…ولكننا عشنا والنصر في مدى الذراع!
ما أبعد القاهرة عن القاهرة، ما أبعد مصر عن مصر، ما أبعد دمشق عن دمشق، ما أبعد سوريا عن سوريا، ما أبعد بغداء عن بغداء، ما أبعد العراق عن العراق، ما أبعد بيروت عن بيروت، ما أبعد لبنان عن لبنان، ما أبعد فلسطين عن أهلها في الداخل وفي الشتات، ما أبعد مجموع الشعوب العربية عن الأمة ، ما أبعد العرب عن العروبة، ما أبعد المسلمين عن الإسلام، أما بين العروبة والإسلام فليس غير السيف.
كلنا نشبه ذلك الجندي المصري الأسير الذي تمكن من الافلات من معتقله الاسرائيلي وظل لسنوات هائماً على وجهه في صحراء سيناء، الى أن تيسر له الوصول الى مصر فأنكرها ووقف إزاءها يسأل أو يسائل نفسه بلسان الشاعر محمود درويش: هل أنتِ مصر؟!
في طوف الكتابات التي تتراوح بين الوجدانيات وبين الاعتراف المتأخر بذنوب متقدمة وبين النقد الذاتي للآخرين، لمناسبة مرور أربعين سنة على نكسة 5 حزيران ,1967 كادت تغيب أو تغيّب وبقصد مقصود كل صورة أو واقعة توحي بأن العرب لم ينسحقوا ولم يندثروا ولم يرفعوا الرايات البيضاء إعلانا باستسلامهم للقدر الاسرائيلي.
لكن الوقائع التي عشناها، وما زلنا شهوداً عليها، تناقض في الجوهر كما في الشكل كل هذا السيل من الشهادات التي تظهر وكأن العربي مخلوق فائض عن الحاجة، مكسور دائماً، ملتحق بالأقوى، يفتقر الى الثقة بنفسه وبقدراته، يكره أهله ويتصاغر أمام الاجنبي وينسحق تماما أمام الجبار الاسرائيلي.
كنت أزور القاهرة، بحكم عملي كصحافي متجول، في مجلة الحوادث ، بداية، ثم في مجلة الصياد وجريدة الأنوار ، مرة في الشهر، تقريباً. وكنت مهتماً بأن أفهم شارعها وتفكير بسطاء الناس فيها، بعد الفراغ من مهمتي الرسمية في تغطية المؤتمرات والاجتماعات السياسية.
كنت ألتقي العشرات من الصحافيين، كتاباً ومحللين، مراسلين حربيين وبحاثة، كما كنت أجلس الى كبار الأدباء والفنانين والشعراء (توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، لويس عوض، أحمد بهاء الدين، صلاح عبد الصبور، الحسين فوزي، صلاح طاهر، أحمد عبد المعطي حجازي، أمل دنقل، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، آدم حنين، جمال كامل، بهجت عثمان، جورج البهجوري، أحمد حجازي، علي أمين، موسى صبري، أحمد حمروش، مكرم محمد أحمد، جميل مطر، إحسان عبد القدوس، فتحي غانم، مصطفى نبيل، طارق البشري، نبيل الهلالي، مصطفى الحسيني، علي مختار، محمود المراغي، فهمي هويدي، سعد كامل، توفيق صالح، ناديا لطفي، أحمد مظهر، محمد عفيفي، سامي منصور الخ).
وكان يتاح لي، من موقع الصديق، أن ألتقي العديد منهم في جلسات حميمة في بيوتهم، وأن أشارك في جلسات نقاش مفتوح، كالجرح، وساخن كالدماء التي كانت تراق على ضفاف قناة السويس في حرب الاستنزاف.
كذلك أتيح لي في تلك الفترة أن ألتقي بعض فناني الشعب، وبينهم الشاعر أحمد فؤاد نجم، وأن أسمع أغانيه النقدية القاسية بصوت الشيخ إمام، وأن أتدخل لطباعة أول ديوان لذلك الشاعر الصعلوك يعيش أهل بلدي في بيروت، وأن أحمل إليها الاشرطة الاولى لذلك الثنائي الذي سيشكل المعبّر عن الضمير في تلك اللحظة السياسية.
عرفت مهندسين شباناً، وأطباء حديثي التخرج، تسلموا مع شهاداتهم أوامر التكليف بالمهمات، كمجندين، مع القوات المسلحة، في إطار الاستعداد الحثيث للعودة الى القتال تحريراً للارادة والأرض وتوكيداً للاهلية والجدارة.
وشهدت في دمشق كما في القاهرة، وعند خطوط الجبهة السورية الممتدة بين جبل الشيخ ونهر اليرموك، وفي مدن السويس، الاسماعيلية خصوصا وبورسعيد، وقائع بطولية قدم فيها جيل جديد من المقاتلين الممتلئين بالايمان فهماً حديثاً لإسرائيل وطبيعة الصراع معها.
كان النقد للنظام السياسي جاداً وحاداً وصادقاً، وإن رافقه شيء من التمييز بين جمال عبد الناصر وبين الآخرين . ولعل العودة الفورية الى الميدان، وبكفاءة، وجدية، وبتخطيط يبشر بالتحرير، قد جدد التعاقد بين الشعب وبين القائد ، وبشروط أبرزها: الحساب مرجأ الى ما بعد المعركة .
مشيت بين حطام الطائرات الحربية الاسرائيلية في شوارع دمشق،
ومشيت بين حطام الدبابات الاسرائيلية المدمرة على جوانب خط بارليف عند الضفة الشرقية لقناة السويس،
وتعرفت الى أبطال من الجنود البسطاء على شاكلة عبد الودود على خط الجبهة في سوريا، كما في مصر، وتعرفت الى ضباط شبان يتدفقون حماسة وتشوقاً الى المواجهة مع العدو الذي حقق نصراً لا يستحقه وفرض على الأمة هزيمة كان يمكن تجنبها، في حرب العاشر من رمضان 6 اكتوبر تشرين .1973
ربما لهذا كله، ولألف سبب آخر، لا يتسع المجال لعرضها هنا، أؤمن بأن حرب 1967 التي خسرها العرب كانت نقطة تحول خطير في سياق مواجهة المشروع الاسرائيلي، وكان مقدراً لها أن تصنع قدراً مختلفاً عن ذلك الذي انتهت إليه حرب 1973 المجيدة التي اغتيلت وهي على وشك إنجاز مدخل جديد الى تاريخ هذه المنطقة.
لقد دخلنا عصر الهزيمة، فعلاً، من باب النصر المضيّع في خريف ,1973 وليس من باب النكسة التي فضحت واقعنا السياسي وأعادت الشعب الى الميدان، فارضاً على القيادة أن تتحمل مسؤولياتها تحت رقابته المباشرة في الشارع الذي فتحه الإصرار على الحضور والمشاركة في القرار.
أما اليوم فالشارع هو الغائب الاكبر. ولقد غيّب بعدما صيروه شوارع يتواجه فيها أصحاب القضية الواحدة بشعارات تجعلهم فرقاً شتى، تتصارع على الجنة فتخسر الأرض، وتقتتل على الحكم فتخسر الدولة، ويأخذها شعورها بالضعة والهوان الى العدو فتخسر ذاتها، هويتها وثقافتها وتاريخها وجدارتها بالحياة.
… وذلك حديث يطول، وهذه خاطرة أملاها الوجع من تحقير الذات الذي ترتفع أمواجه حتى تكاد تلغينا، هذه الأيام.
حسام عيتاني وسيرة لبنانية لحيرة بهويات كثيرة
هو الكتاب الاول، لكن حسام عيتاني قرر أن يخوض المغامرة من خلال العنوان الاصعب: النظام السياسي في لبنان، وعلاقته ب الدول في الخارج، والطوائف والمذاهب، في الداخل، بالعلاقات المتشابكة، الواضح منها والملتبس وهو كثير كثير.
هويات كثيرة وحيرة واحدة سيرة لبنانية ، هذا هو العنوان الذي اختاره حسام عيتاني لكتابه، والذي يكاد يختصر أحوال لبنان، بقدر ما يقدم موضوعه الصعب للقراء الذين لن يكون من السهل عليهم أن يصلوا به ومعه الى مفهوم موحد لتلك السيرة اللبنانية… ففي الغالب الأعم، ان لكل لبناني سيرة مختلفة عن الآخر، باختلاف المناطق أو الطوائف أو المذاهب، قبل أن نصل الى اختلاف العقائد والمبادئ والأفكار قديمها المنسوخ أو جديدها الذي يحاول أن يؤسس لعالم من ضباب.
بداية، لا بد من تحية لحسام عيتاني على شجاعته في التصدي لموضوع هو بطبيعته في غاية التعقيد، وإن كان مظهره يخادعك فيخدعك اذ تفترضه بسيطاً قبل أن تكتشف أنه، هو هو، ذلك الذي من أجله ابتدع العرب تعبير السهل الممتنع .
وبديهي أنه كان على حسام عيتاني أن يستعين على حيرته إزاء الهويات الكثيرة بالعديد من الكتب والمراجع لمؤلفين متنوعي التوجه والهوى، وبأكثر من لغة، لان لغة واحدة لا تفي بالغرض. وهكذا فقد اختلطت في المراجع أسماء مؤرخين وساسة وكتّاب وبحاثة فيهم الفرنسيون والبريطانيون والاميركيون واللبنانيون المتحدرون من أصول متباينة.
يقدم حسام عيتاني لكتابه بفصل ممتع يكاد يلخص سيرته الذاتية، من داخل بيئته العائلية في مدينته بيروت التي تعاظمت حتى كادت تصبح عالماً غنياً بتنوعه، وإن ظلت نواتها الصلبة مكمن التقاليد الموروثة والعقائد والأفكار والبدع والأساطير التي خلّفتها الأجيال المتعاقبة، ما جاء منها عابراً فاستقر، ومن جاء اليها بطلب الرزق فسكنها دون أن يغادر منشأه، في عاداته ونزعاته، فقبلته وقبلها، ليغير فيها وتغير فيه قليلا أو كثيرا، ثم ينسى وتنسى ولو الى حين.
قد يفسر النّسب شيئاً من الحيرة، وقد يقرّب الكتاب الى قارئه أكثر: فالكاتب هو النجل الأكبر لمناضل تحفظ له بيروت، بل لبنان، ذكرى طيبة. إنه محمد عيتاني، ذلك الشيوعي النبيل الذي عاش بشخصه أزمة العقيدة مع المحيط، لا سيما حين صار ضرورياً أن تترجم العقيدة ذاتها في السياسة بقضاياها الكبرى ومسائلها اليومية: من قضية فلسطين والصراع العربي الاسرائيلي، بأبعاده القومية، الى طبيعة النظام اللبناني وموقع البروليتاريا أو الطبقة العاملة منه، بالفلاحين فيها والعمال الصناعيين… وكل ذلك رمزي الوجود في لبنان ومن الصعب أن تنطبق عليه معايير الماركسية بقدر ما يتعذر أن تنطبق على دولته مواصفات الدولة، أي دولة.
ولقد نشأ حسام عيتاني في مرحلة انتقالية بين جملة من المراحل الانتقالية التي تكاد تشكل تاريخ لبنان… وأكيد أنه أخذ القلق عن أبيه الذي لم يكن يهدأ، والذي كان ينتدب نفسه لمهمات كثيرة خارج الاطار الحزبي، وربما تتناقض مع تعليمات القيادة، مفيداً من أن الحزب نفسه كان يعيش ما يعيشه الكيان وما تعيشه المنطقة من هزات ارتدادية بفعل التصادم بين الطموح الى التغيير قبل اكتمال قواه وجهوزيتها الفكرية والعملية (المؤسسات) وبين طبيعة النظام الطوائفي المانعة للتطوير أو التغيير، وإلا فالحرب الأهلية.
يمكن لجيل حسام عيتاني القول انه لم يعش حياته إلا في الوقت الفاصل بين حرب أهلية واخرى… وهذا ما يزيد من تعقيد المهمة أمام الكاتب المتصدي لتحليل النظام والقوى التي يرتكز اليها فيفيد منها وتفيد منه، سواء أكانت في الداخل، وهي معدودة، أم في الخارج وهي عديدة ومتحولة بحسب التبدلات في مراكز القوى دولياً.
وربما لان حسام عيتاني قد ولد وعاش في مناخ حرب أهلية لا تكاد توقف أو تتوقف حتى تتجدد أو تجدد، مع اختلاف عوامل التفجير والمستفيدين منه، فإن سيرته تكاد تستولد حيرته ثم تولد منها.
وربما لان لبنان مهدد دائماً في وجوده، أو هكذا يوحى لنا، فإن العلاقة بنظامه سرعان ما تتماهى مع العاطفة إزاء ضرورة استمرار الوطن الكيان، فتخفت الاعتراضات على عيوب التكوين ثم على فضائح الممارسة، لا سيما اذا ما خطر ببال مواطن منه أن يقارنه ب الدول العربية الاخرى، من حوله، وبالأنظمة القائمة فيها.
هويات كثيرة وحيرة واحدة سيرة لبنانية ، كتاب جاد لكاتب رصين، قد يثير اعتراضات جدية، وقد يستدر نقاشاً واسعاً بالرفض أو بالقبول، وقد يتهم حسام عيتاني بالردة أو بالتنكر لتاريخ مرحلة أو لمحصلة نضال مدينة باسلة. لكنه سيفرض نفسه على البحاثة والقراء والمهتمين غدا، بقدر الكتب والمؤلفات التي استشهد بها وربما أكثر… حتى لمن سيعترض على تشيحه المتأخر!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تحبس شوقك، ولا تحجب رغبتك. الحياة أعز من أن نمضيها في امتحان الارادة بالحرمان… أما الحب فلا يحتاج الى إذن. إنه كالهواء الذي تتنفسه، يوفر لك الحياة من دون أن يكلفك جهداً خارقاً. قل: آه! فإذا حبك أمامك وخلفك وفوقك ومن حولك يهتف بك: هيت لك!