طلال سلمان

هوامش

عن الاستقلال في غيابه .. عن تقي الدين الصلح في حضوره
في القاعة العابقة بأنفاس من المبدعين وهم يتحدثون عن أسلافهم وأساتذتهم من المبدعين الذين أعطونا نتاجهم، ومضوا، كان الاحتفال بالذكرى العشرين لغياب تقي الدين الصلح.. وكان لافتاً ان الاستقلال غاب هو الآخر، عن ذكراه الستين.. مع ذلك، تلاقى بعض رفاق الزمن الجميل، وكانت كلمات بينها هذا المقتطف :
خي!. سنستطيع أخيراً، هنا، ومعكم، أن نتنفس ملء الصدور هواء نقياً، نعيد للكلمة بعض اعتبارها فتعيد إلينا بعضا من احترام الذات، بعدما أخذتنا المجادلات المحتدمة بالمزايدة والمناقصة خارج السياسة، ورمتنا في مستنقعات الطائفية والمذهبية والعبثية التي تداني الانتحار.
هنا، مع الحركة الثقافية انطلياس، وعبر هذه النخبة الخارجة على الحشود، ومع تقي الدين الصلح وعبر الحديث عنه، سنضطر الى الارتقاء بالكلمة والمعنى الى مستوى لم يعد مألوفا، بعدما سيطرت الأمية السياسية والمزايدة بالجهل والجهالة على العمل العام.
تكفي مقارنة سريعة ومرتجلة بين تقي الدين الصلح، بمعارفه ومعلوماته وصلاته وصداقاته وتجربته وخبراته، داخل لبنان ثم في البلاد العربية جميعا، القريبة منها قرب العين من العين، والبعيدة منها بعد الكتف عن الكتف، وبين الكثرة الكاثرة من سياسيي هذه الأيام والمتصدين للقيادة، لنكتشف كم تراجعت حياتنا السياسية، وكم تردت لغة التعبير عن واقعنا المفجع، حتى ليمكن القول بلا خوف من الزلل ان القاعدة، تحت، أرقى ممن يعتلون القمة فوق، ثقافة وعلما ومعرفة وإيمانا بالأرض والهوية.
وليس تشهيرا بالذات أن نقول: ان معظم من يحكم اللبنانيين أو يتحكم بهم اليوم لا يعرف لبنان، لا بواقعه ولا بتاريخه، ومن باب أولى انه لا يعرف سوريا ولا يعرف فلسطين، ولا يعرف بالتالي حبل السرة الذي يربط بينها، قبل أن نصل الى مصر ودورها المتصل في هذا المشرق الذي يشكل بوابة أمنها القومي بقدر ما تشكل ترس الدفاع عنه وحمايته، وقبل أن نندفع باحثين على العراق، ولا عراق، ومن ثم فلا عروبة للخليج. أما السعودية فتجهد لصوغ دور سياسي من ائتلاف النفط والإيمان فإذا هو محكوم تارة بشروط السوق وتارة بالغيب وكلاهما خارج اليد والقدرة على اتخاذ القرار.
… ربما لهذا ومثله صارت جمهوريتنا بلا رأس، وترك لبنان في حماية الفراغ المنظم.
[[[
في زمن البؤس صار الاستقلال ذكرى موجعة حتى ليصعب الاحتفال به. بل لقد وجد من يستولد من الأول استقلالا ثانيا، وها نحن نسمع عن استقلال ثالث، وكأن انتصار إرادة التحرر موضة يتفنن المبتكرون في تحديثها، بالحذف والإضافة، بين الحين والآخر، حتى تلائم الذوق، في حين أن مصدرها الوجدان وأن طريقها المستقبل.
والاستقلال في لبنان مطعّم بقدر من الصلحية، سواء في نسخته الأولى، استقلال الدولة، أو في نسخته الثانية دولة الاستقلال… وفي هذه وتلك بعض من نفحات تقي الدين الصلح ولمساته بالاشتراك مع الراحل الكبير نصري المعلوف، سواء في الميثاق الوطني الذي أعد ليكون البيان التأسيسي، لحكومة الاستقلال الأول، أو في خطاب العرش الذي اتخذ منه الرئيس اللواء فؤاد شهاب دليل العمل لبناء دولة الاستقلال.
ومع الاستقلال الذي يفتقد عيده، ورجاله، تحضر كوكبة من الصلحيين، لكل مجتهد منهم نصيب، ويسعدنا أن يكون كبير منهم معنا، هنا اليوم هو أستاذنا منح الصلح.
وطالما دخلنا خانة الحديث الحميم، فقد أسعدنا تقي الدين الصلح بزياراته شبه الأسبوعية في السفير ، حيث كان يلتف حوله أركان الأسرة يسألون ويستوضحون ويستفسرون ويجيب بذهن متوقد، فإذا الماضي يفسر الحاضر، وإذا الجغرافيا تفسر التاريخ، وإذا الماضي والحاضر والتاريخ والجغرافيا تفسر معا المستقبل.
لكأنها ميزة صلحية هذه المعرفة الموسوعية بالمنطقة وأهلها: أسرا ملكية حاكمة، وضباطا ثوريين، عشائر وقبائل وأعراقا وروابط مصاهرة وصلات نسب ممتدة جسورا بين ما كان وما سيكون.
في زمن الحرب الثالثة أو الرابعة، لا فرق، كان تقي الدين الصلح يرخي عباءته على كتفيه ويدور يبحث عن نفسه في أصدقائه وحتى في خصومه الذين ظلوا أقوى من أن يحتاجوا الى السلاح.
… لكأنها حرب على الناس عموماً وآل الصلح خصوصاً، فهي تكاد تدمر ليس فقط الأماكن الأليفة ومهاجع الذكريات الحميمة بل كذلك معالم ما كانته بيروت قبل أن تتوحش. هذا إضافة الى الأنماط المألوفة والمعروفة في العمل السياسي، وإضافة الى تراث الميثاق الوطني أو ما كان يسمى الصيغة الفريدة، وفي لغة بشير الجميل المدموزيل فريدة.
لهذا فتقي الدين الصلح يدور كالهائم على وجهه هذه الأيام. يفتقد في بيروت بيروت (والبيارتة). ويفتقد في لبنان الصيغة وحكم الصيغة (وأهلها). ويفتقد التواصل الذي يعتبر انه كان آخر من حققه في حكومة كل لبنان الشهيرة العام .1973
على هامش سيرة اللغة لا بد من الإشارة الى أن تقي الدين الصلح الذي عمل في كل شيء: العمل الدبلوماسي، إدارة الدولة، التدريس، تأسيس الأحزاب العلنية والسرية، قبل أن يصل النيابة (بالنفوذ وأصحابه وليس بالأصوات) ثم الى الوزارة فرئاستها. قد عرف الصحافة مبكرا فأسس في ربيعه الحادي والعشرين جريدة النداء سنة 1930 مع شقيقه كاظم، وهي الجريدة التي كانت نواة الحزب الذي ظهر بشكل أولي العام 1937 الميثاق القومي ، وكان بين قيادييه إضافة الى الصلحيين يوسف السودا والدكتور سليم إدريس ثم ظهر مرة أخرى كأول مولود استقلالي، وتحت اسم النداء القومي سنة .1945
ولرياض الصلح في دنيا تقي الدين الصلح مجلس دائم لا ينفض سامره ولا يتوقف ذكره. حتى ليخيل اليك أن الرجلين روح في جسدين، وأن الباقي هو امتداد للراحل وان منحا هو امتداد العم بعد العمر الطويل وان أولاد الأشقاء أو حفدتهم سيكملون رسالة العائلة التي فرّعت نفسها كأنما بقرار بين دمشق وصيدا وبيروت.
وبين النوادر المروية على لسان تقي الدين الصلح أن أحد وجهاء بيروت (المرحوم عمر بيهم) كان لا يفتأ يذكر بأن آل الصلح جاؤوا من صيدا بينما آل بيهم كانوا في بيروت. فكان رد تقي الدين: كنا في دمشق لما كان الوالي في دمشق، وصرنا في صيدا لما صارت مقر الوالي، فلما صارت بيروت ولاية جئنا بيروت. أنتم الولاية ونحن الولاة.
وبعد اللغة القيافة. المميزة بالطربوش الذي يكاد يصبح علامة فارقة في الحياة السياسية اللبنانية. ثم العباءة المغربية شتاء، مع ربطة العنق الكلاسيكية المعتقة مع حمام الورد للوجه والصلعة، بعد الحمام الصباحي.
ولهذه القيافة مجالس وشروح. لماذا هذا؟ ومتى ذاك؟ وبأية نسبة؟ ودور الست فدوى في ذلك كله؟
وربما بفضل المعرفة والتجربة والخبرة والتراث. تكتسب لغة تقي الدين الصلح تلك الرنة التاريخية المميزة. ويعكس حديثه عموما استشفافا للتاريخ ووعيا به ندر أن تجد له شبيها عند محترفي اللعبة السياسية في لبنان.
فوفق المدرسة الصلحية أعط المسيحي من السلطة ما يلغي خوفه من الأكثرية الاسلامية وبالتالي شعوره بالحاجة الى الغرب كضامن أو عنصر حماية، وبالطبع فمن حق المسيحي على أمته أن توفر مباشرة هذه الضمانات.
وبين قواعد العمل عند تقي الدين الصلح: لقد قام هذا البلد على صيغة اذا انتهت تنتهي معها مبررات وجوده، فكيف يمكن لي أن أقبل ببلد غير متمايز يغني المنطقة ويكون عامل إثراء لها؟! عندها لا أجد مبررا للبلد على الإطلاق. أهمية البلد في تمايزه بنظامه وحرياته وعلاقاته ومستواه الاجتماعي والثقافي. وإلا فلتكن الوحدة… نحن وحدويون وقوميون في الأساس. لقد قالوا ان الأقليات الطائفية تخشى على نفسها من البحر الإسلامي في المنطقة وكان جواب العام 1943: فليكن على شاطئ هذا البحر الكبير، بيسين، صغير يضيف الى البحر ولا يُنقص منه ويعكر جوه. وهنا الآن يجب أن يتركز على تنظيف البيسين ، ومده بالكلور، اذا لزم الأمر، لا على إلغائه واقتلاع حجارته من الجذور .
انتهى الحفل البسيط، وخرج المحتفلون من القاعة التي اكتظت بعواطفهم ليجدوا تقي الدين الصلح في انتظارهم، بعدما استدعاه عمر زين بقصيدة حب.

[ مقتبس من كلمة ألقيت بدعوة من الحركة الثقافية انطلياس لتكريم تقي الدين الصلح في الذكرى العشرين لغيابه.
من أناشيد الرعاة: حياتك حياتان
قرأت في أناشيد الرعاة قصيدة جميلة حقاً، فاستأذنت ان أعيد نشر أبياتها، وهذه هي:
لا تطلب من حياتك أكثر مما تعطيها..
الحياة كريمة جداً، لكنها تطلب منك أن تكون كريماً مثلها،
إن لم تسع إلى الحب ولم تقبله متى اقتحمك، فلا تتوقع منه ان يقعي مثل كلبك عند الباب وقد لف ذيله منتظراً اشارة منك كي يسير في ركابك نحو رغباتك.
حياتك حياتان: أنت وحبيبك،
تخسر نفسك حين تخسر حبيبك، وتخسران الحياة متى خسر واحدكما الآخر.
ان كنت تعرف الغناء فأطلق صوتك بحبك،
ان كنت تعزف الناي فأسمع حبيبك اللحن الشجي.
الحياة لاثنين، يخسر الأول فلا يربح الثاني.
الحياة لإثنين، لا وقت للمفرد فيها .
عباءات للعتاب…
تولد الأحلام في الليل ولكنها لا تسكنه ولا تتخفى داخل العباءات التي تجر صاحباتها أذيالها خلفهن، ربما لمحو آثار أقدامهن وتضليل من يغامر باقتفاء شميم العطر.
ينبثق الحلم كفجر، كينبوع شعر، وينساب رقيقاً رقيقاً، فيحملك الى أفياء جنته، ويمتنع عليك إن أنت حاولت القبض عليه واسترهانه في كتيب مغامراتك الخاصة…
وفي تلك الساعة، وتحديداً في ذلك المكان، لم يكن من متسع للأحلام. كان الوقت ظهراً، والعربة ضيقة على من طلب إليهم الاحتشاد فيها ليؤخذوا الى حيث سيشهدون استيلاد الثقافة من الدولار.
سمع صوتها وقد رفعته تذمراً… التفت صوبها فاصطدم بالخمار الأسود، فغض طرفه بسرعة، لكن صوتها لحق به مستهجناً: ألم تعرفني؟ هل غيرني الثوب فصرت غريبة عنك؟
أخجله العتاب، لكن العباءة السوداء كانت تلقي بظلالها حتى على الصوت، فغمغم بما يشبه الاعتذار: في بلاد الحجاب تعودت أن أغض طرفي ما بدت لي جارتي…
ضحكت وهي تقول مناقضة معنى بيت الشعر المعروف: فإن لم يكن لجارتك مأوى يواريها؟
ضحك، فأغرقت في الضحك، وتوالى انهيار الأستار السوداء التي تغطي معظم الوجه وتنداح ليلاً يغلف كل شيء إلا الروح…
قالت وهي تكشف قلبها: ولكنني أنا…
وسافر في رحلة صمت طويلة بين الدين والدنيا. بين المشاعر التي تدر كتباً والشعائر التي تلغي القراءة.
وعندما وصلا الى حيث سيعودان تلميذين كانا قد نسيا الأبجدية!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أشجاني حتى أبكاني ذلك العاشق الذي سمعته يقول لحبيبه لائماً: لو أنك أحببتني أقل لكنت لك أكثر!
مع الحب لا حدود. هو الطوفان دائماً، فلنستعدّ له بأقله وأكثره.

Exit mobile version