طلال سلمان

هوامش

عن محمود درويش العربي
أما الاحتفال فكان جميلاً كالشعر، وقد أضفت عليه الألوان الزاهية لعباءات الاساتذة وقبعاتهم، والزركشات التي تزين عباءات الطلاب، شيئاً من مباهج المهرجانات الفولكلورية.
وأما المتخرجون أنفسهم فكأنهم وصلوا للتو من »البروه«، او انهم في طريقهم اليها لاعادة بنائها: بعضهم من قرى شوفية مغمورة، وبعضهم من جهات منسية في اقليم الخروب، وهناك مجموعات من أبناء الأحياء الداخلية لبيروت او ضواحيها، وكلهم في ضيق ذات اليد واتساع الطموح واحد، وثمة فلسطينيون ممن ولدوا في مخيمات انتظار العودة وقد مات آباؤهم وما يئسوا، ولا هم نسوا انهم فلسطينيون… اما الجنوبيون فقليلهم كثير، كما في كل مكان وميدان، حتى في الحرب مع العدو الاسرائيلي.
وأما التسمية التي أعطيت لهذه الدفعة من المتخرجين فتتجاوز التحية لتؤكد الموقف من »القضية« وأهلها، اذ انها استحضرت الاسم الذي تجاوز »الرمز« الى »التميمة« مماثلا لسورة »اقرأ« في مساحة تمتد الى »والقلم… علم الانسان ما لم يعلم«.
وأما الشابات والشبان الذين رفعوا رؤوسهم متباهين بأن دفعتهم قد شرفت باسم محمود درويش فكانوا مثله في حياته: لاجئين في وطنهم. بعض قراهم قد دمرتها حرب تموز، كلها او بعضها، والبعض الآخر ينتظر التدمير في حرب جديدة، وما بدلوا تبديلاً.
وأما هيئة التدريس فكانت تستشعر شيئا من الفخر الذي يمكن ان يعطي الجامعة الوليدة رصيدا إضافية نتيجة التوغل في المستقبل، لأن محمود درويش لم يكن يوماً من الماضي، ولن يكون.
[[[
لم أجد مدخلاً أفضل للحديث اليهم عنه من أبيات له فيه:
»أنا حبة القمح التي ماتت لكي تحضر ثانية، وفي موتي حياة ما،
فنم هادئاً إذا ما استطعت الى ذلك سبيلاً،
ونم هادئاً في كلامك، واحلم بأنك تحلم
نم هادئاً قرب نفسك،
نم هادئاً سوف احرس حلمك،
وحدي ووحدك في هذه الساعة
الأرض عالية، كالخواطر عالية
والسماء مجازية كالقصيدة، زرقاء، خضراء، بيضاء، بيضاء، بيضاء..«.
ففي حضرة غياب محمود درويش نتهيب، الآن اكثر مما في حضوره الشرس عندما كان يلاعب الموت، يسخر منه، يتحداه، يواجهه في عينيه حتى تعب منه فكاد ينصرف عنه، لكنه طارده وسد أمامه الطرق جميعا ليقول انه قد انتصر بالموت على الموت، كما انتصر في حياته بالحياة على الحياة.
وأظنه، خلال الأيام التي انقضت على غيابه كان ينظرنا من عليائه يسمع ما قيل في رثائه فيضحك من خطباء التعازي وشعراء الموتى وكتاب أوراق النعي، لأنهم اهتموا بأن يؤكدوا شغور مكانه، في حين ان مكانه عالٍ علو منزله الآن، يصعب ان يشغله غير من ابتدعه وغزله من شعر مصفى ومن فكر مشرق ومن عشق للأرض ثابت مثلها، لا يقهره احتلال مهما طال، ولا تنال من مكانته الانكسارات والنكسات لأنه إنما كتب للانتصار وجيل المنتصرين الآتي، مرة أخرى ولو بعد حين.
كان محمود درويش لا يفتأ يقارن بين عدونا الاسرائيلي وبيننا، في احترامه للوقت بل وفي استثماره للوقت، وفي التزامه بقضيته، وهي مزورة، وفي تقاعسنا عن إنجاز ما نستطيع إنجازه… ولقد أتعبته المقارنات والمفارقات المضحكة ـ المبكية: نحن أصحاب القضية العادلة لا نتعب من إهانة قداستها، ونسلك في السياسة والاجتماع ما يسيء الى قضيتنا فنقزمها ونهين الشهداء الذين بذلوا دماءهم من اجل انتصارها. ولو احتسبنا ما أنفقه محمود درويش من وقت وجهد على القراءة والكتابة لاكتشفنا انه قد عاش عمره لقلمه، لفنه، لعطائه الممتاز والمميز لأنه أعطاه نور عينيه.. فهو قد أنتج خمسة وعشرين عملا شعريا توزعت بين الدواوين والقصائد الطويلة التي تكاد تكون ملاحم، وثمانية اعمال نثرية أخطرها »ذاكرة للنسيان«.
انه نهر… تدفق غزيرا فشق لنفسه المجرى على امتداد خمسين عاما، وأبدع فنا عظيما، وأضاف الى الشعر العربي جديدا… بل لقد أنشأ مدرسة متميزة في الكتابة للوطن وعنه، وابتدع نثرا يكاد يرتقي الى مرتبة الشعر، وأعطى قضيته التي عاش لها وفيها ومعها أكثر مما أعطاها العديد من القيادات ذوي الألقاب المفخمة او التي أضفى عليها الجمهور قداسة لا تستحقها.
لم يقبل القيد، لا في العمل السياسي، ولا في الفن والأدب شعرا ونثرا، ولعل في تمرده على قواعد الكتابة المألوفة والمعتمدة بعضا من روح التمرد على محتل أرضه ومشرد شعبه وقاتل الأطفال في وطنه.
ولعله الأول الذي سمعناه، من بين الشعراء، يتحدث بلهجة المشارك وليس بلهجة المشاهد او المتعاطف من الخارج.
لقد أكمل ما بدأه شعراء القضية، من الداخل، فأضاف الى أصوات إبراهيم طوقان وأبي سلمى وعبد الرحيم محمود، ما يتجاوز الحماسة الى رسم الطريق الى التحرير. وتحرر وحررنا من المزاج الحزين الذي ساد أدبنا وشعرنا على التحديد، بعد النكبة مباشرة، وفي الخمسينيات حتى جاء الصمود في وجه العدوان الثلاثي وتعاظم الوعي بالقدرة على مواجهة التحدي وإحراز الانتصار.
لقد عرفت أكثر من محمود درويش واحد.. فلقد كان هذا الشاعر العظيم مبدعا في قدرته على التجدد، وعلى اغناء ذاكرته وقلمه، وعلى تثقيف نفسه، وعلى ابتداع لغته الخاصة الكثيفة بالدلالات والايحاءات التي تتجاوز العادي من العواطف والأفكار والتصورات.
وأستطيع القول ان كثرا ممن عرفوا محمود درويش وقرأوه وكتبوا عنه قد تقصدوا ان يطمسوا »عروبته« وأن يقفزوا به من »الفلسطينية« المعولمة إلى العالمية من دون المرور بأهله الذين أحلوه في مكانته من قلوبهم باعتباره ابنهم وأحد رموز نضالهم وتحديهم المفتوح مع الصهيونية والقوى العالمية التي تدعمها وترعاها، تسلحها وتقويها وتساندها لتنتصر بها على العرب..
لقد دخل في تحدٍ حضاري ـ ثقافي مع الاسرائيلي في أرقى صوره: قرر أن يثبت انه ليس الأغنى بماضيه التليد فحسب، بل بقدرته على الإمساك بقدره أيضا، وقرر أن من حق أرضه عليه ان يثبت جدارته بها، وقرر ان عليه ان يواجه الاسرائيلي بغده وفي غده، وليس بيومه وفي يومه فحسب، حيث له الغلبة.
لقد أسعدني حظي بأن عرفت محمود درويش ومشيت في طريق الصعوبة نحو صداقة كانت دائماً بعيدة المنال.
ولقد عرفت محمود درويش العربي حتى النخاع، وقد أنكرت عليه عروبته في رثاء المتنكرين لعروبتهم.
وكالعادة في التزوير الحديث، وضعت فلسطينيته مقابل عروبته فانتهى بهم الامر الى ان ينسبوه الى العالمية.
عرفته في القاهرة التي أحبها بقلبه، والتي كانت أول من قدمه للعرب، بفضل مبادرة من شهيد فلسطين الذي لم يعرفه محمود درويش إلا عبر نقوشه التي ترسم طريق فلسطين بدمه وهو غسان كنفاني، الذي عرفنا جميعا الى شعراء المقاومة في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وغسان كنفاني بالذات هو الذي قدم محمود درويش الى مصر عبر احد مصابيح الفكر فيها، في ستينيات النهوض القومي، أحمد بهاء الدين، وعبر بهاء ومجلة »المصور« ثم مجلة »الهلال«، تعرف القراء في مصر الى هذا الشاعر المختلف عمن سبقه، والذي سيختلف بعده الشعر كله عما كان قبله.
وفي مصر عرف من كانوا أصدقاء ورواداً قبل ان يعرفهم: صلاح عبد الصبور، صاحب التجربة الشعرية العريضة، والشاعر الفارس أمل دنقل واحمد عبد المعطي حجازي قبل ان يهجر الشعر الى رئاسة تحرير المجلة التي انشئت لكسبه، وصلاح جاهين الفنان بمواهبه العديدة وبشاعريته المرهفة حتى حدود الانتحار.
وإذا كان الموت قد سبق محمود درويش الى جمال عبد الناصر فحزن لأنه لم يلتق هذا القائد الذي عرف العالم كله فيه وعبره العرب في صورتهم الجديدة، المختلفة عن ماضيهم، والمختلفة الى حد التناقض مع حاضرهم الراهن، فانه قد رآه في مصر التي جاء اليها خارجا من اسرائيل وعليها ليعود الى فلسطين التي سوف تعود إليه.
»ولست نبياً، لكن ظلك أخضر. نعيش معك، نسير معك، نجوع معك، وحين تموت نحاول الا نموت معك، ففوق ضريحك ينبت قمح جديد وينزل ماء جديد، وأنت ترانا نسير، نسير..«.
ولقد ضم احمد بهاء الدين محمود درويش الى أسرة تحرير دار الهلال.. ثم انضم محمود درويش الى فريق لطفي الخولي في »الطليعة« التي أصدرها محمد حسنين هيكل عن دار الأهرام.
كذلك عرفت محمود درويش في بيروت التي رآها »تفاحة للبحر، نرجسة، فراشة حجرية ـ شكل الروح في المرأة، وصف المرأة الاولى ورائحة النعام ـ بيروت من تعب ومن ذهب وأندلس وشام«.
أما دمشق التي احبها محمود درويش حتى العشق فكان يأتيها كلما ذهب من ذاته الى ذاته:
»يسألني المتعبون او المارة الحائرون عن اسمي فأجلهه:
اسألوا عشبة في طريق دمشق..
وامشي غريبا وتسألني الفتيات الصغيرات عن بلدي فأقول: افتش فوق طريق دمشق.
ويسألني الحكماء المملون عن زمني فأشير: حجر أخضر في طريق دمشق.
وأمشي غريبا، ويسألني الخارجون من الدير عن لغتي فأعد ضلوعي وأخطئ.
إني تهجيت الحروف فكيف اركبها: دال، ميم، شين، قاف… فقالوا: عرفنا! دمشق!. ابتسمت! شكوت دمشق الى الشام. كيف محوت ألوف الوجوه وما زال وجهك واحداً.
[[[
لا يحتاج محمود درويش، كما أي أديب كبير، شاعراً كان أم روائياً أم كاتب مسرح، الى ان يتنصل من عروبته ليغدو عالمياً. تصير عالمياً بهويتك الأصلية، من دون الهوية تكون أيا كان ولا تكون أحدا.
ثم ان عبقرية محمود درويش تنبع من قضيته، من فلسطينه، من عروبته، من مقاومته الاحتلال، من تصديه لمحاولة تذويبه وشعبه ونفي وجودهما. لو لم تكن له هوية لونها من تراب أرضه لما كانت له قضية. ان وجوده ينفي المحتل، المعولم، فإذا ما تعولم هو صار الوطن للمحتل واختلس منه هويته.
ها هو محمود درويش يعود الى بيت، بعدما عاش في كل مكان، كمسافر في قاعة انتظار يرسله كبريد جوي الى مطار آخر…
وهو قد عاش في كل مكان عابراً عابراً بين اختلاط الهنا بالهناك وزائرا متمرداً من واجبات التأكد من أي شيء.
وهو عاش كثيرا من الرصاص الطائش مر من بين ذراعيه ورجليه ولم يصبه في قلبه، كما لم يشج حجر طائر رأسه..
… وها هو يكتب القصيدة في زمان الريح والذرة فيخلق أنبياء.. ثم يحمل المصبح من بيت الى بيت واثقاً من ان البسطاء سيفهمونها ولن يكون عليه ان يخلد للصمت.
(مقتطفات من كلمة ألقيت في حفل تخريج دفعة محمود درويش من طلاب الجامعة الحديثة للادارة والعلوم).

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعــرف له مهـــنة إلا الحب:
لا تهمل رعاية حبيبك. الحب لذيذ، لكنه متعب. ان انت أغفلت او أهملت او قصرت، أصابه الذبول. أعطه نفسك يُعطك أجمل أيام حياتك… الحب يحب ان تحبه.

Exit mobile version