طلال سلمان

هوامش

ربيع جابر يملأ بيت كمال صليبي الذي بمنازل كثيرة
«كنت أحب المشي في بيروت، عندما كان المشي فيها متيسراً، ومن ذلك معرفتي بشكلها: منخفض ضيق من الأرض يمتد من الجنوب إلى الشمال، حيث البحر، وهضبتان على جانبي المنخفض، واحدة من الشرق تسمى الأشرفية، والثانية من ناحية الغرب تسمى المصيطبة وتنتهي براس بيروت. أنا ولدت في محلة «كركون الدروز» في المصيطبة عام 1929، منذ عام 1943 أعيش في بيروت.. ولهذا السبب أعتبر نفسي بيروتياً، وإن كنت في الأصل جبلياً من جوار قرية بحمدون. ربيع جابر، صاحب الثلاثية الروائية «بيروت مدينة العالم» ولد هو أيضا في المنطقة الغربية، سنة 1972، على ما أعتقد، وهو يعيش حاليا في المنطقة الشرقية، ولعله يعتبر نفسه، مثلي، بيروتياً، رغم كونه في الأصل جبلياً من قرية كفرنبرخ في جبال الشوف..».
بعد بطاقة التعريف هذه، يباشر المؤرخ الكبير كمال الصليبي قراءته في ثلاثية ربيع جابر «بيروت مدينة العالم» الصادرة قبل ست سنوات، والتي أعاد فيها هذا الروائي الشاب الموهوب «خلق» بيروت التي كانت عبر مزيج فني راق بين الوقائع التاريخية وخياله الجامح الذي لا يكف عن التوليف بين الحكاية والأسطورة، وان ظل قادراً على الإمساك بالحبكة الروائية ببراعة مشهودة، فتصل إلى آخر صفحاتها مغضباً، وتكاد تلتفت اليه معاتباً بأنه قد «خانك» فتركك وسط طريق تضج شخصياته بالحياة ثم مضى الى حكاية أخرى قد تكون التتمة كما تكون المقدمة لما قرأت.
في بعض سطور العرض الذي يقدمه كمال الصليبي تنفر «الغيرة» من ربيع جابر وذاكرته التي تتسع لكل هذه الشخصيات المتداخلة، المتوالدة، المتوارثة، المتقاطعة، المحتربة، المتصالحة مع واقعها: كيف أمكن لهذا الفتى أن يعيد خلق المدينة التي غيبها اندثار قديمها واستنبات جديدها الذي ساهم في استيلاد مدينة جديدة لا تحتفظ من سابقتها إلا ببعض الأسماء التي لم تعد تعني ما كانت تعنيه، ولا عادت تدل الى ما كانته، فلا هي امتداد، ولا هي تطوير، ولا هي تجديد، بل هي عالم جديد، مختلف تماماً والى حد التناقض أحيانا، يجاهد في أن ينسى ماضيه بكل من وما كان فيه… لكأن أهله يتعمدون «القطيعة» مع ماضٍ لا يعتبرونه بالضرورة ماضيهم. فمن هم في بيروت اليوم ليسوا أحفاد أهلها الذين كانوا، بضعة آلاف يتوزعون في أحياء ضيقة معدودة، تحيط بهم حدائق الرمل و«السور» الذي لا يمنع الغزاة من التوغل فيها، وبضعة أسواق للحرفيين وأصحاب الدكاكين الصغيرة التي تقوم كواجهات للبيوت التي ولدوا وعاشوا فيها ثم أضافوا اليها غرفاً ليتزوج أبناؤهم فيها.
لقد غيّر التاريخ الجغرافيا. والتاريخ سياسة. والسياسة حروب وعسكر، بعضه يجيء من الغرب، وبعضه من الشمال، وان فاجأ الجنوب ـ ذات مرة ـ بأن له عسكره القادر على إعادة صياغة الخرائط والأنساب عابراً الهويات الامبراطورية والجهات مسمياً الشعوب والأفراد ببلدانهم ومستولداً بيروت جديدة ليس لها من ماضيها إلا الاسم.
مد ربيع جابر روايته لتشمل ثلاثة أو أربعة أجيال، على امتداد قرن كامل أو يزيد، تخللته حروب كثيرة، مما مكنه من أن يعيد بناء بيروت مضيفا اليها كل من حطوا الرحال فيها، إما كجنود مهزومين، أو كتجار أفادوا من توسعة مرفأها بحيث صار يستقبل سفناً كبيرة، أو كأبناء الشواطئ الأوروبية المقابلة الذين جاؤوا باعتبارها بوابة الشرق… وهكذا تزاوج الدمشقي والبيروتي ثم البيروتي المستجد مع العسكري الذي لم يرجع مع ابراهيم باشا حين تواطأت عليه «الدول» فكسرته في حربه ضد السلطنة، لكي تكون الوريث الفعلي لامبراطورية بني عثمان… وهكذا فقد غدت بيروت «أممية» بالذين استقروا فيها، وبات من حق ربيع جابر ان يعتبرها مدينة العالم.
من هنا خاتمة كمال الصليبي التي قال فيها «جابر يتعامل مع الزمن وكأنه جزء لا يتجزأ من مادة الكون الخاضعة لمبدأ «لافوازييه»: لا جديد فيها يخلق، ولا قديم فيها يفقد، بل كل شيء فيها يتحول. جابر لا يعود إلى مبدأ لافوازييه ليحدد طبيعة نظرته الى طبيعة الزمن بل يقتبس، لهذا الغرض، مقطعا بليغا من إحدى رسائل الحكمة الدرزية: «لأن الحجاب هو المحجوب والمحجوب هو الحجاب. ذلك هو وهو ذلك. لا فرق بينهما»، ثم مقطعا آخر من أقوال الصوفية لا يقل عن الأول بلاغة: «ألف عام ماضية في ألف عام واردة هوذا الوقت ولا تغرنك الأشباح».
… أما مخيلة ربيع جابر فيراها كمال الصليبي: «مخيلة المؤرخ الملجومة بالانضباط العلمي، أو مخيلة الروائي المنسرحة الطليقة العنان. وفي نهاية المطاف فلعل مخيلة الروائي هي الأجزل بلاغة وتعبيراً».
يبقى أن ننوه بهذا التواضع اللافت الذي يجعل مؤرخاً كبيراً أسهم إسهاماً مؤثراً في إعادة صياغة مفهومنا للتاريخ، يهتم برواية لمبدع شاب، مضيفاً الى عبقريته في استيلاد الأزمنة والشخصيات والبلاد والظروف، هذه الشهادة التي ندر أن أعطيت لعمل أدبي بهذا الكرم الذي يستحقه من وجه اليه، على أن ربيع جابر ملأ «البيت بمنازل كثيرة» مقدماً شرحاً لما أراد أن يقوله المؤرخ فاستولد الروائي له شخوصه.
صقر يوسف صقر يذكّر العائلات التي حكمت لبنان بتاريخها
يستحق صقر يوسف صقر المعاملة التي يخصه بها عارفوه وزملاؤه في العمل بوصفه «الناسك»… فهو يحمل قلباً أبيض يتسع للناس جميعاً، ثم انه لا ينطق بكلمة سوء، لا يتأفف، لا يتذمر، برغم اشتداد ضغط سنواته الثمانين على جسده الذي كان متيناً فبات هشاً مما أحوجه الى العصا.
وصقر يوسف صقر الذي لم ينل في طفولته الكثير من العلم، إذ لم تكن ثمة مدرسة في بلدته التي يعتز بانتمائه اليها، بجه، من أعمال بلاد جبيل، ولا كان بمقدور أهله أن يوفدوه إلى مدرسة أخرى بعد ميفوق التي نال فيها شيئاً من التعليم، قد درس على نفسه بعناد، وقرأ من دون أستاذ كثيراً كثيراً، حتى تجرأ على اقتحام أمهات الكتب المرجعية، وأغنى ذاكرته بالنصوص المقدسة والشعر والأدب والتراجم والتاريخ حتى بات مؤهلا لان يكتب في العديد من الموضوعات، وان ظل ميله الى التأريخ والتوثيق يتقدم على ما عداه.
آخر ما أنتجه صقر يوسف صقر كتاب «عائلات حكمت لبنان» الذي أصدره مؤخرا المركز العربي للمعلومات… ولأن الكتاب يقرأ من إهدائه، فإن صقر يوسف صقر قد أهدى كتابه «الى زوجتي وولدي.. والأجيال الجديدة الطامحة لبناء دولة لا تحكمها العائلية والطائفية والتدخلات الأجنبية.. والحالمة بدولة اسمها دولة الحق..».
وهو قد قسم العائلات قسمين تلك التي «لها حضور سياسي مطرد» وعددها 18، وتلك التي «كان لها دور» وعددها 12 عائلة… و«بقيت عائلات كثيرة أخرى ذات شأن وتأثير كبير في إدارة وحكم العديد والمقاطعات» لم تسهُ عن باله لكنه ركز على العمر السياسي للعائلة.
مشى صقر يوسف صقر مع آل شهاب، آل ابي اللمع، آل ارسلان، آل جنبلاط، آل الصلح، آل الأسعد، آل حبيش، آل الخازن، آل المرعبي، آل الحرفوش، آل حماده، آل إده، آل كرامي، آل السعد، آل الجميل، آل فرنجية، آل حماده (بعقلين) وآل سلام، في مسيراتهم من السلطة واليها، فعاد الى جذور هذه العائلات ومن أين أتت، وكيف بلغت ما بلغت من مكانة ومن دور في السلطة.
كذلك مشى مع آل عمار، ومقدمي بشري وآل شكر وآل سيفا، وآل الضاهر، وآل النكدي، وآل حيدر، وآل الدحداح، وآل عبد الملك، وآل تلحوق، وآل العماد وآل العازار مرافقاً رحلاتهم من حيث انطلقوا الى حيث استقروا وكيف بلغوا مواقعهم أو مراكزهم في الوجاهة ودور الأنساب فيها ومن ثم السلطة.
ومع أن لصقر يوسف صقر مواقفه الواضحة من الإقطاع، سياسيا كان أو دينيا، فإنه في كتابه هذا قد عرض الروايات المدققة عن أصول هذه العائلات التي حكمت لبنان زمنا طويلاً، وبعضها ما زال في السلطة أو قريبا منها أو يهيئ للعودة اليها، ما دام أهل السياسة في لبنان لا يموتون، برغم ادعاء اللبنانيين أنهم طالما قاتلوا الإقطاع حتى تحرروا منه.
عرض صقر الروايات المتعددة والمختلفة المصادر عن هذه العائلات التي تثبت أن أكثريتها الساحقة، لا سيما المسيحية منها وبالأخص الموارنة، أصولها من شبه جزيرة العرب شمالا وجنوبا، بل ان بعضها يعود بنسبه الى قريش ومنها تحديداً آل شهاب وآل الجميل! كما أن بعضها الآخر من أصول كردية أو تركمانية أو صليبية.. لكن لبنان الذي يكبر مرات ويصغر أحيانا يتسع لها جميعاً ويساعدها على نسيان أصولها لتتباهى بأنها هنا منذ الأزل وإلى الأبد!
وصقر يوسف صقر قد جاء إلى التأريخ من الصحافة التي عمل فيها طويلاً متنقلاً بين «الصحافة» و«الأحرار» و«اليوم» و«الراية» و«بيروت» و«الهدف الأسبوعي» و«الكفاح العربي» حتى حط رحاله في «السفير» والمركز العربي للمعلومات… كما نشر في مجلات «الرسالة» و«العرفان» و«الطريق» و«الثقافة الوطنية».
وهو إن لم ينتسب لأي حزب من الأحزاب ولم ينتظم في أي حركة سياسية، إلا أنه «ظل مؤمناً بلبنان والعروبة والاشتراكية ولم تتناقض يوماً لبنانيته مع عروبته ودعوته إلى الحرية والعدالة الاجتماعية» كما يقول عن نفسه.
ولصقر أربعة كتب هي: تاريخ بجة (بلدته) وأسرها في لبنان وبلدان الاغتراب، حليم الحاج ـ سيرة إزميل، ماوتسي تونغا ـ العملاق الذي ترفض أميركا أن تراه، الكنيسة المارونية ـ صراع اللبننة والتراث المشرقي… ويصدر له قريباً عن المؤسسة الوطنية للمحفوظات كتاب «قوافل الرواد وسير أعلام وشخصيات لبنانية وعربية (في أربعة مجلدات).
تصعب كتابة تاريخ لبنان بالنزاهة التي يتحلى بها صقر يوسف صقر، مع ذلك فقد اجتهد فحاول… وللمجتهد أجر واحد إن أخطأ وأجران إن هو أصاب. وصقر يستحق ألف أجر!
تهويمــات/ أعيد صياغة زمني ليستحقني
قال لي جاري الذي يهرب من ثرثرته الآخرون:
ـ لست عجوزاً لأنسى، ولست فتى كي أتحدى الوصايا العشر. إنما أنا واحد من الخلق يعذبني عقلي فيأخذني الى الحيرة ويصلبني على السؤال الذي كنت أعرف جوابه قبل زمن النسيان.
لست من خلق فأبدع، لكنني من وعى فانتبه الى أن الحياة أروع من أن نضيعها في سباق عبثي مع المستحيل الذي كثيرا ما نكتشف أننا قد اصطنعناه ليبقى أمامنا ما نتحدى فيه قدرتنا على الفعل.
صمت قليلاً ثم أردف فقال: ـ إلى أن خرجت تلك التي صارت عمري من فيء الاستحالة كما الشمس، فاكتمل حضورها المدوي في صمت الغياب. صار يأخذني اليها حب الحياة فتهرب منه ومني ولا نلتقي. لا أقدر أن ألحق بها، وهي ترف بأجنحتها طائرة الى حيث لا عنوان ولا أدلاء يعرفون الطريق. نبحر في عينيها المفتوحتين على دنيا لا نعرفها ونخاف أن نتوه فيها إن نحن توغلنا في شعابها التي من زمرد.
تنهد طويلاً وكاد يبكي قبل أن يضيف فيقول:
ـ كلما قرأت في كتاب الحب المشرع الصفحات في عينيها ازددت جهلاً بنفسي، فلقد كنت أتوهم أنني سأعرف أسرار الحياة عبرها ومن خلال صمتها الذي يروي قصة الخلق وحكايات من ارتحلوا على سفينة نوح ثم انتشروا في الأرض ليعيدوا إنتاج الدنيا، فإذا الغريزة أقوى من العقل، وإذا الوهم أصلب من الحقيقة، وإذا الأحلام التي لا تعرف السباحة تقف على الشاطئ الآخر، واذا الذهب أقوى من القلب، واذا الغباء ما زال هو السيد، واذا الاطفال هم حملة مفاتيح الجنة، يتقافزون ويتعابثون فننتشي بضحكاتهم التي تكرج نغماتها كتغريد البلابل.
التفت إلي وأنا غارق في صمتي، بعيداً عنه، فختم بأن قال:
ـ هي ثرثرات عجوز نسي أن يعيش عمره. لكن ما عذر الذين يرفضون أن يعيشوا أيامهم، وكل يوم منها عمر كامل؟!
الحياة أن نعيشها. نحن بها الأقوى. نعيد صياغتها. نجعلها تستحقنا. لكن علينا، بداية، أن ننخرط فيها، أن نخترق أبواب الصعب وأن نقهر الاستحالة بالحب، فمن أحب كانت له الحياة فأعادت خلقه كما يريد أن يكون. فالحب إرادة.. وأنا بإرادتي أعيش لحبي وأعيد صياغة زمني ليستحقني!
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ يتوهم المحبون أنهم يغيّرون العالم وفقاً لرغباتهم المستحيلة.. أما حبيبي فيريدني كما أنا. وأنا أريده كما هو. وأرضنا جنتنا. الحب الإنسان. وأروع ما في حبيبي أنه يضحك ويبكي ويحزن ويفرح ويصادق ويجافي فإذا ما استذكرني جعل الحياة جنة. حبك هو الجنة فلا تغادرها.

Exit mobile version