الطاغية لا يصنع نفسه.. يصنعه محيطه: صدام حسين!
ليست اللحظة للتباهي بكونك من أوائل الصحافيين العرب الذين عرفوا صدام حسين عن قرب، أواخر العام ,1968 ومع بزوغ نجمه كقائد حزبي بهالة أسطورية سرعان ما تم تضخيمها حتى حجبت كل من عداها وحصرت في يديه كل السلطة، بينما هو يقبع في مكتب خلفي في مجلس قيادة الثورة تحت لقب السيد النائب .
ذهبت موفداً من دار الصياد، أحمل رسالة توصية من صديق تاريخي للرئيس آنذاك أحمد حسن البكر. وقد فتحت لي الرسالة مع بعض محاسن الصدف الطريق الى مركز السلطة الفعلي أبي عدي . وحين خرجت من اللقاء الاول، الذي امتد لساعتين أو أكثر، عوملت وكأنني صاحب حظوة، ومؤهل لأن أتشفع لديه ببعض المعتقلين، وما كان أكثرهم، من خصومه أو من رفاقه القدامى.
في لقاء ثان معه سمح لي بزيارة العديد من الشخصيات العراقية الموقوفين في قصر النهاية أو في المعتقل الرقم واحد ، وأكرمني بغداء على شرفي دعا اليه معظم أعضاء القيادتين القومية والقطرية (وفيهم لبنانيون وسوريون إضافة الى العراقيين)، ثم جاملني بأن أطلق سراح بعض الموقوفين بلا جرم، أو لأنهم كانوا يشتموننا .
في لقاء ثالث، ثم رابع فخامس توطدت العلاقة الشخصية، فكان يرسل في طلبي فألقاه وأستكمل محاورته محاولا استكشاف آفاق طموحه غير المحدود. وقد تلطف فصحبني، مرة، الى بيته وعرّفني الى عائلته، زوجته وولديه عدي وقصي وكانا طفلين.
لأسباب عديدة ليس هنا مجال ذكرها توقفت عن السفر الى بغداد وبالتالي عن لقاء صدام منذ تموز ,1970 لكنني تابعت بطبيعة الحال الأحداث التي كانت تجري في العراق ومن حوله، ولم يفاجئني قرار صدام بإزاحة آخر رموز المشاركة ولو الاسمية أو المعنوية في الحكم، أحمد حسن البكر، لينفرد بالسلطة مطلقة بمرتبة تتداخل فيها ملامح البطل بالقائد بالوالد بالولي المقدس بالمنتصر دائماً، المانح، المانع، الجبار الذي على كل شيء قدير، حرباً وسلماً، المهندس الاول والطبيب الاول والمؤرخ الاول والكاتب الاول رواية وقصة ومقالاً سياسياً.
أذكر أن اسمه، مجرد اسمه، كان يكفي لإشاعة شيء من التهيب، وأحيانا الذعر، حتى في البدايات، العام .1969
وأجزم الآن، وعن مبعدة كافية لاجتلاء المعنى، أن الناس يصطنعون أسطورة الزعيم ، فيحولون أقواله الى صلوات أو أوامر صارمة، وأنهم يضفون على صورته هالة من القداسة قد يكون بين أسبابها الرعب، و البطش بلا رحمة في مجتمع مفكك القوى السياسية، ولا ركيزة لعموده الفقري إلا الجيش أو القوات المسلحة المجمعة على أساس عشائري جهوي مذهبي تحت شعارات حزب عقائدي ليس له من السلطة إلا تبعاته وليس لها منه إلا القناع.. الواقي من الاتهام بما هو فيه وعليه.
???
لا يصنع الدكتاتور نفسه. يصنعه محيطه: البطانة اولاً، ثم الأساطير التي تشاع عنه، سواء في مجال الحزم والبطش أو في مجال الفراسة والتنبؤ بما سيكون والتحوط له، ومعها القدرة الخارقة على استكشاف الغيب، والتحوط من التآمر بالتآمر المسبق على المتآمرين المحتملين.
أذكر جيداً عن صدام حسين انه كان يكره الجيش. وكان رأيه أن الجيش بغل ، وأن الضباط يتلقون مزيداً من الترقيات والأوسمة بقدر ما يثبت انعدام صلتهم بالذكاء.
وأذكر جيداً أن صدام حسين كان يكره مصر (وفي قيادتها آنذاك جمال عبد الناصر) كراهية لا توصف.. ويستذكر بشيء من الغل أيام إقامته الاضطرارية فيها كلاجئ سياسي. كان يتهيب عبد الناصر، ولعله كان يخاف من شعبيته الهائلة داخل العراق وخارجه. ولم يكن كثير الود تجاه سوريا (عشية وصول حافظ الأسد الى قمة السلطة فيها).. وكان يستخدم ذرائع بعثية ، أي عقائدية لتبرير عدم حبه لها، مع الأخذ بالاعتبار أن حزبه في العراق كان يستمد شرعيته من قيادته القومية (السورية آنذاك، بمجملها).
أذكر أن صدام حسين كان يتجاوز عنفه حين يتحدث عن الأكراد، متعظاً بتجارب السابقين التي أثبتت أن العنف لا يحل مشكلة القومية الثانية في العراق، وانه كان يبدو سعيدا في حديثه عن اتفاق آذار 1970 الذي أقر بإعطاء الحكم الذاتي للأكراد.. لكن ذلك لم يمنعه في وقت لاحق من إعدام أحد أعظم الناس حباً له وإيماناً به عبد الخالق السمرائي، وهو الرجل الذي كان له دور مؤثر في الإعداد لذلك الاتفاق مع الملا مصطفى البرازاني (والد مسعود..).
أذكر أيضاً أن صدام حسين قد لعب دوراً في إفساد منظمات حزب البعث خارج العراق، ولبنان منها، حين أغرقها بالدنانير بذريعة تعويض سنوات الحرمان والشقاء .. اليوم معهم بلد عظيم وغني كالعراق ومن حقهم أن يتمتعوا ببعض خيراته فيرتاحوا … ولما حاولت مناقشته قائلا إنه من الافضل لهم أن يستمروا مناضلين وبإمكاناتهم الذاتية ، رد بحدة: لقد جاء زمن الراحة !
???
لا يصنع الطاغية نفسه. يصنعه محيطه.
لا شك في أن صدام حسين كان يتطلع الى السلطة والى مزيد من السلطة ثم الى احتكار السلطة في شخصه.. لكن الآخرين شجعوه، وربما حرّضوه، والمؤكد أنهم زينوا له أهمية أن يكون للقرار مصدر واحد . والمؤكد ايضا أن الآخرين قد شجعوه على تجاوز الرئيس وهو قريبه وصاحب الفضل عليه وهو مصدر شرعية وجوده نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة .
مؤكد أن قيادة الحزب، سواء القومية ومعظم أعضائها كانوا من اللاجئين السياسيين، أو القطرية التي كان له الرأي الأول في اختيارهم، (ومن عصى فقد اختفى)، قد لعبت دوراً في تعظيم الشخص حتى بات أكبر من الحزب ومن قياداته جميعا بمن فيها القائد المؤسس الذي أخذه قهر المنفى والتوهم بأن له في انتصار صدام شبهة فضل، والافتراض أن الحزب لن يذوب في الشخص . كل ذلك معاً جعل الراحل ميشال عفلق يضفي على صدام هالة أسطورية من القدرة والحنكة والحكمة والإلهام الذي لا يخطئ.
???
لا يصنع الطاغية نفسه. تصنعه بيئته.
أذكر أنني شهدت، كما جميع العراقيين، وجبات متتالية من الاعدامات، شملت مئات من المدنيين والعسكريين، بعضهم مجرد مجندين، أو حزبيين ينتمون الى اتجاهات متعددة، فيها اليسار واليمين والمرتدون من البعثيين… ولم يكن أحد يناقش أسباب هذه الغزارة في الاعدامات لمتهمين شنق أكثرهم أو أعدم رمياً بالرصاص من دون أن يعرف تهمته تماماً.
أعرف أن قيادة الحزب جميعا كانت تعرف باغتيالات فردية متكررة، تتخذ مرة شكل اصطدام بين سيارتين، ومرة حادث حريق مفتعلاً، أما غالباً فتتم برمي جثث المنتقدين أو المعارضين في قناة الجيش…ولكنها لم تكن تتحرك بالاعتراض أو حتى بالسؤال.
وأعرف أن آلافاً مؤلفة من خيرة شباب العراق، وبينهم جيل كامل من البعثيين، قد ألقي بهم في المعتقلات أو في السجون من دون تهم محددة… أما الشيوعيون والقوميون العرب والمنتمون الى أحزاب عراقية فحدث عن مقاتلهم ولا حرج.
كانت صورة الطاغية تصنع بأحكام الاعدام والجثث المرمية في قناة الجيش، وأقلام المنافقين وألسنة الدجالين الطامحين الى موقع في السلطة ولو على ركام من جماجم الآخرين.
???
لا يصنع الطاغية نفسه، يصنعه محيطه..
في البدء كان الخليجيون ينظرون الى صدام باسترابة… لكن الكويتيين الذين كانوا قد حصلوا بعد طول انتظار على الاعتراف بدولتهم من الحكم البعثي الاول الذي جاءت به ثورة 8 شباط 1963 أخذوا يستعيدون تدريجاً صلة الرحم مع العراق. ثم أخذت صورة صدام تتعاظم في نظرهم باعتباره الرجل القوي الى أن كانت حربه على ايران فاستوى على عرش بطل الفارسية هازم الفرس ، حامي عروبة الخليج .
وعلى امتداد السنوات الثماني الطويلة والمثقلة بالدماء والجثث والخراب، كانت صورة صدام حسين تكتسب كل مهابة صلاح الدين معززة بعروبة خالد بن الوليد .
سقط مليون قتيل عراقي أو أكثر، وأزيَدُ منهم من الايرانيين، وتم تدمير الجنوب العراقي جميعا، بدءاً بالبصرة وحتى مشارف بغداد الجنوبية.. حتى اذا انتهت الحرب بهدنة قبلها الإمام الخميني مرغماً كمن يتجرع السم رفرفت صورة صدام حسين في كل مكان من الارض العربية، بينما كانت دولته التي صارت مجرد جيش قد باتت منهكة، مفقرة، تكتظ مدنها وقراها بالارامل والأيتام والمعوقين.
???
لا يصنع الطاغية نفسه. يصنعه محيطه.
خرج صدام حسين من الحرب ضد ايران منتصراً… ببلد مدمر، وشعب معسكر، واقتصاد خرب، ولا دولة. لكنه كان قوياً بما يكفي لكي تطأطئ أقطار الجزيرة والخليج رؤوسها أمامه، ولكي تلتهب شعبيته في صفوف العرب المشوقين الى أي نصر، ولو حتى في كرة القدم..
صار صدام حسين بطل الأمة . لم يسأله أحد عن كلفة الحرب التي خرج فيها الجميع على المحرمات، فدفعت دولة مكة المكرمة ثمن السلاح الملحد، واستقبلت موانئ الخليج التي ما تزال تخضع للهيمنة البريطانية الاميركية بواخر سلاح وذخيرة آتية من الاتحاد السوفياتي ودول المعسكر الاشتراكي، المحظور التعامل معها حتى يومذاك.
انتهت الحرب، فأدار الخليج وجهه عن صدام. ووجد بطل القادسية أن جيشه اللجب عاطل عن العمل، وهو في أي حال لا يملك غيره. وقدر أن اللحظة مناسبة، فأفتتح مفاوضة جديدة مع الخليجيين، ولكنهم كانوا قد باتوا في غنى عن جيشه، وقد استعادوا الآن خوفهم منه مجسماً.
.. وهكذا أقدم صدام على غزو الكويت، مفترضاً أن الغرب سيتسامح معه فيمنحه جائزة الترضية هذه، وان سائر الخليجيين سيأخذهم الرعب فيقفون على الحياد.. مفترضاً ان قلوب الشعوب ستكون معه.
? ? ?
الطاغية لا يصنع نفسه. يصنعه جبن الآخرين عن مواجهته.
من تكبد مليون قتيل، وأكثر في حرب ظالمة أولى، ولم يحاسبه أحد، لن يتورع عن خوض حرب ثانية بكلفة أقل. لكن كلفة غزو الكويت كانت أبهظ: انتهت باحتلال بعض العراق وفرض حظر الطيران فوق شماله وجنوبه، وفرض الحظر على صادراته النفطية واقتطاع مبالغ هائلة منها لتسديد ديون قديمة وتعويضات مستحدثة للمتضررين، بينما بقي العراق المحطوم الاقتصاد والكرامة يعاني القهر وشظف العيش وذل الحاجة.
كم مليوناً من العراقيين قتل صدام أو قُتل في عهد صدام؟!
كم مليوناً من العراقيين شرّد حكم صدام في المنافي القريبة والبعيدة؟
… ربما لهذا قيل ان الاحتلال الاميركي للعراق قد جاء في موعده تماماً: كانت أرض السواد، بلاد بابل، بلاد ما بين النهرين، قد باتت خراباً، شعبها مكسور بذلّ الحاجة وإذلال سلطة المخابرات التي شملت الرجال والنساء وتلامذة المدارس، وجيشها اللجب بغير سلاح وبغير قضية.. جنوبها مدمر بقصد مقصود، وشمالها منفصل عملياً ومستقل (بنفطه) عن سائر البلاد.
لهذا أيضاً قيل ان الطغيان قد اختار وريثه: الاحتلال الاميركي.
لهذا ايضا يمكن القول الآن ان الوكيل المحلي للاحتلال الاميركي أسوأ من الاثنين معاً: لقد تصرف كدكتاتور قزم في تسرعه للتخلص من صدام حسين بدافع الانتقام لماضيه، وأعطى شهادة براءة للاحتلال الذي حكم على العراق كله بالاعدام.
? ? ?
الطاغية لا يصنع نفسه، يصنعه محيطه وأحيانا عدوه.
نقلت الأخبار ليلة السبت الماضي أن الرئيس الاميركي جورج بوش ذهب الى النوم مطمئناً الى أن حكم الاعدام سينفذ بصدام حسين، مع الفجر.
ونقلت وكالات الانباء العالمية صورة مناضل متقاعد أعمته شهوة السلطة بأكثر مما أعمته شهوة الانتقام وهو يوقع قرار إعدام صدام حسين صبيحة عيد الأضحى المبارك وبينما ملايين المسلمين يؤدون مناسك الحج ويقفون على جبل عرفات في مكة المكرمة.
ونقلت الوكالات ايضاً ان الكردي التائه الذي أوصلته انتهازيته التي لا يشق لها غبار لان يكون أول رئيس لجمهورية العراق تحت الاحتلال، قد رفض التوقيع على القرار بالاعدام، حتى لا يقال غداً إن كردياً قد أمر بشنق الرئيس العربي لجمهورية العراق.
وسيقول التاريخ غداً إن صدام حسين الذي بدأ شاباً ممتلئاً بالحماسة لعروبته الى حد مشاركته في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم (قائد ثورة 1958)، قد تمكن من حكم العراق لمدة 35 سنة طويلة وحافلة بالجثث والدم والانجازات والحروب.
الى أن تدخل الغباء السياسي فحوّل الطاغية الى شهيد.. ولو بلا قضية، وأجج نار الفتنة التي تتهدد العراق وما جاوره من أقطار، عربية وايرانية وتركية الخ.
رحم الله العراق.. ورحم الله الأمة وجنّبها خطر إنجاب المزيد من الطغاة.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
في زمن الخوف لا يتبقى لي ملجأ إلا الشعر وحبي..
الملجأ واحد، كما لا بد تعرفون، فالشعر، يأخذني الى الحب الذي يتدفق دواوين من الشعر، بعضها بلا وزن، وبعضها بلا قافية، ولكنها جميعاً تشكل حاضنة تطرد شبح الموت وتجعل الرغبة في الحياة شبقاً مفتوحآً، أوله الحب وآخره الحب..