طلال سلمان

هوامش

»الله« يطلب اللجوء السياسي .. هرباً من العرب!
قال لي الأخ العراقي الذي يرفض أن يكون لاجئاً في وطنه يعيش على فضلات المتصدقين، ويرفض أن يخرج من وطنه إلى منفى مكيَّف حسب مخططات الطامعين والعاملين لتفكيكه تمهيداً لإلغائه:
صار لرئيسنا اسم جديد، ألا تدري؟! لقد استنفد أسماء الله الحسنى، ومن ثم بدأ يستعير من تسميات خلفاء عصر الانحطاط… علينا الآن وقبل أن نلفظ اسمه أن نقول: عبد الله المؤمن الرئيس…
انفتح الجرح وتهاطل الحزن العراقي مدراراً، وكان لا بد من أن يصير الحزن عربياً شاملاً مع استذكار ما يلقى العراقيون من عنت وكيف يستغل بعض إخوانهم نكبتهم المتعددة الوجوه، كاستثمار سياسي أحياناً وكاستغلال اقتصادي، وبهدف الربح السريع (على حسابهم) في الغالب الأعم من الحالات.
عدنا إلى سلاطين زماننا المجللين بعار الهزيمة والمستعصين على احتمالات التغيير، سلماً أو حرباً، والمزدهين »بإنجازاتهم« التي دمّرت بلاد الخير فأفقرتها وشرّدت كفاءاتها وعقولها من الشباب خصوصا، واستنفدت مدخراتها ومواردها الطبيعية..
قال أخ عربي من بعض أقطار المغرب:
خلال يوم واحد من الفراغ والضجر والهرب من الأفكار المزعجة والمثيرة للريبة، وعبر جولة على الفضائيات والإذاعات العربية وبعض الصحف المتيسر الحصول عليها، أمكنني الوصول إلى الاستنتاجات أو الاستخلاصات الآتية:
1 تتضاءل »الأخبار« وتتقزم »الأحداث التاريخية« إذا ما امتنعت وسائل الإعلام، بالأمر، عن استخدام اسم الجلالة في ألقاب السلاطين (كمثل حفظه الله، أو أدامه الله، أو وفقه الله) الخ..
2 أما إذا مُنع استخدام تعابير من نوع »إن شاء الله« و»بإذن الله« و»الله من وراء القصد« لكشف حقيقة »أعمال« السلاطين فإن اللغة السياسية برمّتها تتهاوى، وكذلك الاقتصاد والصناعة والزراعة… فكل عهد أو تعهد أو اتفاق أو مشروع يُشفع باسم الجلالة حتى يكون العذر جاهزاً سلفاً! فإن لم يتم فليس بسبب التقصير أو الإهمال أو الهدر، بل لأن الله لم يشأ أو لم يأذن أو لم يقف وراء القصد..
3 إن سلاطين العرب قد أحلوا أنفسهم، فعلياً، محل الله عز وجل و»استعاروا« منه »اختصاصاته« و»وظائفه« جميعاً:
فهم مصدر الرشد والهداية، وهم مَن يحدد الحدود بين الحق والباطل.
ومنهم يجيء الإحسان والرعاية والعطاء والهبات والنعم.
وهم مَن يتولى القصاص والعقاب، وهم هم الجبارون، وكل منهم بذاته هو »الرحمن الرحيم«.
علّق عربي ثالث: مساكين هم الخلفاء الراشدون، لقد كانوا بلا صلاحيات، لا حول لهم ولا طول، لا سلطة ولا مال ولا جاه..
عاد العراقي إلى الكلام فقال: يكاد هؤلاء يحوّلون الله إلى موظف بلا أجر عند السلطان، ينفذ ما يطلبه منه بغير نقاش، ويوفر له العذر عما يقصر فيه، يحمّله المساوئ في حين ينسب إلى نفسه الحسنات: فالجفاف من عند الله، أما النفط فكأنما جاء به هو، وانهيار جسر أو طريق لفساد ذمة المتعهد تنفيذ حرفي لآية »لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم«، أما اللوحة التي تشير إلى أن الإنجاز العظيم قد تمّ في عهده وبتوجيه منه فتنزع أو تخفى أو تحطم تحطيماً.
استدرك الأخ المغربي: صدقت خويا، الله موظف بلا أجر عند السلطان، فإن هو أغضبه وعصا أمره لم يتورع عن طرده وإحلال نفسه مكانه، بل ان السلطان ينصب نفسه شاهداً لله أو عليه. هو من يعطيه شهادة حسن السيرة والسلوك. ان أخطأ السلطان فذلك تقصير يتحمّل الله مسؤوليته: اعتمدنا على الله فخذلنا! وإن أصاب السلطان، وهو دائماً مصيب، فما الحاجة إلى الله إلا كتزكية معنوية لقرار من لا يخطئ؟! إن مهمة الله تنحصر في مباركة أعمال السلطان، وفي أن يعطيه بغير حساب، وأن يسدّد له خطاه، وأن ينصره فيتولى عنه إبادة أعدائه، ونصرة أصدقائه.
قال أخ عربي رابع من بعض أنحاء الخليج: لقد جعل سلاطيننا الله مجرد شاهد زور، يستعينون به عند احتياجهم إليه، ويهملونه بل يحاولون إلغاءه وينيبون أنفسهم عنه في كل ما يتمكنون من »إنجازه« وحدهم.
لقد جعلوه مجرد إطار لصورهم، مجرد شمعة مضاءة فوق الصورة لكي تباركها وتحرس صاحبها وتهدي الناس إليه عبرها.
واختتم العراقي المناقشة التي أثارها، بالقول:
إن المواطنين العرب يرهقون الله بمطالبهم التي لا تنتهي. فهم يريدون منه الرزق ومباركته، والصحة وإدامة نعمتها، وإنجاح أولادهم في الامتحانات، وفتح باب الوظائف أمامهم وإقفالها أمام غيرهم من المنافسين، وإطالة أعمارهم وتقصير أعمار من يبغضونهم.
أكثر من هذا: يريدون منه أن يهزم لهم إسرائيل، وأن يحطم غرور الولايات المتحدة ويدمر وسائل إنتاجها ومواردها الهائلة.
وكذلك أن يخلّصهم من حكّامهم ومن المتحكّمين فيهم، بدءاً بمدير المدرسة ورئيس الدائرة والمسؤول الصحي وانتهاءً بالمحافظ السمسار والوزير المتهم في ذمته المالية وناهب المال العام.
أما السلاطين فيطاردون الله بمطالبهم التي لا تنتهي، ويوجهون إليه اللوم ألف مرة في اليوم لأنه يقصّر حيناً، ويتباطأ أحياناً، ولا يسمع غالباً.
كأنما لا مكان لله في ديارنا.
لكأنما ضقنا به ذرعاً، فنحن نطارده كأنما لنطرده.
وأخشى ما أخشاه أن يترك الله منطقتنا فيطلب اللجوء السياسي (لحمايته من الغضب العربي)، الى منطقة أخرى، أو يهمل مطالبنا الملحاحة التي لا تنتهي لكي يتفرغ لمن يحتاجون إليه فعلاً ويتوجهون إليه بصدق ويشكرونه حقاً على نعمه (ولو أنهم ما زالوا فقراء)، ويتوجهون إليه بصلواتهم تعبيراً عن إيمانهم وليس رشوةً لكي يعطيهم أكثر.
إن الله مضطهد في بلادنا.
يضطهدنا حكامنا فنضطهد الله، أي أننا نشاركهم هذا الفعل الشنيع!
ولولا أنه رحمن رحيم لهجرنا وخلانا لهؤلاء السلاطين الذين نصَّبوا أنفسهم آلهة من دونه، وأذلوا العباد وضيّعوا البلاد، ثم اتهموه بأنه المسؤول عن ذلك كله لأنه تخلى عنهم منصرفاً إلى نصرة »القوم الكافرين«.
وبعد هذا الهذر »السياسي« كان لا بد من أن يخاف الجميع مغبة كلامهم، وهكذا توجهوا إلى الله مستغفرين: اللهم لا تؤاخذنا على ما صدر عنا، إنما كنا نتحدث »عنهم« لا عنك، ولقد تجاوزنا فاستخدمنا اسمك ليحمينا وليعصمنا منهم! إنك أنت التواب الرحيم!

حكاية الرجل الذي سمع بعينيه!
سحبه الصوت من أذنه فاستطاب السفر فيه نحو ضفاف المتعة التي تأخذك من النعاس إلى النوم.
بعد أيام انتبه إلى أنه صار كمن يتوقع أن يأتيه هذا الصوت بذاته ولذاته، بل انه بات كمن ينتظره، متناسيا ان الصوت إنما يجيئه، إن هو جاءه، متقطعاً ومتعجلاً ولدواعي العمل أو طوارئه. وكان يقول لنفسه: لا بأس، سأخترع أسئلة أو أطلب إيضاحات للاشيء، فلن يخسر العمل إذا ما طالت المحادثة وطال فيها العمر. كيف ينتج المحروم من متعة الاسترخاء في قلب النشوة؟!
أحيانا كان يتمثلها تطلبه وتسحبه إلى داخل خميلة صوتها، فيترقرق في أذنه الصدى الذي تتداخل فيه بحة الشهوة وأنفه المضطر للخضوع وشيء من التمرد المضمر والوعد الغامض بما يتجاوز حدود القول.
مرة جاءه الصوت بلهجة اعتذار: أطلبك لنفسي لا لغيري، أهذا تجاوز؟!
قبل أن يرد من قلب انبهاره سمعها تكمل: أريد مساعدتك في أمر خاص، إن شئتَ ذكرتُه الآن، وإن سمحت لي جئتُ إليك به!
إن سمح؟.. وأفلتت منه الكلمة (والفرصة)، وارتج عليه فطال صمته، وغمر العرق السماعة في يده، ثم سمع نفسه يقول: تفضلي!
لا هي عرفت ولا هو كان يعرف: هل كانت كلمته استدراجا لزيارة أم دعوة لأن تقول من على بعدها ما تريده منه..
سألت، ربما للخروج من حيرتها: الآن؟!
أثقلته الحيرتان، فلم يجد خيرا من أن يقول: إن شئت..
قالت بسرعة من يريد التفلت من الالتباس: دقائق وأكون عندك!
أغلق السماعة على اضطرابه. قال متفلسفا: سنرى ما إذا الصوت يتطابق مع الصورة..
على أنه انتبه فجأة إلى واقعة مشابهة في مقدماتها مفجعة في خاتمتها، حين أُعجب صديقه »خيري« بصوت عاملة الهاتف في الفندق، ثم صار الإعجاب حباً من طرفه وقبل أن يعرفها، فأرسل الهدايا والوعود مطرا غزيرا، ومنحته عبر السماعة قبلات، وأخيرا حزم أمره وقرر دعوتها إلى الغداء في مطعم فخم، لكن صديقا ثالثا ألزمه بأن يعرفها قبل الموعد حتى لا يُفجع، أو أقله حتى لا يعرّض نفسه لحرج سخيف. ونزل إلى حيث هي، فطلبها، وحين أقبلت انطلق هاربا لا يلوي على شيء..
دخلت متعثرة.. لكن صوتها سرعان ما انفلت يخلخل وقار المكتب الفخم وصاحبه المتحفظ: أكرر اعتذاري عن إشغالك بما لا يعنيك، لكنني قرأت في صوتك رقة إنسانية مفتقدة فلجأت إليها..
كان يسمعها بعينيه الآن، وينسرب الصوت داخل مسامه مستولدا نشوة رائقة، حتى لقد انشغل عن تأملها والانتباه إلى ملامحها التي رآها تختزن أحلامه: »لست خيري، بل هي الخير كله..«.
انتبه إلى أنها تقول شيئاً، فاستعاد روعه ليسمعها.. وسمع:
جئت أشكو إليك عامل الهاتف عندك! كلما طلبتك ادعى أن خطك مشغول ليطيل مشاغلتي بغزله السمج! أعرف انك حريص على عائلتك وعلى سمعتك، وأنا مثلك حرصا على عائلتي وسمعتي. أرجو أن تعالج هذا الغلط الذي لا يمكن أن تقبله، وآسفة لإزعاجك!
وحين رافقها إلى الباب مودعاً كان صوتها يتساقط حجارة في أذنيه.. وسمع نفسه يقول: رحمك الله يا خيري!

الغناء كبشارة بالغد
جاءت المغنية متعجلة، كأنما قطعت أعمالها المنزلية، لتؤدي واجباً عارضاً قبل أن تعود إلى ما كانت فيه.
وبعد لحظات تبدّت أمامها صعوبة المعادلة التي عليها أن تنجح فيها: فهي إن غنَّت بصوتها فقط انصرف عنها الجمهور متلهياً بأحاديث السهرات المفتعلة والمبتسرة والتي يستولدها الضجر.
وإن هي غنت بجسدها أجساد الصبايا الساهرات فلسوف تحظى بالتصفيق والتهليل وتصنّف مطربة ولارتفع »سعرها« الى مصاف النجوم.
لم تكن تتقن الرقص، ومع ذلك حاولت بغير نجاح.. فتأرجح صوتها في طبقات النشاز حتى كادت تنكره، وإن ظل صوت الطبلة يغطي عليه فلا يصل منه إلى الجمهور إلا الإيقاع مطعماً ببعض التأوهات.
إن هي رقصت غنوا.
وإن هي غنت رقصوا.
التفتت تستنجد بمن تعرف في الصالة الصغيرة، فرافق بعضهم غناءها بالتصفيق أو بترداد اللازمة بعدها.
ما هذا الجمهور الذي لا يرى ولا يطلب غير أجساد النساء، عارية ما أمكن، وملفوفة بغلالات بهدف الإثارة وليس بهدف ستر ما لا يجوز كشفه؟!
مع نهاية الوصلة الأولى كانت على حافة البكاء.
أما في منتصف الوصلة الثانية فكانت قد استقرت في وهدة اليأس، تلبي ما يطلب منها وهي تفكر بأعمالها المنزلية.
قالت وهي تنصرف: آه من هذه القروش!
أما الناطق باسم الجمهور فكان يقول: لقد أضعنا قروشنا!
على أن صاحب الصالة كان ينظر إليهم وفي عينيه كلام مفاده: بقدر ما دفعتم تأخذون!
وحده ذلك الباحث عن صوت يأتي من خارجه فيشغله عما يهدر في داخله، كان يقول لنفسه: من المهم أن نحل مشكلة الطرب كمدخل لمواجهة مشكلاتنا السياسية.
ثم استدرك فتذكر أن المطربين العظام والمطربات الكبيرات إنما أبدعوا في فترة لم تكن ممتازة بإنجازاتها أو بوجوه التقدم العلمي أو…
لكنه سرعان ما أفحم نفسه باستذكاره أن تلك كانت مرحلة الإرهاصات المجيدة بالتغييرات التي تفجرت بعد ذلك انتفاضات شعبية وعسكرية فغيّرت وجه المنطقة العربية كلها، وكان أولئك الفنانون الكبار مبشرين بها!
إذاً، اختتم مناقشته مع نفسه، بالقول: إن كان الفن يعبّر أو يبشر بما سيكون فما أبأس ما ينتظرنا!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يسكنني حبيبي وأسكن حواسه جميعاً. تراني في عينيه، وتسمعه بصوتي، يأخذني إلى الفرح وأمسح همومه عن جبينه بشفتي. عنواني في عطره، وعنوانه بين جفوني. ومهما طال بُعد حبيبي فإنه مقيم فيَّ لا يغادرني ولا تضيع مني همسة من همساته. لسنا متوحدين. إننا واحد في البُعد والقرب، زماننا لنا، أما المكان فحيث يكون، لأنني منه وله وفيه.

Exit mobile version