عن مدينة بلا قلب تعيش أبداً يومها الأخير!
قبل نصف قرن، تقريبا، أصدر شاعر شاب اسمه احمد عبد المعطي حجازي ديوانه الأول مدينة بلا قلب . كان الشعر، بعدُ، نتاج الوجدان والقلب والرؤى الخارقة للأحلام أكثر مما هو معادلات رياضية وتركيبات كيميائية، كثيرا ما تتفجر بقارئها قبل ان تُدخله نعيم المتذوقين من أهل النخبة، او تنبذه فتشطبه بالعلامة اللاغية.
كان الشاعر الفتى القادم من الريف يعاني صدمة المدينة… فأين قريته تلا في محافظة الفيوم، التائهة في البحر الزراعي الأخضر القائم على حراسته النخيل، من قاهرة المعز بزحام ملايينها الضاغط على الأعصاب، ولا سيما أنه هو الوافد الغريب قد عانى اضطهاد الأغراب الذين يعبر بهم او يعبرون به، فلا أحد يحييه بحرارة الصديق، ولا أحد يدعوه الى منزله بشوق القريب العائد بعد غياب، او بلهفة الزميل او رفيق الدراسة وشريك الاستمتاع بأوقات الفراغ.
هل تبدو هذه الكلمات حديثا عن زمن آخر؟ فالقاهرة اليوم مدينة بلا قلب فعلا، بمعنى وسط المدينة، حيث تتركز الأنشطة جميعا: مؤسسات الدولة والادارات الرسمية، المصارف والشركات الكبرى، المتاجر ودُور السينما والمقاهي والمسارح ودُور العبادة، والميادين التي تحدد الجهات الأربع وتُعينك على معرفة الطريق الى بيتك!
لقد صارت مدناً… لكنها جميعا بلا قلب.
… وهذه حال بيروت اليوم التي قد يصلح وسطها التجاري لأي وظيفة أخرى (اقتصادية على وجه الخصوص، او ربما سياحية)، لكنه لا يصلح كقلب للمليون من سكان هذه المدينة الهائلة الحيوية، والتي باتت بالنسبة للعرب خصوصا اشبه بتعويذة او سبحة صلاة برغم جاذبيتها غير المحدودة لمن يأتيها كي يحاور نفسه وغيره، او كي يستمتع بمناخها الانساني المفتوح، قبل الحديث عن مقاهيها وملاهيها ونواديها الخاصة، وتلك الأخص، التي يعرف طريقها أهل النفط وترفض استقبال أهل السخط.. والغضب الساطع!
[[[
في الأيام الأخيرة من السنة تزاحمت الأعياد حتى ضاقت بها الروزنامة .
… والأعياد إجازات، والاجازات جلاّبة أصدقاء، او مغتربين عائدين لتفقد الوطن ومن بقي من أبنائه فيه!
ولم تكن الظروف تسمح بإكرام الضيوف وتنظيم برنامج ممتع لهم خلال هذه الاجازة القصيرة التي سقطت في لحظة احتدام سياسي خطير في البلد الصغير الذي فرض عليه (قدره) ان يعيش فوق فوهة بركان. ومع ذلك كان عليه ان يجتهد مع ضيوفه في أمرين: ان يبرر لهم المشاهد غير المألوفة العاكسة للأحوال الاستثنائية التي يعيشها لبنان، ثم ان يقنعهم بأن ما يطالعهم على الأرض، أو يطالعونه في المجلات والصحف، او يطلع عليهم من بطون الشاشات الصغيرة، فضائية بالأساس، لن يؤثر في مشاريعهم التي استقدمتهم الى بيروت ليتخذوها مقرا.
[[[
المشكلة الأولى التي واجهته تمثلت في الواقع الفضّاح في الشارع : لم تعد بيروت مدينة. صارت قطاعات عسكرية عدة… اقتطع كل قيادي لنفسه بعض أحياء المدينة، فسوّر مربعه بالأمنين الخاص والعام، وسط ترحيب جيرانه الرهائن ، والذين اسعدتهم هذه الشراكة الاضطرارية في وجاهة الزعامة… لقد وجدوا فيها تعويضا عن المخاطر التي فرض عليهم ان يتحملوها نتيجة المصادفات القدرية التي جعلت القيادات تجاورهم من دون ان تسألهم رأيهم… وشكرا لها لأنها لم تسألهم!
ثم إن بيروت، كما تكشفت له عبر جولته مع ضيوفه، لم تعد مدينة واحدة او موحدة. لقد صارت مدنا عدة لا يربطها الا الجغرافيا، وبعض الملامح العتيقة التي تؤشر الى ماض مشترك.
الشاطئ، بامتداده الطويل، لأصحاب الثروات الطائلة التي لم يدنسها عرق الجباه. ما زال يسمح للفقراء بالمشي فوق الرصيف، او الهرولة للتريض. ومع ان النظر الى شواهق العمارات التي تُوزَن الشقق فيها بأرطال الذهب، ما زال مسموحا، إلا ان الاقتراب من مداخلها التي يقوم على حراستها الرجال المربعة زنودهم والمدببة خصورهم بوسائل الحراسة، أمر غير مستحب.
التلال المحيطة الممتدة شمالا وشرقا للوجاهات السياسية والاجتماعية، ومعظمهم ممن عملوا طويلا في انهاض اقطار النفط العربي، ثم نهضوا معها واخترقوا خضرة التلال بالقصور والدور الأنيقة بعدما لطّف الثراء الذوق الريفي.
أما التلال الى الجنوب فهي، حتى اشعار آخر، للذين غادروا فقرهم ولم يصلوا الى الثراء الخليجي بعد… وان كان الخليج قد دخل الى ملاهيهم في انماط من الغناء يتجاور فيها الهندي والافريقي، وانماط من الرقص يحاول فيها الجسد ان يكمل ما تلمح اليه كلمات الأغنية المسحوقة بايقاعات الطبلة التي تستدر ذكريات القوافل العابرة بسفن البحر، او بسفن الصحراء على وجه الخصوص.
الأحياء القديمة في المدينة للفقراء الوافدين يزاحمون الفقراء الاصليين الذين يغادرون الى حيث يشترون بعض الهواء النقي بما باعوا به ذكرياتهم وجيرانهم في الأحياء التي لها تاريخ أهمله التاريخ.
أما الأحياء الجديدة او المجددة بعماراتها وأبراجها الشاهقة فلا مجال فيها للفقراء او لمتوسطي الحال.
غدت المدينة بلا قلب فعلا، لا مجال لان يعيش فيها الا من وضع في صدره طنا من الدولارات، وعطل قلبه.
ثم ان المدينة التي شطرتها الخلافات السياسية صارت مدنا متواجهة، يتناقص فيها المشترك يوما بعد يوم: المسرح هنا غير المسرح هناك. الأفلام التي تُعرض هنا ليست بالضرورة تلك التي تُعرض لأصحاب المزاج المختلف هناك. الصور في الشارع هنا غير الصور في الشارع الآخر. اللغة في المنازل هنا غير اللغة في المنازل المختلفة هناك.
انت والآخر. الآخر وانت. لستما واحداً. لستما اثنين. انتما اربعة، عشرة ربما، مئة ربما.
[[[
في ظل الجنون السياسي الذي يحكم البلاد فإن جنونا من طبيعة اخرى يحكم العباد. من السهل تحويل السياسة الى طائفيات ومذهبيات. لا يحتاج تزوير الشعارات من أجل استيلاد الفتنة الى جهود خارقة.
يتصرف الناس الذين وضعتهم ظروفهم في المدينة من دون ان ينصهروا فيها، كأنهم على حافة… جهنم!
يتبدى السياسيون في صورة المحاربين الذين يخوضون معركتهم الأخيرة!
أما الناس فيتصرفون كأنما يعيشون يومهم الأخير!
ربما لهذا يُظهرون هذا الشغف بالحياة. لعلهم بالاندفاع الى حلبات الرقص والدبكة، والى رفع اصواتهم بالغناء، ولو نشازا، يؤكدون انهم أبناء الحياة.
وفي الليلة المنتظرة كأنها البشرى بتحقيق الاماني جميعاً، خرج الناس الى الشارع يرددون بجنون حبهم للحياة على من يريد ان يقرر لهم حياتهم وموتهم، بما يضمن له ان يعيش بعدهم طويلا.
حتى المحروم من الحب استعار بعضا من ود الاصدقاء وكرم ضيافتهم، ما يعوضه حبه الذي تأخر وصوله لأسباب طارئة..
[[[
قال واحد من الضيوف: لكأنكم، في لبنان، تعيشون يومكم الأخير!.
رد عليه ضيف آخر: عرفت لبنان منذ ثلاثين عاماً او يزيد…
وكلما جئت الى اصدقائي اللبنانيين وجدتهم يعيشون يومهم كأنه الأول في حياة جديدة. لقد عاش كل لبناني الف حياة، ربما الفين، ربما ثلاثة آلاف حياة على حافة الموت. ربما لهذا لم يعد يخاف الموت..
قال كبير الجلسة: فهمت الآن مغزى استذكار احمد عبد المعطي حجازي وديوانه الأول عن المدينة البلا قلب… لكن بيروت مدينة بحجم قلب.
قال الدليل اللبناني: لقد بيع قلب بيروت قطعا قطعا، وشققا مفروشة. لقد صارت مدينة العالم، لكن أين نحن فيها؟! كنا نتلاقى جميعاً في قلبها. نعمل معاً. نأكل معاً. نتاجر معاً. تزدحم ساحتها بنا، نهاراً حين ننزل اليها من اريافنا لنشعر بأننا متحضرون ، وليلاً لنحظى ببعض المتعة الحلال. وكانت تضمنا جميعا، بلا تمييز. أما الآن فقد صار لكل حي او شارع تسعيرته، والحراس والجباة القائمون على المداخل. فإن كان دخلك اقل من التعرفة منعوك من الدخول ولو كزائر.
المدينة غابة من أبراج الذهب وأسوار القيادات المقدسة.. فأين المدخل… وأين المقر؟!
[[[
آخر الكلام: سمعت الناس يتبادلون التهاني بالعام الجديد، ويهنئون بعضهم البعض بانطفاء العام المنصرم… حزنت! لقد عاشوا ذلك العام ثم انكروه ولعنوه.
حكاية / التي أعطت السنة اسمها
القاعة ضيقة لا تتسع الا لعشاق الفرح، وزهو المطربة يتجاوز صوتها الى الجمهور الذي احتشد وقد اتخذ القرار بأن يغلق الباب على مناخ الحرب في الخارج ، وان يعيش ليلته هذه كأنها العمر.
امتد الليل مع صوت الفرح، واحتضن كل حبيب حبيبه، فإذا الجنة مفتوحة الأبواب بلا حرس، تستدعي عشاق الحياة كي يستمتعوا بترانيم الملائكة وقد اختلطت بهمهمات المتعانقين وهمسات الذين أسعدهم التلاقي بعد افتراق في أحضان الرغبة.
الفرح لا يحتاج الى دعوة. أما الحب فيترقرق في العيون، تنبض به القلوب والأيدي والشفاه… يتعانق اثنان فإذا الجمع كله غارق في عناق لا يريد أي مشارك فيه ان ينتهي.
الفرح يصفي القلوب والضمائر والخواطر. يعيد صياغة الأحلام.
يطرد كوابيس الغيرة والتظلم والتشكي من الهجر.
ترنمت المطربة بآهات المحبين المحتشدين من حولها. استعارت بعض فرحهم لتتغلب على حزنها المعتق. انها تقهر عذاب الهجر بفرح الآخرين.
لمرة، يرغب الكل في ان يستطيل الليل، وان يستغرق ديك الفجر في نومه. لا بأس ان خسرنا يوماً لنربح عمراً.
أما عاشقة الفرح تلك التي نثرت حبها على الساهرين جميعاً وبقي عندها ما يكفي من المدينة، فقد أعطت السنة الجديدة اسمها والعنوان.
ومع خيوط الشمس الأولى كانت صورتها ترتسم في الأفق ابتسامة عريضة تقهر شبح الحرب، وتطرده الى أعماق البحار البعيدة.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
أراد العاشق ان يسبق الى تهنئة حبيبه بالعيد، فجاءه الرد: ما دمت لم تجئ إلي فمن أين يأتي الزمان الجديد. العيد ان تأتيني. وها أنا أنتظر على رصيف الذين غابوا في أحضان أعيادهم!