طلال سلمان

هوامش

الرياض تهدم أسوارها، وتجمع المختلفين القدامى… مهزومين!

أسقطت الرياض، بقرار واع اتخذته الاسرة الحاكمة، الاسوار الحديدية التي كانت تتحصن خلفها، بالخوف من مواجهة الآخرين، او بالخشية من ان تهب عليها رياح التغيير، سواء أكان مصدرها عربيا (الاحزاب التي كانت تقول بالثورة..) أم المعسكر الاشتراكي، خصوصا ان الغرب الاميركي كان يعمل بدأب على تغذية شعورها بالخوف باعتباره استثمارا يعطي اعلى معدلات الارباح نفطا ونقدا ونفوذا.
واذا ما اتخذنا من مهرجان الجنادرية نموذجاً توجب علينا ان نرى فيه الى مدخل جدي لذلك التحول… فقد كان المهرجان في صيغته المطورة التي اعطته طابع منتدى الحوار المفتوح مع »الآخر«، اي »آخر«، النافذة الواسعة التي فتحت في »السور«.
في البداية كان المهرجان مجرد مناسبة لسباق الهجن، ثم تم تطويره بأن يصبح معرضا للتراث والفنون الشعبية. بعد ذلك جاء القرار الشجاع بفتح ابوابه امام جميع الادباء العرب، شعراء وكتابا ومسرحيين ومفكرين، فيهم القومي والبعثي والماركسي والشيوعي، وكلهم كانوا ممنوعين من دخول ما كان يعرف بمملكة الصمت.
وهكذا صار المهرجان ارض لقاء وحوار بين مختلف المبدعين العرب، وصار فرصة مفتوحة امام مثقفي المملكة للتلاقي وتبادل الآراء مع من كانت كتبهم ممنوعة وأفكارهم محرمة (الا بالتهريب) وأشعارهم تدخل خلسة عبر »كاسيتات« مموهة بالأغاني التافهة الكلمات والمسروقة ألحانها.
لم تتغير وظيفة المهرجان بقرار همايوني، وانما جاء ذلك في سياق مجموعة من القرارات التي أتاحت للمطبوعات السعودية ان تصبح صحفا عصرية، تماثل معظم الصحف في الاقطار العربية التي سبقت الى تطوير مؤسساتها الاعلامية، بعدما اكتشفت انه لم يعد ثمة ما تخافه.
لقد تبدلت الدنيا، ودار الفلك بالماركسية والقومية والدعوة الى الوحدة العربية معطوفة على اشتراكية هجينة، فتهاوت جميعاً وسقطت او هي تكاد تندثر.
لكن هذا السقوط لم يكن خيرا كله، فهو قد تسبب في انكشاف الحجم المريع للفراغ الفكري والسياسي… ثم تبين ان »الشرهات« وحدها لا تكفي لعلاج الطموح المشرد الى التغيير، والى التقدم في اتجاه العصر.
ثم ان الفراغ وسع المساحة امام الأفكار الرديئة، وامام التطرف، وامام المطالبة الجامحة بالتغيير التي هبت من على يمين الانظمة الحاكمة، والتي اتخذت من الشعار الاسلامي رافعة وصلة وصل مع الجماهير التي هي بغالبيتها الساحقة من اهل الايمان العفوي.
وسرعان ما تبين ان الخطر الجديد امرّ وادهى من الخطر القديم، فهو ينبع من قلب مرتكزات النظام، ثم انه يملك بشعاراته المرفوعة وبمنهجه الايماني الذي يشمل الى العقل القيافة والسلوك شرعية الحق بمساءلة النظام: ألا يرفع الحكام الشعار الاسلامي، اذن فليحاكموا بمنطوق هذا الشعار نفسه.. ذلك يكفي لادانتهم واظهارهم بصورة الخارجين على الدين الحنيف!
في البدء كان الصدام حتمياً… ولقد كان مكلفاً معنويا ومادياً، اذ وضع الانظمة التي تحكم بشعار الاسلام امام خيار مر: ان تذعن لهؤلاء فتتبدى كأنها كانت خارجة على الدين، او تتصادم معهم فتتبدى كأنها تحطم المنصة التي تقف فوقها.
وقد فاقم من ذلك الصراع »انقلاب« أسامة بن لادن ومن معه على من شجعهم ورعاهم وحاول توظيفهم في حربه ضد الاتحاد السوفياتي لاستعادة افغانستان من دار الكفر الشيوعي الى دار الاسلام.
وكانت ضربة »11 ايلول سبتمبر 2001« هي نقطة التحول الاجباري: بات على الانظمة ذات الشعار الاسلامي ان تميز نفسها عن البن لادنيين، وليس هذا فقط، بل قد بات عليها ان تنقلب عليهم كما انقلبوا عليها، وان تقاتلهم مباشرة وحيثما وجدتهم في الداخل والخارج… وكانت في حربها الجديدة هذه تخضع لضغوط عدة، بعضها يجبرها على الاعتذار من الادارة الاميركية والتكفير عن خطايا هؤلاء العاقين من ابنائها، وبعضها الآخر يجبرها على تحصين ذاتها في مواجهة مخاطرهم على الأمن وسلامة النظام في الداخل.
وتحمل الرياض، حتى اليوم، بعض آثار تلك الحرب التي ما زالت مفتوحة على »الضالين من حملة الشعار الاسلامي«.
لكن ذلك لم يمنع من توسيع هامش الحريات امام الصحافة التي شهدت طفرة ملحوظة تقدمت معها خطوات واسعة الى الأمام.
كذلك فهو لم يمنع من منح التلفزيون هامشا اوسع لمحاورة ضيوفه، بغير رقابة مسبوقة، وبغير حجر على آرائهم او تدخل فيها، بحيث إنك يمكن ان تدعى الى حلقة نقاش، او الى محاورة مقدم او مقدمة برنامج حواري مفتوح من دون ان يلفتك »المخرج« الى حدود الكلام المباح.
ان المملكة تتخلص تدريجاً من كثير من العقد التي كانت تحكم سلوكها السياسي، فمواقفها الآن معلنة بغير تحرّج، وإعلامها يشهد طفرة ملحوظة تأخذه في الاتجاه الأنفع لجمهوره.
ثم ان مهرجان الجنادرية بات يشكل فرصة التلاقي بين كبار المثقفين العرب الذين كانت اسماؤهم تتصدر القوائم الحمراء.
ترى، هل كان ضروريا ان تنطفئ تلك الاسماء، وان تخمد النار في تلك الافكار التي غيرت الكون ذات يوم، كي يُرفع هؤلاء عن قائمة الممنوعين، وان يتلاقوا كأنما للوداع وتأبين الأمس اكثر مما يكون لقاؤهم بشارة او وعدا بالغد الأفضل؟!

شمعة لعيد ميلاد فكرة اسمها محمد سيد أحمد!

التقينا في روما على غير توقع. كنا مدعوين الى ندوة نظمها بعض أهل اليسار الايطالي من ضمن جهد لتوسيع دائرة الحوار بين اوروبا والعالم الإسلامي. لم يأت اي منا، محمد سيد أحمد وأنا، للغوص في المسائل ذات الطابع الديني عموماً والإسلامي خصوصاً، ولكننا فهمنا المنطلق السياسي للدعوة، ومن ثم لطبيعة الحوار. وهكذا استطعنا ان نشارك في محاورة »الزملاء« الاوروبيين الذين اعطوا تجمعهم اسم »الزيتون« تيمناً برمزيته.
وكالعادة، كان محمد سيد أحمد »نجما« بثقافته الواسعة، وبإتقانه للغات عدة، وبمعرفته المباشرة لمعظم دول العالم، واوروبا بالذات. والأهم انه كان »جنتلمان« بالمعنى الراقي للكلمة، فهو ما زال يحتفظ ب»ابن الباشا« في مسلكه: تهذيب رفيع، ولياقة ملحوظة في التعامل مع الكل، وبالذات مع النساء، بحيث استقطبهن جميعاً بمجاملاته ورقته.. وغالباً ما كان يلجأ الى حكايات عن تجاربه كباشا ماركسي ذاق مرارة السجن لسنوات طويلة، وأجبر في المعتقل على تكسير الصخور، وما هو أمر وادهى: »التعايش« في زنزانة واحدة مع بعض »الأخوان المسلمين« ومن ثم محاورتهم ومحاولة الوصول الى »برنامج مشترك« ضد الحرس الذي يتقصد اذلال الجميع، ومن ثم تحريض كل طرف على »خصمه« العقائدي العنيد!
لا اعرف، بالضبط، كيف استطاع مراسل »السفير« في روما أن يعرف عيد ميلاد محمد سيد أحمد، ولكنه كان متحمساً لأن نفاجئه باحتفال بسيط نعبر به عن عاطفتنا الصادقة نحوه.
أشار علينا البعض بمطعم ذي طابع تراثي، يحتفظ شكلاً ومضموناً بتقاليد القرن الثامن عشر في أثاثه من الطاولات الى الصحون والكؤوس وأنواع المأكولات.
تلاقينا في جو حميم، كأنها دعوة عادية الى عشاء عادي.. وقبيل ان يتعتع السكر مضيفينا الطلاينة دخلت صاحبة المطعم بقالب »الكاتو« وقد زرعت فيه شمعة واحدة، وانفجر الجميع غناء بلغات عدة متمنياً لمحمد سيد أحمد العمر الطويل.
زغردت الفرحة في عيني ابن الباشا الذي اهتدى الى الماركسية فتى فتمرد على بيئته و»خان طبقته« وانتسب الى أكثر من تنظيم شيوعي، حتى إذا »اهتدى« الشيوعيون الى ضرورة المصالحة مع نظام جمال عبد الناصر، اثر التوافق التاريخي الذي توصلت إليه القاهرة مع موسكو في النصف الاول من الستينيات، خرج محمد سيد أحمد ورفاقه من المعتقلات الى المواقع التي يستحقون في الصحافة والثقافة والفنون في مصر الناصرية.
قبل أيام كنت في القاهرة، وحاولت ان اصل الى هاتف محمد سيد أحمد كي احييه، فلم تتيسر لي معرفة رقم »الموبايل«، فتركت له رسالة ود مع صديق مشترك.. وفوجئت، بعد عودتي الى بيروت، بالصديق يهتف لي قائلاً وفي صوته رنة حزن: لقد سبقنا الموت الى محمد سيد أحمد، الرجل الذي علمنا الكثير ورحل من دون وداع.
لقد غاب واحد من كبار المثقفين العرب.. وخسرت الكتابة في الفكر السياسي قلماً غزيراً نابضاً بالحياة. ليعوضنا الله أقلاماً في مثل خصوبته. المدن بناسها. القاهرة الآن أقل ثقافة.

الحب بالمفرد

ظلت تتحدث عن ذاتها حتى نام.
قالت: هل أنا مضجرة؟ هل حديثي أنا ثقيل على سمعك الى هذا الحد؟ أنا لا اتحدث كثيراً عن نفسي. كنت احدثك عن اصدقاء لي، وعن اعزاء احبوني، وعن ناس يتصلون بي ولو كنت في اقصى الأرض. ماذا افعل ان كان الجميع يعشقونني. صدّقني أنا لا احب أحداً غيرك. أنا اعرف كثيراً من الناس، وكلهم يحبونني. انني اغرق في بحار من الحب. الحب مطر يبللني حيثما ذهبت. ليس اعظم من ان تكون محبوباً. الحب نعمة من عند الله. الحب منحة الهية. لماذا تغار اذا احبني الآخرون. وماذا لو احبني الجميع واحببتك أنت. الا تحب ان أكون محبوبة يا حبيبي. اريدك ان تغار فحسب. ما هم ان احبني ألف شخص.. ان غيرتك في هذه الحالة ستكون عبثاً. مع ذلك فأنا اوفر لك الانتصار عليهم جميعاً لانني أنا اقرر من أحب. الا تسمعني يا حبيبي أنا؟! ألست أنا حبك ايها الأناني الذي تتركني احدث نفسي عن نفسي ولا تسمعني فاضطر الى تكرار القول حتى اقنع ذاتي بأنني مولودة لكي اكون الحب كله. إذا احببت نفسي فهذا معناه انني احبك.
… وقام يبحث عمّن يمكنه ان يتبادل معه الاعتراف بالحب.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
… ويحدثونك عن شعراء الحب!
أما أنا فكلما قرأت غزلية رائعة، او سمعت شاعراً يبث لوعته حتى يكاد يبكيني نشوة، اخذتني المقارنة الى التشكي من قصوري.. ولكنني حين اقرأ في ديوان عيني حبيبي أضحك من قصورهم، لأنهم لا يغرفون مثلي من منبع الشعر!

Exit mobile version