعيت الى ما كتب عبد الله لحود شعراً ونثراً، والى محاضراته وندواته، اقرأ له فأزداد اعجاباً بلغته الجزلة، ويعظم تقديري لمواقفه المبدئية الصلبة، في الزمن الصعب، ومواجهته بصدره الخطأ حتى لو صدر عن بعض أهله، وقوله كلمة الحق في وجه الهياج الذي يتلطى بالطائفية كي يكرس التبعية.
لقد قرأ عبد الله لحود في عائلات عمشيت وفي بيوتها، في انساب أهلها وجوارها وجوار الجوار، فإذا الموارنة أصفى عروبة في النسب من كثرة من المسلمين، وإذا هم لم يحفظوا اللغة فحسب بل إنهم أسهموا إسهاما مشهوداً في إعادة صوغ الهوية وأضفوا عليها مسحة عصرية بحيث باتت العروبة رابطة انتماء ورباط وحدة مصير.
وحين أبحر في اللغة وصل الى ضفاف الشعر فاستظل به، ومنه نسج خيمة حبه واعتداده بأهله وبأرضه التي منها بدأ التاريخ ومنها انبثقت شمس الحضارة… وكان بديهياً أن يكتشف أن اللغة، وهي الرباط المقدس، كانت واحدة في جذورها، وان كل محاولات التفريق بين الموروث الثقافي وتقسيمه الى هويات متباينة ستبوء بالفشل، لان الأصل الواحد سيظل واحداً… من هنا قوله:
«إذا قيل ما هو حصن الضاد فيجب أن نقول لبنان، وإذا قيل من هو باعث النهضة الحديثة ومغذيها وناشرها في دنيا العرب فينبغي أن نجيب لبنان».
لكن أي لبنان؟! انه ليس لبنان ارض المتصرفية القديمة، أو مقاطعة واحدة او مقاطعتين من تلك المتصرفية القديمة، بل هو أيضاً بيروت وصور وصيدا وطرابلس وبعلبك وجبل عامل وعكار ومعظم البقاع.
فليست العربية حديثة العهد، ولا هي فُرضت على لبنان فرضاً، بل إن اللبنانيين لم يحتفظوا بلغة قومية سوى الضاد. ونحن لا نجد لغة وطنية سوى لغة الضاد، ولا نجد نتاجاً سوى باللغة العربية.
ولأنه عربي الوجه والقلب واللسان فقد رأى في إسرائيل خطراً محدقاً بالأمة جميعاً: هي مشروع دولة كبرى في نفوذها ومداها الحيوي، ولا بد من المقاطعة التامة الكاملة لها، بحيث تُعتبر خيانة عظمى وجرماً أعظم كل معاطاة مع إسرائيل مهما كانت تافهة، وكل بحث في إمكان مهادنة إسرائيل حتى بشروط مشرّفة في الظاهر، ولا بد من سد السبيل أمامها في ما يجاور البلاد العربية، وبالذات أفريقيا.
ولأنه وطني حتى العظم فقد كان يثور عند تناول النظام الطائفي: طبِّق هذا النظام على أكثر المجتمعات انصهاراً، على فرنسا مثلاً، تحصد فيها حرباً أهلية في سنوات معدودة.
أما الكيان فلا يبرره الا الدور الذي يمكنه أن يؤديه لنفسه ولمحيطه.
[[[
لغيري ممن هم أعرف وأقرب أن يتحدثوا عن عبد الله لحود، رجل القانون، وأبرزهم بيننا هنا دولة الرئيس نبيه بري الذي تتبدى سعادته في استعادة موقع التلميذ أمام استاذه، يفيه حقه تبجيلاً باعتباره كاد أن يكون رسولاً… للحق وللعدالة.
لكنني بحدود قراءتي ما كتب ونشر عبد الله لحود فإنني قد عرفت فيه أديباً وناقداً ومفكراً وصاحب ديباجة نثرية مشوقة… وكل ذلك يتجلى في مرافعاته كما في نتاجه الأدبي.
كما عرفت فيه رجل المواقف، والمدافع عن الحريات بإصرار وعناد، وعن حقوق المواطن السياسية والشخصية، بقدر ما كان فارس العلمانية وحامل لوائها على امتداد نصف قرن او يزيد.
وفي لقاءاتي القليلة كنت استمتع بحديثه الطلي، كما بسرعة بديهته في التعليق على ما يعرض من أمور… وبرغم فوضى مكتبه فإن عقله كان منظماً، وكان زاده من الثقافة عظيماً. ومن هنا فقد شغل المحاكم باجتهاداته، خصوصاً انه كان يرى المحاماة لعبة شطرنج أكثر منها باباً للعيش. ثم إنه كان رجل الدفاع عن القضايا المستحيلة، ولأنه على مثل هذا الإخلاص فنادراً ما خسر دعوى هو وكيلها.
وبين ما أذكر منه قوله: لا يكفي أن يكون لبنان قد أسهم في وضع وثيقة حقوق الإنسان، وحقوق الإنسان فيه وحرياته الأصلية مهدَّدة أو مضيَّعة.
وكان بين ما لفتني فيه، خلال لقاءاتي القليلة، عقله المنظم، وثقافته الواسعة، وحاجباه الكثيفان على شكل قوسين بينما تخفي النظارة السوداء عينيه.. أما أطرف ما قصه علي فهو ان معظم لوائحه قد كتبها على هدير الترامواي، عندما كان مكتبه في شارع المعرض.
أما ما يذكره لبنان له، وبالذات ذلك الجيل من شبانه الذين كانت أبواب دراسة الحقوق مقفلة أمامهم إلا باللغة الفرنسية، فمساهمته المؤثرة في تدريس الحقوق بالعربية… اذ كان القائد الراحل جمال عبد الناصر قد استجاب لطلب لبناني فأقر إنشاء جامعة بيروت العربية، كفرع لجامعة الإسكندرية، وقد تضمن الفرع كلية لتدريس الحقوق فيها بالعربية، ولم يكن في الجامعة اللبنانية مثل هذا الفرع… ووقع الإضراب المنظم ليكون فتنة، وقد استطال دهراً وقادته القوى المعترضة على هوية لبنان العربية، التي ترى اللغة العربية علامة على التخلف.
ولقد تصدى الفارس عبد الله لحود ومعه نخبة من المحامين وأهل الرأي ورجال الموقف يدافعون عن كرامة اللغة وعن جدارتها بتدريس الحقوق، مطالبين بأن يسمح لجامعة بيروت العربية بالعمل، إيمانا بمبدأ حرية الثقافة وبصلاح اللغة العربية لتعليم الحقوق.
وبديهي والحال هذه أن يكون عبد الله لحود بين مؤسسي اتحاد المحامين العرب، الذين قدموا إليه أعمق الدراسات
[[[
… وتبقى لي كلمة بوصفي أتشرف بالانتماء الى مهنة الصحافة.
لقد لحظ عبد الله لحود، بفكره الثاقب، قبل ربع قرن أو يزيد، المحنة التي تتهدد هذه المهنة ذات الدور التنويري المهم، في حاضرها ومستقبلها، فقال ما مفاده: أمام الصحافة التي بلغت شأواً جيداً في الإتقان والتقدم فرصة ثمينة كي تنفذ بقوة الى الأسواق العربية الخارجية، لكن بلوغ هذا الهدف يلزمه سعي متواصل الى رفع المستوى العام وإسهام من أثرياء اللبنانيين في تأسيس شركات ضخمة للصحافة.
وليس سراً، أن الصحافة في لبنان لم تعد قادرة، بإمكاناتها المحدودة، على النفاذ بقوة الى الأسواق العربية، حيث أنشئت او أصدرت صحف بقدرات غير محدودة، معززة بسوق إعلانية ناشطة ، وبدعم من الحكومات الثرية يفوق أي تصور.
لم يعد في وسعنا أن ننافس، يا أستاذ عبد الله، بل لقد بتنا أعجز من أن نستطيع المحافظة على الكادرات المهنية، من صحافيين وفنيين، فضلاً عن الكتّاب… ولا يحق لنا أن نلوم من يهجرنا الى حيث الأمان والاستقرار، والدخل الممتاز، حتى لو كان الثمن الصمت عن الغلط او التطهر من فكرة العروبة او إبقاء الأفكار والمبادئ في خزانة البيت في انتظار العودة… ونادراً ما عاد من ارتحل الى المال الى حيث كان في مواقفه والمبادئ.
لقد بقي عبد الله لحود يسكن وجداننا كقانوني كبير، وكشاعر رقيق، وكقائد وطني له دوره البارز الذي لم تكن المواجهة في عمشيت ضد احتكار التبغ في بلاد جبيل، وهي أول معركة يخوضها اللبنانيون موحدين، إلا احد عناوين كفاحه المتصل من اجل حق الإنسان في ناتج تعبه وحقه في التحرر من الاحتكار.
والختام، تحية تقدير وإكبار إلى من تعلمت منه الكثير برغم أنني ما عرفته إلا قليلاً.
(مقتبس من كلمة ألقيت في حفل استذكار عبد الله لحود في بيت المحامي في بيروت)

كاريكاتور ناجي العلي: قراءة جديدة… ناقصة!

لأن ناجي العلي مستقر في وجدان الناس لا يغادره، فمن الطبيعي ان يظل موضع اهتمام الكتاب والنقاد والبحاثة الذين سيستمرون في محاولة استكشاف آفاق فرادته…
لقد غدا اسمه مرادفاً لاسم فلسطين… واكتسب منها ومن ارتباطه بنضالات شعبها قوة الرمز. صار «حنظلة» اسماً حركيا للفلسطيني في غضبه، في انتفاضاته المتوالية، في مقاومته العدو الاسرائيلي كما الانحراف الداخلي وضياع الثوار او فسادهم او بالأحرى إفسادهم.
آخر نتاج يتناول ناجي العلي رسالة جامعية اعدها خالد محمد احمد الفقيه باشراف الدكتور عبد الستار قاسم وأعطاها عنوانا معقداً نوعا ما: «التنمية السياسية المترتبة على حركة الوعي في كاريكاتور ناجي العلي».
تبدأ الرسالة باستعراض مراحل التطور في فن الكاريكاتور، بدءا من جدران الكهوف الى اعمدة الصحافة، انطلاقاً من الافتراض ان الكاريكاتور ولد مع ولادة الانسان.
يغوص الكاتب في البحث عن بدايات الكاريكاتور في الحضارة الاغريقية حتى تبلور بداياته في ايطاليا في القرن السابع عشر الميلادي، بافتراض ان الفنان العظيم ليورناردو دافنتشي هو من وضع اسسه والقواعد. وفي الروايات ان العرب كانوا أول من عرف الدمى المتحركة في عهد الدولة العباسية، وهو الفن الذي أسس لاحقاً للكاريكاتور.
بعد ذلك يباشر خالد محمد احمد الفقيه رحلته مع ناجي العلي بدءا من مولده في قرية الشجرة، في الجليل الأعلى بفلسطين، قرب الناصرة، التي قيل ان المسيح قد استظل بها، والتي كان فيها مسيحيون الى جانب المسلمين مع بعض اليهود ممن سكنوها في العشرينيات.
يرافق المؤلف ناجي العلي في رحلة لجوئه الى لبنان: تحت أشجار بنت جبيل بداية، ثم العيش اليومي في الذل في المخيم حيث حول والده الخيمة الى قسمين، اذ جعل بعضها دكانا صغيرا لتقتات منه العائلة… وبعد ذلك عمل ناجي أجيراً في قطف الحمضيات مع صديقه محمد نصر، شقيق زوجته وداد.
اما مدرس ناجي العلي ومعلمه نضاليا فهو ابو ماهر احمد اليماني.
يتوقف خالد الفقيه، بعد حنظلة، الصبي الجمعي، امام المرأة في رسوم ناجي العلي، التي يمكن ان تكون فلسطين، كما يمكن ان تكون مصر، وكذلك امام الرجل الطيب الذي يشكل الصورة الحية للفلسطيني، المعرض لمهانة الفقر والتشرد، والرافض الاذلال برغم تعاسة اوضاعه.
ليس الكتاب سيرة ذاتية لناجي الرسوم والشخصيات التي ابتدعها، انه محاولة لتأريخ مرحلة كاملة من النضال العربي داخل فلسطين ومن حولها من اجل حماية كرامة الانسان في وطنه، وحماية كرامة الوطن في انسانه.
على ان بعض «الغيارى» على حقوق ناجي بعد استشهاده، اصروا على ان يسيئوا الى ذكراه بايراد وقائع غير صحيحة تتصل بعلاقته مع جريدته «السفير» التي اعطاها كثيرا وقصرت عن ان تعطيه ما يستحق، لان ما يستحقه لا يقدر بمال.
لقد تورط الباحث في بعض ما تورط فيه الذين انتجوا الشريط السينمائي عن ناجي العلي فجافوا الحقيقة وذهبوا الى المبالغة، وزوروا الشخصيات مفترضين ان المبالغة قد تفيد الشهيد، في حين انه ـ في حياته كما في استشهاده ـ كان أكبر من كل الذين حاولوا تقليده او حاولوا توظيفه، او حاولوا استغلال جريمة اغتياله وصراعاتهم الداخلية. وفي الحالتين فقد تم التزوير بعيداً عن «السفير» وإلا لما كان ممكنا ان يمر.
وما بين ناجي العلي، مبدعاً وشهيداً، و«السفير»، لا يمكن شطبه او تشويهه، فهو منها وان ابتعد عنها، وهي له قبل الشهادة… وبعدها.

تهويمات / القطا تموت طائرة
وحين تمدد ظلك خفيفاً كالهمس،
انطرح الليل فوق سريرك وقد تخفف من لعنة الضوء
لم نكن سكارى لننسى اسماءنا، ولم نكن يقظين لينسانا الوقت
كنا نمشي على حافة النهار الهوينا، نسبقه إلى مغيبه،
.. وجاءت الصحراء بحكاية الرجل الذي امتطى ظله الى النجوم، لكننا نسينا المرأة التي لا تنسى
ونسينا ان للصبح صبحاً وان الليل ليس الزمان،
حين افقنا كانت الشمس شاهد زور
وكنا نبحث عن الرمال التي اخفت اقدامنا
كي نستعيد وجوهنا،
تاركين احلامنا لعبة لاطفال النهار.
اما حين طرت الى الشعر، فقد انتبهت الى انني اعرت جناحي لبلبل سجين بتغريدة البكاء.
لو تقطر علينا الشعر لعلمنا الغناء،
لكن الصحراء واسعة الحزن،
والقطا تموت طائرة لانها لا تتعب من انتظار الربيع
والربــيع ليــس وقــتا، الربيع هو العمر. هل يعيش من لا يحب؟

من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا يمكنك شــراء الــحب، ولا يمكــنك بيــعه. ليس الحب خارجك لتنقله الى غيرك. الحب مثلك، بوجــهك وملامحك وعلاماتــك الفارقة. وهو لا يتــسع لاكثر من اثنين، لكنه لا يقبل القسمة على اثنين. انه في كل منهما مكتمل. الحب الاكتمال، فإن نقص انطفأ.

Exit mobile version