سراة الليل يفتقدون عند الصباح عبد العزيز التويجري
و عند الصباح أطلق الشيخ عبد العزيز التويجري حداءه الاخير لسراة الليل قبل أن ينطوي على حياته الحافلة، مغادرا بصمت هو الذي ظل يعطي حتى نفد من قلمه الحبر من دون أن ينفد الفكر.
ولقد عرف غيري الشيخ عبد العزيز وهو في السلطة، قريب من مركز القرار، مؤتمن على أسرار الحكم، مكلف بالمهمات الدقيقة التي يغلفها الكتمان، أما أنا فقد عرفته بداية من كتابه النفيس لسراة الليل هتف الصباح ، الذي قدم لنا بعض السيرة الذاتية للمملكة التي أقامها عبد العزيز آل سعود بسيفه وذهبه ودهائه، وهو الأخطر والأبقى أثراً. ثم ازددت معرفة بهذا البدوي الفصيح الذي نشأ يتيماً، في أرض غير ذات زرع، والذي لم يعرف مدرسة أو معلماً إلا الحياة وتجاربه معها وفيها، عبر الجزء الثاني من الكتاب النهر عند الصباح حمد القوم السرى .
ولعل التجربة الغنية التي عاشها وسجلها بلغة أنيقة، رشيقة، تقارب الشعر أحيانا (وهو العاشق للمتنبي)، والتي تحفل بأسرار الدول والوقائع غير المعروفة والمراسلات ذات الأهمية القصوى، قد شجعت محمد حسنين هيكل على أن يكتب مقدمة خاصة لهذا السفر. فهيكل الذي عاش في بيت السر قريباً بالفكر والقلب والسمع والعين من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قد وجد شاهداً يماثله في بعض ما انتهج وعن تجربة مضادة (إذا جاز التعبير)، وإن اختلف الأسلوب باختلاف المهنة والدور والمحيط.
وأعترف بأن الشيخ عبد العزيز التويجري قد وفر لي مفاجأة طيبة، حين وجدت في بريدي، ذات صباح، رسالة منه يشكرني فيها على اهتمامي بكتابه الذي لا يستطيع متابع لمجريات السياسة العربية بفصولها التأسيسية في العصر الحديث أن يتجاهله. ثم أتبع الرسالة بأخرى فيها من خواطره الأدبية أكثر مما فيها من السياسة، ومن عاطفته الشخصية أكثر مما فيها من التقييم لعاديات الأيام.
بعد حين من الدهر أتيح لي أن أزور السعودية في دعوة لم تتكرر لحضور مهرجان الجنادرية… وكان مقصدي الاول اللقاء مع ذلك الشيخ الأديب الرقيق اللغة والحاشية لتحيته والجلوس إليه، وقد زاد من حماستي أنني سمعت كثيرين يروون ما عادوا به من مجلسه الذي يختلط في أحاديثه الأدب، شعراً ونثراً، مع التاريخ، قديمه والحديث، مع اللطائف والطرائف وهفوات الفضوليين أو من يفترضون المجلس معبراً الى أغراضهم الخاصة.
في آخر زيارة لي الى السعودية، سعيت كعادتي الى مجلس الشيخ وهذه المرة بصحبة الدكتور عبد الرحمن السعيد. كنت قد سمعت ما يقلق على صحته، وأن أمراض الشيخوخة قد أعيته فأعجزته. ولقد أذهلني حضور ذاكرته، وصعق الدكتور السعيد حين سمع الشيخ يناديني باسمي ويستذكر بعض ما بعث به إليّ في رسائله، وكذلك بعض ما كتبته عن مؤلفه النفيس.
وحياة الشيخ عبد العزيز التويجري هي مصدر الغنى. فقد انخرط وهو فتى في بعض حملات عبد العزيز آل سعود وهو يجهد لتوحيد الجزيرة العربية في ما سيعرف لاحقا باسم المملكة العربية السعودية. وظل عبد العزيز التويجري، منذ ذلك اليوم، قريباً من الرجل الذي صار ملكاً، مقاتلاً حيث يتوجب القتال، مؤتمناً على المال أحيانا، مكلفاً بالمهمات الدقيقة بين القبائل المصطرعة أو التي يدور من حولها الصراع مع الخصوم المحليين، أو مع الدول ذات النفوذ (لا سيما بريطانيا)… ومن هنا فقد أتيح له أن يعرف الكثير من الأسرار، وأن يطلع على الكثير من المداولات والاتصالات السرية بموفدي دول، ورجال مخابرات، ومتطوعين لوساطات، وسماسرة لشركات النفط، التي كانت انتبهت الى غنى أرض الجزيرة بذهبها الأسود.
يقدم الشيخ عبد العزيز التويجري لكتابه الاول لسراة الليل هتف الصباح بصفحات قليلة جاء فيها ما قصدت بهذه الأوراق إلا أن أعطي لمحة عن نفسي وعما علق بذهني وعقلي عن الملك عبد العزيز منذ كنت طفلا صغيرا. ما أردت أن أزوّر نفسي لك ولقارئ الغد، ولكنني بحكم إحساسي بالمسؤولية، حاولت أن أكون معتدلا، ما أمكنني ذلك .
أما محمد حسين هيكل فقد كتب في تقديمه للكتاب الثاني لم يزعم الشيخ لنفسه أنه يقدم بحثاً في التاريخ. ولعله جمع بين منهج البحث ونفس الأديب فقدم رؤيته لإنسان ولمحارب ورجل دولة… لكن الكتاب في حقيقته قصة حب من أول نظرة، فالمؤلف عاشق لبطله، ومشجع له في كل وقفة عند كل مشهد… .
بين كنوز الكتاب ملحق مهم يتضمن في ما يتضمنه من الوثائق، رسالة مفقودة بعث بها عبد العزيز آل سعود ,1912 أي قبل إعلان الشريف حسين الثورة الكبرى يحذره فيها من مخاطر هذه الثورة وما يمكن أن تلحقه بالعرب من تبدد وضياع. والكاتب يرى في الشريف حسين ضحية لما تم حبكه في غفلة منه، في دوائر السياسة البريطانية.
مع رحيل الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري تنطوي صفحة من التاريخ العربي الحديث، داخل الجزيرة العربية وخارجها. خصوصا أن الراحل الكبير قد جمع الى منصبه البارز في قيادة الحرس الوطني، صفة الموفد الملكي الخاص في المهمات الدقيقة، مما مكنه من أن ينشئ صداقات عميقة مع العديد من الرؤساء والقادة العرب، بينهم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي كان يوده كثيرا . وهو قد مارس صفة الموفد الخاص مع ثلاثة أو أربعة ممن تعاقبوا على سدة الملك في السعودية… ولعله كان يتمنى لو مارس هذه المهمة مع الملك الحالي، عبد الله بن العزيز، الذي عمل تحت قيادته طويلا في الحرس الوطني، وأفاده بخبرته الطويلة في قبائل الجزيرة، بأنسابها وأحوالها وطموحاتها ومطالبها، بسيطها والثقيل.
باختصار يمكن القول انه ندر أن اجتمعت في رجل واحد كل هذه الكفاءات.
ومن حسن الحظ أنه قد ترك لنا ما يشهد له ولعصره، ولم يأخذ كل أسراره معه على عادة كثيرين من أبناء جيله الذين طواهم الموت دون أن يتركوا للاجيال الآتية بعدهم ما ينفعهم في معرفة أحوالهم، لا سيما ما أسس لما هم فيه من ضياع وفرقة وتقدم في اتجاه… الحروب الاهلية.
عبد العزيز المقالح ينظم المدن نساء بالشعر!
بغير تكلف، وربما بغير قصد، أنتج اليمني الهادئ الذي انحاز الى العلم مبتعداً عن السياسة، فأعطى جهده لتوطيد أركان الجامعة في صنعاء، بغير أن ينسى بيته الشعر… أنتج عبد العزيز المقالح ديواناً فريداً في بابه، لقد جعل المدن قصائد وغناها فأطرب وأبهج.
مدن الأرض مثل النساء، ومثل البحيرات، غاضبة، صلفات، واخرى كما الضوء في همسه ناعمات. هنا مدن في عراء الجنون، هنا مدن في صفاء السكون. كيف لي بعد نوم النهار الذي لا ينام، وبعد انكسار هديل الحمام، وبعد مجالسة الميتين ولوعة أيامهم، كيف لي بعد موت العراق وذبح الشام وصمت الكنانة أن أتذكر .
لكن عبد العزيز المقالح الذي لا ينسى صديقاً أو كتاباً، تلميذاً ممن درسوا على يديه، أو طالبة متفوقة يسر لها أن تكمل دراستها حيث شاءت، يثبت بكتابه هذا انه لا ينسى أحداً أو شيئاً، وأن عينيه الفاحصتين تريان في العتمة، وأن قلبه فسيح يتسع لجماليات المدن (وجميلاتها) ولآداب البلاد التي زارها في ما يتجاوز عواصمها. وهو قد كتب عن مكة، القاهرة، أثينا، الاسكندرية، روما، دمشق، بغداد، القيروان، مراكش، طنطا، وهران، باريس، برلين، فيينا، لوكانو، واد مدني، بيروت، القدس، إضافة الى تعز وصنعاء بطبيعة الحال.
هنا أبيات تلخص رؤيته لعشيقاته من المدن:
صنعاء: الروح واقفة عندها. عند هذا الجمال الذي كان. هذا البهاء المقيم.. إلا أن الذي خطها بجناح الحمامة قد شق أول صخر.. المدينة التي أعيش فيها وقلبي مثخن بالحنين إليها..
أما عن تعز فيقول: لم أكن قبل هذا اللقاء المثير أرى أن للمدن الرائعات من الحسن ما لوجوه النساء الجميلات. أيها الحب خذني إليها. الى وردة لا تشيخ ولا ينتهي عطرها وطيوب يديها. أرض العشب والعسل والثروة. أرض الصلوات والمسرات والتضحيات. من ذاكرتها يتساقط الندى وتورق القصائد واللغة الجديدة.
مراكش تلك هي أمي . انها بيتنا، وها هي قائمة للصلاة. وهذا أخي يتثاءب من نومه، وتلك أختي تعد طعام الصباح، وهذا أبي فوق سجادة يقرأ الواقعة. آه كم تتشابه أسماؤنا ونوافذنا وطقوس مباهجنا وفواجعنا.. كأني لم أخطئ الباب أو أخطأتني طريقي. إنها عربية من الألف الى الياء..
أما عن مدينة طنطا، في مصر، التي يحج إليها خمسة ملايين مصري كل عام ليكونوا بالقرب من شفيعها السيد البدوي فيقول اليمني المقالح:
جئت أرسمها رسمتني مآذنها ومساجدها ثم أعطت فمي ودمائي هويتها. يا ابنة البدوي، أتى بي إليك انخطافي ببرق ينوس وجوعي الى زاد انتظرته الملايين. الى أين تأوي الطيور اذا فقدت ظلها واستفاض بها العشق الى ديار المحبين .
أما باريس فيحار المقالح هل هي وردة أم مدينة.. اسم لذيذ مغسول بماء الشعر، لم تنهض من تراب الأرض: لا ليل في هذه المدينة. باريس لا تستيقظ لأنها لا تنام. دعوني أمارس بعض جنوني وبعض فنوني على هذه الناصية.
في هذا الديوان يتكشف عبد العزيز المقالح عن فنان، رسام، نحات، مصور، يقدم المدن نساء قوامهن قصائد من الرغبات والارصفة كتباً والغابات علباً للأسرار تتغطى بورود الاصيل لتوفر للعشاق الخلوة التي يحتاجون.
أما دمشق التي حملت راية الله والضاد في البدأ فقد عادت تحمل راية أمتها… وهي أقوى من الحرب والحزب وأقوى من الصوت والموت..
مع بغداد تسود رنة الحزن: يا نخلة سكنت كل قلب، ويا شمسنا العربية التي عبرت كل أفق… لان الاسى يكتب اسمك بالدم ويصنع مجدك باللهب العبقري.
وأما القيروان فهي طازجة، مثل خبز أمي، وساخنة مثل قلب الحبيبة.
في هذا الكتاب بعض البعض مما يضمره عبد العزيز المقالح ولكنه لا يستطيع كتمانه دائما فيقول بعضه همساً كما في ديوان المدن.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
من يسأل حبيبه دائما: متى باشرنا كتابة ديوان الحب؟ قد ينسى فيهمل وتضيع منه قصائد جديدة.
الحب شعر، مزيد من الشعر، فإذا حوّلته الى نثر صار حكاية، وللحكاية خاتمة… والشعر لا يحب الخواتيم، تماما مثل الحب!