طلال سلمان

هوامش

شوقي عبد الأمير لـ »يوم في بغداد«.. ينسى الأسئلة!»كان صباح هذا اليوم، الجمعة من تشرين اول بارداً اكثر مما كنت أتوقع، وكانت الشمس تبدو أقرب الى طعمها الشتائي، كأن بغداد قد طوت سجادة خريفها بسرعة، حتى انني لم أكن أحسب لهذا الامر حساباً، وقد جئت بملابسي الصيفية اعتقادا مني ان بيروت أبرد من بغداد وقد تركتها ساخنة نوعاً ما…«.منذ السطور الأولى في الصفحة الأولى في الكتاب الذي يحمل عنوانا محددا تماما في الزمان والمكان »يوم في بغداد«، يكون عليك ان تتعرف الى »الصحافي« في شوقي عبد الأمير الذي عرفته شاعراً وموظفاً في اليونسكو، ومنتجاً ومسوقاً لأفكار من بينها »كتاب في جريدة« الذي تنقلت به عاديات الأيام من صحيفة الى أخرى بحسب النصوص المختارة له وعلاقتها بالسياسة، او بالقضايا الجدية ودرجة السخونة او البرودة فيها، على وجه التحديد.يذهب شوقي عبد الأمير، الذي أبعدته عاديات الايام عن العراق، وإن ظل يسكن صدره ولهجته وشعره وحزنه، الى بغداد ليوم واحد، او هكذا تقول »الشهادة« التي جعلها أشبه بريبورتاج طويل، يرسم بالذاكرة ثم بالعين، وبقليل او كثير من التاريخ، صورة هذه العاصمة العربية التي جرّحها الطغيان وشوه مَواطن الجمال فيها، حتى اذا جاء الاحتلال الاميركي اجهز على معالمها التي يسكنها التاريخ حتى انكرها من تسكن وجدانه:»شارع الرشيد.. لا قطعاً لا.. ارفض ان أرى، أرفض ان أسمع شيئا من هذا، لن أقتنع ولن أكرر هذه الكلمة بعد. لا لم أر شارع الرشيد ولم يكن شارعاً ولا رشيداً بشيء. لا، لم أمر من هنا يوما، ولم أحترق تحت شمس بغداد وأنا أدوسه من رأسه حتى أخمص قدميه…»انني أرى هياكل تتهاوى، جدرانا تنزل مثل شلال حطام يتراكم فوق الارض من دون انقطاع، بينها هيكل أكاد أتذكر ملامحه: ها هو المدخل الرخامي على يساره، هذه الهوة الكبيرة مثل عين مفقودة. انه كشك التذاكر في هذه السينما التي تعلمنا فيها شكل الخوارق والمعجزات، تتدفق صورا على حائط. اجل »سينما الخيام««.الدليل في رحلة اليوم الواحد، او »النزهة«، كما يسميها شوقي عبد الأمير، هو صديقه الدكتور مهدي الحافظ »النائب في المجلس الوطني العراقي الاول في »تاريخ العراق«حيث لم نجرؤ على الخروج على الاقدام، طبعا، لكن بسيارته وبرفقة حرسه«.اما المشاهد التي تروي »مذبحة بغداد«، فإنها تتزاخم في هذا »الريبورتاج« الطويل الذي يجتهد كاتبه كي يكون امينا في الوصف، وان اغفل الاسباب والمسببين، وتعامل مع الأمر الواقع كأنه من صنع القدر الذي لا يرد.لم يجد شوقي »النهر« حين عبر من الكرخ الى الرصافة: أين دجلة؟! أين هو النهر؟ لكن ما رآه ليس دجلة: انه مجرى شاحب ينمو الى جانبيه وفي داخله نبات الحِلفاء الطبيعي الذي ينتشر في المناطق غير المأهولة بالسكان، الذي عرفته في مناطق الاهوار الجنوبية وفي البرك ومستنقعات الماء الراكد. يجب ان تبحث عن النهر داخل النهر لتتعرف اليه، وفي بعض المواقع يمكن ان تجتازه مشياً على الاقدام لتضطر بعد ذلك الى ان تكذب نفسك بان هذه الساقية التي تحت قدميك هي دجلة، ذلك النهر الذي شطر التاريخ شطرين، واقام على ضفتيه امبراطورية ضمت تحت دفتيها مشرق الشمس ومغاربها…«.يجول مهدي الحافظ بصديقه الآتي لزيارة اليوم الواحد في احياء بغداد، فيعبر به من الكرادة الى الباب الشرقي مرورا بـ »ساحة القهرمانة«، والنصب الذي انجزه الفنان العراقي محمد غني حكمت والذي يصور حكاية من الف ليلة وليلة عندما صبت القهرمانة الزيت على »البهاستيج« كما تسمى بالعراقي، وهي »الزيرات« جمع زير، التي اختبأ فيها الاربعون حراميا…الف ليلة وليلة قبل الف عام، وكانت رمزا لانتصار الكلمة، اما بغداد اليوم فهي بألف قتيل وقتيل تعيد مفردات هذا الرمز، وتعيد تأسيس كيانها بين الموت والكلام…ساحة الفردوس حيث كان يقدَّم تمثال الدكتاتور، الذي شهد العالم اجمع كيف أُنزل عن العرش الكونكريتي بحبل حديدي مربوط بدبابة اميركية…لكن شوقي عبد الأمير لا يقول لنا كيف دخلت هذه الدبابة الاميركية ساحة الفردوس، وهل كانت في رحلة سياحية فتاهت عن خط سيرها، ام انها كانت »طليعة« جيش الاحتلال الاميركي الذي شطب العراق ـ الدولة ـ عن الخريطة، اما شعبه فقد اعاده الى مكوناته البدائية.يواصل شوقي رحلته مع مهدي، فيعبران بفندقي »فلسطين« و»عشتار«، ويستذكر الشاعر العراقي ليلة نامها هناك في آخر زيارة له لبغداد، في كانون الاول ،2003 بعد 34 سنة من الانقطاع عنها… وفي شارع السعدون يفتقد الاضواء والموسيقى وصالات السينما والبارات والمقاهي، وإلى يمينه حي البتاوين الذي يسكنه المسيحيون، وإلى يساره النهر وشارع ابي نواس، هذا الركن الاسطوري من بغداد.يُفاجَأ شوقي بالجدار الفاصل »الذي يذكّر بذاك الذي كان يفصل بين الشرق والغرب، وكما يقال اليوم بين فلسطين واسرائيل«. يتساءل: ترى لماذا؟! لكن أحداً لم يسعف شوقي عبد الأمير بالجواب. أما حي »كرادة مريم«، الذي ما زال منطقة محرمة حتى بعد سقوط الدكتاتور، فصار ما يعرف اليوم بـ»المنطقة الخضراء« وهي محصنة بأعلى الخراسانات المسلحة ومدججة بكل الاسلحة، تعيش وتعمل فيها المؤسسات الحيوية للنظام الجديد، ففيها الحكومة والبرلمان والسفارات وكل الشخصيات الوطنية والاجنبية.يفاجأ شوقي عبد الأمير بالجندي الاميركي يطلب منه »الاطلاع على جهاز الموبايل الذي بيدي، ليصيح بعدما تأمله »ايها المسيح الرب«، لأنه رأى على شاشته »صورة ابني الصغير« انائيل »الذي يبلغ احد عشر عاما وعلى وجهه في الصورة ابتسامة بريئة ساحرة. ترى هل هو الذي ذكّر هذا الجندي المؤمن بالمسيح؟ واذا كان الامر كذلك فلماذا رفض دخولنا«. لا يخبرنا شوقي ماذا يفعل الجندي الاميركي في قلب بغداد، يفتش ابناءها وقد يحتجزهم، لكنه لا يمنع عنهم الموت قتلا، او في المعتقلات، او في انفجارات »الارهابيين«؟!يستعرض شوقي عبد الأمير في كتاب اليوم الواحد بغداد جميعا، بشوارعها وساحاتها، بالتماثيل والمكتبات ودور السينما والمقاهي التي تعيش في ذاكرته، مثل مدينة الطب، ساحة عنتر، حيث كان يقوم التمثال الذي اقامه الفنان العراقي الراحل ميران السعدي… ليخلص الى استنتاج محدد: اليوم تقطعت بغداد الى جزر صغيرة على أساس طائفي حيث يُقتل او يهجر كل من يعيش في حي غالبيته من الطائفة الأخرى.لكن اين شارع المتنبي وماذا حدث له؟!»من اين جاء هذا القاتل الغريب الاطوار، هذا التنين الغيهبي الذي لا يطيق ان يسمع باسم المتنبي، وهل هو سليل فكر ديني ام مد وبائي. رأى بعينيه على جميع الشاشات كيف تناثرت الكتب والأشلاء في هواء الشارع، واحترقت معا العيون والكلمات والأيدي والصفحات. الشعر والارواح كلها تصاعدت دخانا امتزج وتعالى في سماء المكان«.ترى، أين كان ذلك الجندي الاميركي »العابر« حين اقتُحم المتنبي، ديوانه وشارعه والمكتبات؟»نساء المنكر«… و»هيئة« المكفر!ليست رواية »نساء المنكر« النشيد البكائي الاول في المأساة، الذي يُفرض على »الحريم« في المملكة التي لا تعترف الا بالرجال، نافية وجود »الامهات« اللواتي اعطينهم الحياة ورعينهم، وكذلك الاخوات الشقيقات، والحبيبات اللواتي قد يصرن زوجات، وقد يحكم عليهن القدر ورجال »الهيئة« بأن يقعن في شباك الحب لينتهين في المعتقلات والسجون كأنهن »بغايا« فاجرات وخارجات على مبادئ الشرع الحنيف.وقد لا تكون رواية »نساء المنكر« التي تحمل اسم كاتبتها سمر المقرن، (ونحن لا نعرف هل هو »مستعار« من باب »التقية« ام ان مبدعته قررت ان تتحدى سلطة القهر غير عابئة بالنتائج التي ستكون مخزية بقدر ما تكون مفجعة)، هي افضل ما كتب في سياق توصيف حال »الحريم« في ظل المعاملة الوحشية التي يمارسها عليهن رجال يفترضون ان كل امرأة خاطئة الى ان يثبت العكس، وهيهات ان يثبت. لكن سمر المقرن اجتهدت في ان تعرّف الناس، كل الناس، الى الأساليب الوحشية التي يستخدمها هؤلاء الذين يقتلون كرامة الانسان وحريته وحقوقه باسم التعاليم الدينية، التي ما كانت اصلاً الا من اجل كرامة الانسان وحقوقه وحريته.على ان سمر المقرن جمعت بين دفتي هذه الرواية عدداً من المآسي المتشابهة في جوهرها وإن اختلفت في تفاصيل القهر والاذلال واحتقار الكرامة الانسانية، وقدمتها كشهادة، ليس فقط على قسوة الجلاوزة الذين يُنفرون الناس من الدين، بل كذلك على انعكاسات هذه المعاملة الوحشية على الحب وكل ما اتصل به من علاقات انسانية.نقلت من المعتقلات ومن السجون قصص تعذيب وعمليات تشهير تسببت في كوارث اجتماعية، اذ دمرت العلاقات العائلية وخربت بيوتا كانت آمنة.روت قصص حب جميلة، انتهت بمآس قبل ان تتكامل لتبني أسراً، وقدمت لوحات ـ شهادات عن طريقة تعامل رجال الهيئة الذين يسير رجال الشرطة في ركابهم، وهم يتوجهون لمكافحة الحب باعتباره إثما، ويخترقون حرمة البيوت ليقتادوا من »يضبطون« داخلها الى لجان التحقيق التي يُدين »قضاتها« من قبل ان يستمعوا الى افادات الخطاة، ويقتحمون المطاعم التي فيها اجنحة للعائلات »ليكتشفوا« من تسلل إليها من الاحبة الذين لا يجدون مكاناً للتلاقي، ولو عن بعد، إلا فيها:»قبل ان اكمل الجملة الاخيرة، سمعت الاصوات تتعالى في المطعم، وفتيات صغيرات يصرخن: »الهيئة«. لم نتحرك. ثبت كل منا في مقعده. ولم تمض ثلاثون ثانية حتى وجدنا من يسحب الحاجز ويرميه على الارض، وأنا ورئيف نشاهد ما يفعل بدهشة: »قم معنا… يلله«. رد عليه رئيف بهدوء: »الى اين، ولماذا؟!، جاءنا الجواب: »لا تكثر الكلام، قم قدامي وإلا سحبتك. قم يا علماني، يلله، مانبي حكي كثير، وانت تعرف السبب«.نهض رئيف ملتفتا نحوي: »وزوجتي؟!«.»ـ والله، زوجتك خائف عليها؟! اللي عنده محارم يخاف عليهم ما يجيبهم هالاماكن متبرجات…«.ارتفع صوت رجل »الهيئة« وبدأ بالصراخ، بينما انقض على رئيف اربعة من الملتحين وخامسهم جندي ببذلة عسكرية، فكتفوه وسحبوه وأنا ابكي، واذا بسادس يجرني من عباءتي: »قدامي يا الداشرة«.رأيتهم يلقون برئيف في مؤخرة سيارتهم الصالون. حملوه ورموه امامي كأنه خروف. فزعت من هذا المشهد وصرخت لعل الناس تنجدنا فهوى رجل الهيئة بيده على وجهي حتى شعرت بأنني افقد البصر… ثم انهم سحبوني في اتجاه سيارة ليموزين صغيرة وأنا اصرخ: رئيف، لا تتركني، أنا خائفة!مضت السيارة التي نقلوه فيها، وجلست على الأرض في مقاومة مني لقوتهم، فراح الرجل يجرني على الاسفلت حتى رأيت دمي بجري عليه«.هذه لمحات من واحدة من المآسي (اليومية) التي تقع باسم الذود عن حياض الشرع، والتي يمارسها »رجال« بلحى مدببة لا شيء يشهد لهم بأنهم »مطهرون«، وإن كانوا محصنين ضد »الحب«، بل ضد المشاعر الانسانية جميعا.لعلها اقصر طريق لتفكيك الأسر. ولعلها انجع الوسائل في نشر الخروج على المألوف. فإن تحرم الحب وتطارد المحبين كأنك تشجع الزنى، وتدمر الروابط الانسانية.الوحشية في الظلم، القمع، قهر الارادة، وأد المشاعر الانسانية النبيلة، كل ذلك سيقود الى الخطأ… فكيف اذا ما كانت »الهيئة« هي المكلفة باصلاح امر المجتمع، ورجالها يأتون من قلب الجاهلية ومن اعراف التخلف والكراهية والحقد؟!نساء المنكر. ترى بماذا نسمي الرجال، يا سمر؟!حلمي التوني: خليك في البيتكم كنا نتمنى لو ان الفنان التشكيلي الكبير حلمي التوني قد استمع فلبى نداء عظيمتنا فيروز »خليك بالبيت«… مع وعينا بأن بقاءه الطويل في »السفير« ربما أضر بفنه الجميل، فخسرنا هذا الكنز العظيم من لوحاته التي اضافت الى الثروة الفنية في مصر والوطن العربي الكثير من الابداعات.لكن الفنان الكبير الذي طالما شهدت له بحقه واعترفت بفضله في ابداع »رمزها التجاري«، اي الحمامة باللون البرتقالي، و»الماكيت« التي ساهمت في اعطاء »السفير« شخصيتها المميزة، اراد ـ بعد 34 سنة ونيف ـ ان يستعيد هذه التجربة، فأشار إليها في مقابلته مع الزميل زاهي وهبي في برنامجه الناجح »خليك في البيت«… وهذا حقه الطبيعي.لم تنكر »السفير« في اي يوم جهداً بذله اي زميل، سواء في فترة التأسيس، او على امتداد تاريخها، سواء في اخراجها او في تحريرها… فهي، ككل عمل ناجح، لكل من اسهم في تحقيقه نصيب. والحمد لله ان »طلال سلمان لم يكن وحده« في اي يوم، كما قال حلمي التوني صادقاً في مقابلته. وللبيان، وليس للرد، حرر.مـن أقـوال نسـمةقال لي »نســمة« الذي لم تعــرف له مهـــنة إلا الحب:الحب ان تغلب الروح في الانسان على همومه ومشاغله واعبائه، فتعطيه قدرة هائلة على المقاومة وحفظ قلبه، بمن يضمهم، سليما.الحب ان ترى في الانسان اجمل ما فيه، وان تغض الطرف عن عيوبه.الحب عافية… احبوا تصحوا!

Exit mobile version