طلال سلمان

هوامش

نواقيس محمد الزواوي تقرع لمن لا يسمعون!
استوقفني اسم محمد الزواوي منذ أول لوحة كاريكاتورية وقعت عليها عيني في بعض الصحف المحكومة بالقيد الثوري في ليبيا معمر القذافي، قبل ثلاثين عاما أو يزيد.
كان الحظ عفياً، وكانت الفكرة باهرة بوضوحها، فلا تحتاج الى كلام.
قفزت الى ذهني، على الفور، أسماء رسامين كبار في القاهرة، وقد عرفت العديد منهم، أو أسماء رسامين عالميين كنت أتابع أعمالهم في بعض الصحف الفرنسية والبريطانية. وقال لي بهاجيجو : هذا الغول سيلتهمنا جميعاً…
تابعت أعمال محمد الزواوي بشغف، ورغبت بالتعرف إليه، ففهمت أنه ينطوي على نفسه، وأنه قليل الخروج، وأن رسومه الأروع هي تلك التي لا ينشرها.
ولم يكن صعباً عليّ أن أفهم أن رسام الكاريكاتور السوي، والذي عقله في عينه، وريشته تستمد حبرها من مشاهداته التي يستوقفها الغلط ويستفزها، لا يمكن أن يكون مواليا حتى للثورة التي تفقد قداستها ووهجها حين تصير سلطة.
ثم غابت عني رسوم الزواوي، إلا عندما شنت الادارة الاميركية هجوماً حربياً على العاصمة الليبية، وقصفت مقر القيادة في باب العزيزية، ومواقع اخرى، وسقط شهداء بينهم أطفال ونساء… فإذا محمد الزواوي يشهر ريشته ويرد بزخم استعدنا معه الدور المجيد الذي لعبه رسامو الكاريكاتور في مصر، أساساً، وخارجها، في المواجهات مع الاعتداءات بل الحروب التي شنها الغرب، مباشرة أو بواسطة اسرائيل، على مصر وسوريا ولبنان فضلاً عن الفلسطينيين داخل بلادهم وخارجها.
ولان عين رسام الكاريكاتور تكتشف الغلط ولو كان في قلب كومة من القرارات الصحيحة، فقد وجد محمد الزواوي في الفساد الناجم عن التصرفات المرتجلة باسم الثورة، والتي دمرت وتيرة الحياة اليومية لليبيين دون أن توفر لهم البديل السوي، حقيقة، فقد ركز الزواوي الهجوم بريشته على المفسدين في الادارة، ثم على المرتشين حين عمت الرشوة دوائر ما تبقى من الدولة التي حوربت من قبل أن يعرف الثوار كيف تكون، أو كيف يجب أن تكون.
قبل أيام وصلني مجلد ضخم (على الطريقة الليبية) يضم مختارات غنية من إنتاج الرسام المبدع محمد الزواوي، على امتداد ثلاثين سنة أو يزيد، يحمل عنوان نواقيس .
جلست لساعات أقرأ في مجلد الزواوي، الذي قدم له الدكتور زياد علي، وأصدرته اللجنة الشعبية العامة للثقافة والاعلام .
سيد الصمت البليغ … تلك هي الصفة التي التصقت بالزواوي، الذي كان قليل الكلام، والذي كان حذراً الى حد المرض في اختيار أصدقائه، والذي عاش حياته كما اختارها له قدره… فقد كان أهله يقولون إنه قد تلبسه الجان ، وجاؤوا إليه بالفقيه ليبعدهم عنه.
لم أفاجأ بأن أعرف أن محمد الزواوي قد ولد في خيمة في وادي القطارة، على بعد خمسين كيلومتراً عن بنغازي، وأنه عاش طفولته يرعى الابقار… وفقط عندما بلغ السادسة عشرة من عمره، أمكن له أن يعرف المدرسة. ولكنه كان يحب الرسم. وكان يرسم بكل ما تقع عليه يده: بالفحم، بعصارة الاعشاب والزهور، قبل أن يتعرف الى قلم الرصاص.
في مدرسة الامير في بنغازي وجد من يتعاطف مع موهبته: أستاذه محمد الهنيد، والمدرّس المصري الوافد صلاح عبد الخالق… ثم مات والده فكان عليه أن يعمل ليأكل. هكذا ألحقته الواسطة بوظيفة بسيطة في النقطة الرابعة الاميركية ، كرسام للملصقات الارشادية. وفي العام 1961 جرى تنسيبه الى وزارة الاعلام.
المجلد ضخم، فخم الطباعة، وبعض صفحاته بالألوان. ويمكن تقسيمه الى موضوعين: الداخل، بكل مشكلات الفساد الاداري والرشوة وتحقير المواطن والاهمال والجهل والتجهيل والمحسوبية الخ.. ثم الخارج، وأبرز ما فيه الحرب الاميركية على ليبيا وثورتها وسائر العرب، مع تركيز على الحصار الذي فرضته إدارة كلينتون على بلاده، وإن كانت اسرائيل تختصر العدو جميعا بمن فيه الادارة الاميركية.
فلسطين في القلب من هذا المجلد لأنها في القلب من الزواوي: اسرائيل العدو المطلق، والتخاذل العربي، هو حليفها الدائم. ثم انتفاضة الحجارة، وخديعة عودة أهل السلطة الى الاسر في الداخل.
ومع الانتفاضة يطل ناجي العلي الذي لا ينكر الزواوي أنه قد تأثر كثيرا بأسلوبه. وهو يخصه بتحية الشهادة.
فلسطين عند محمد الزواوي هي القضية، منذ البدايات: مجازر الاحتلال في دير ياسين، حتى صبرا وشاتيلا، وصولا الى الانهيار العربي في مواجهة التواطؤ الاميركي الاسرائيلي، وزيارة العار التي أخرج بها السادات مصر من جبهة المواجهة مع العدو بالصلح المنفرد الذي كان اغتيالا للمستقبل، مستقبل مصر كما مستقبل فلسطين وسائر العرب.
وفي المجلد لم ينس الزواوي نضال أي من الشعوب تحت الاحتلال أو المهددة بالاحتلال: العراق، الصومال، البوسنة والهرسك الخ…
على أن بعض صفحات المجلد قد أعطيت لمجلة لا … حيث برع الزواوي في استخدام كلمة لا للتعبير عن موقف الرفض في مواجهة الماضي الرديء كما في مواجهة محاولات تشويه الحاضر بما يضيع المستقبل.
أخيراً وجد محمد الزواوي من ينصفه، قبل أن يجف الحبر في ريشته التي كثيراً ما تحولت الى سيف أو رمح أو قنبلة أو مصباح ينير بعض الطريق الى مستقبل أفضل.
محمد الزواوي رسام عربي كبير ضاقت به بلاده الصغيرة، عدداً، كما ضاق به الوطن العربي الكبير المفرغ من هواء الحرية، برغم الاعداد الهائلة لأهله.
سمية بعلبكي تغني حبنا الأول
لم يكن أحد يرغب في أن يفيق من نشوته ويستعيد وعيه بالمكان والزمان وينتبه الى أن الآه قد بلغت ذروة مداها وتناثرت غماماً يحمله خفيفاً ويطوف به في العوالم المسحورة للنغم المسكر حتى الذوبان.
كانت القاعة المجددة لذلك المسرح الذي له تاريخه الحربي في السياسة القاتلة للحب، عابقة بأنفاس الجمهور التي حبسها طويلاً، ثم أطلقها تأوهات ممدودة تتقاطع مع صرخات مثقلة بوجع التذكر والتشوق الى نسيان الحاضر والتقهقر رجوعاً لاستعادة ما لا يستعاد.
اذا كنت محاصراً بين القتل بالعمد والقتل بالمصادفة فأين المفر؟
هنا كانت بعض قيادات الحرب (الاولى؟ الثانية؟ الثالثة؟..) تخطط لنصر مستحيل على الذات التي فجأة تصير الآخر، ثم يصيرك الآخر أو تصيًّره عدواً، ويتقاطع الرصاص فوق القلب الواحد وتسقط الآخ مضرجة بدماء الجميع.
… ها هي الحرب التي لا تنتهي، وتستهلكنا جيلا بعد جيل، تتوارى، للحظات، مخلية المساحة الضيقة لنقرات على القانون تستدرج عود زياد سحاب الذي يعوض صمته العميق ليقول، فإذا به يفتح المدى عريضاً لمواكب الفرح الآتي طائراً بأجنحة الشوق الى الحياة… والحياة حب.
وحين رفت الفراشة بأجنحة الشوق الى التلاقي، فوق خشبة المسرح، استعاد الجمهور الآتي، يطلب نسيان واقعه، شبابه آهة وراء آهة حتى الموعد الاول في مراهقته التي يخبئها تحت الحنجرة بنقرتين وفوق الصدر بآهتين.
بدت سمية بعلبكي وكأنها تكمل وصلة تغنيها لحبها الاول، للحب الاول لكل الذين أصغوا الى صوتها كما الصلاة، ولولا فواصل المقاطعة بالتصفيق لتبدت تلك المساحة أغنية واحدة لحب وحيد يبدأ به الزمان ولا ينتهي في الزمان.
تمايلت سمية مع آهاتها، ورفت بأجنحة الشوق الى الحب، حتى فاض الحب طوفانا، اذ تدفقت الروافد من أربع زوايا المسرح لتذوب في الصوت المسكر وترتفع كما أذان الفجر عفيا…
لقد منحتنا سمية بعلبكي زياد سحاب ملحناً. ولقد تلاقيا على أرض الزمن الجميل مع ليلى مراد وسيد درويش وعزيزة جلال وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم. وكانت مفاجأة طيبة أن يقتحم إيلي شويري الذي يسرق ألحانه من هواء الثلج المطعم بعطر ياسمين دمشق والذي محجته القاهرة، مع تأشيرة من حلب. وربما لأن الياس كرم من المدرسة ذاتها فقد دخل عليهم بورد الجناين.
من أين استحضر هذا الثنائي بعض أجمل ما نظمه أحمد فؤاد نجم في الحب وهو الذي عرفه الناس مهيجاً سياسياً ومشيعاً للثوار ومغنياً لأبناء الفلاحين؟
أين يختفي نهر الطرب العظيم هذا مخليا المساحة للتأتأة والطقطقة، والمخادعة بموسيقى لا تحتاج الى من يؤلفها وكلمات مفرغة من المعنى يجمعها الناظم عن أي رصيف يتمشى فوقه باعة عرانيس الذرة؟
لم يكن الجمهور حكماً. كانا طرفاً في قضية.
لو تكن سمية بعلبكي ومعها زياد سحاب وسائر الموسيقيين الشبان الذين لا تأخذهم المعاصرة الى إنكار هويتهم، تستعرض صوتها الذي نكاد لا نسمع في أيامنا هذه ما يقاربه قوة وقدرة واستيلاداً للنشوة.
لكن شعوراً بالقلة، بالغربة، بالهوان، كان يثقل على أمسية النشوة تلك: حتى الطرب بات ضحية لزمن القتل والهجانة والاغتراب عن الذات؟
لقد اغتيل الذوق، وتم إعدام المعايير، في الفن كما في السياسة، وصدرت أحكام بفرض الخرس على الصوت الذي ينبع من القلب ويعزز قدراته بالموسيقى الحافظة لوجدان الناس أو المثبتة لهذا الوجدان.
سمية بعلبكي: من الخيانة أن تحبسي صوتك في صدرك. إنه لنا، حقنا، بل إننا بحاجة إليه كمنبع للأمل واستعادة الذات أكثر من حاجتك إليه فأطلقيه عفياً.
وها قد أتتك النجدة من العراق الذي يئس أهله من احتمال أن نصل إليهم منجدين، فانتدبوا جواد الأسدي ليجدد مسرح بابل في بيروت.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
كيف يحب من لا تنشيه الموسيقى ولا يسحره الصوت الجميل، ولا يعشق الجمال في الطبيعة أو في الناس؟!
كيف تكون حياة تلك الأيام التي لا حب فيها ولا شوق الى من تحب؟
العمر وردة فكيف لا تسقيها نبض قلبك لتكون لك الحياة.

Exit mobile version