قراءة أولى في كتاب طرابلس الشهيد!
أمضينا يوم الشهداء في مدينتهم: طرابلس.
وهي مدينتهم لأنها مثلهم تعطي ولا تأخذ، تقدم من ذاتها ولا تطلب، ثم انها مثلهم تنطوي على جرحها بصمت وبغير إعلان ومهرجان ومنّة وجميل.
ثم انها مثل مَن قدمتهم من أبنائها على مذبح الشهادة، يعرفها الجميع إلى حد النسيان، ويكرّمونها في الغياب ويحرمونها حقها في الحضور.
لطرابلس ملامح الشهيد،
إنها بهية الصمود، معطرة بزهر الليمون، متمردة الروح، غنية بحب الفقراء الذين يعتبرونها ملاذهم ودار الستر.
قبل أربعين عاماً، أو يزيد قليلاً، كانت الزيارة الأولى.. لكن طرابلس كانت مقيمة في حنايا الصدر عبر حيويتها الدافقة، عبر حضورها القوي، عبر التزامها الأصيل بقضايا الأمة… بل لطالما رأيت في طرابلس بزخمها القومي العظيم ملخصاً لأجمل ما في أمة العرب، حيث تستولد العراقة الأمل، وحيث تؤكد الحيوية والمبادرة إلى الحركة أهلية الأمة وحقها في غدها.
الشارع الزاخر بالبشر الطيبين الذيشن يعطون بلا حساب ولا يسألون عن البدل، الشعار السليم المعبِّر عن سليقة تلتزم البديهيات ولا تأخذها المجادلات إلى العبثية، الشباب الحاضر دائماً وأبداً للتعبير عن ضمير الأمة، دعماً لإرادة التغيير والقيادات الواعدة والقادرة على إحداث التغيير، وتأجيل المطالب الذاتية إلى ما بعد »النصر الكبير« في ساحة الصراع الأصلي ضد قوى الهيمنة الأجنبية والمشروع الصهيوني والمتخاذلين في الداخل، وفي صفوف هؤلاء ينتظم الإقطاع والاحتكار واستغلال النفوذ والمبهور بالغرب والملتحق بالأقوى.
كانت طرابلس دائماً هي البوصلة والمعيار، إن تحركت فالمطلب محق، وإن واجهت فدمها يشرف الراية المرفوعة ويسقط الجدل محدداً خط السير.
في الأسبوع الماضي شرفتنا طرابلس بأن كرّمت »السفير« في عيدها الفضي، واحتشدت نخبة من رجالات طرابلس والشمال في الندوة التي نظمتها »الرابطة الثقافية« التي كانت تحتفل أيضاً بفضيتها في مهرجان لمعرض الكتاب انفتحت له جنبات معرض رشيد كرامي الدولي الذي ما زال مطلباً بل جرحاً مفتوحاً، يرجأ استكماله من عهد إلى عهد، وتعاد المناقشة حول جدواه مع أنه ضرورة حياتية ملحة لطرابلس وكل الشمال ومعهما بعض سوريا.
ما أروع الحشد: بسطاء الناس، الشبان والفتيات، الأساتذة والتلامذة، أصحاب المهن وربات البيوت… الكل هنا يتجولون بين الأجنحة، يتصفحون الكتب، يقلبون صفحاتها، يناقش بعضهم بعضاً، ثم يحتضن واحدهم كتاباً أو اثنين أو مجموعة من قصص الأطفال لأبنائه.
الكتب خبز الحياة، وها هم المتشوقون إلى العلم والمعرفة يحتضنون ما استطاعوا شراءه منها، ويمشون تطفح وجوههم بسعادة غامرة.
الشباب أكثرية في المعرض المزركشة أجنحته بالأغلفة الملونة والأسماء المعروفة لكتّاب قدامى ومحدثين، وأركان الرابطة الثقافية يدورون على »ضيوفهم« ليطمئنوا إلى أن لا أخطاء ولا شكاوى ولا إشكالات.
أعظم الناس هم البسطاء، الذين تمتد إليك أياديهم بقلوبهم، والذين يحفظون الطيب من الأعمال ويغفرون الإساءة أو الهفوة.
»أم الفقير« طرابلس.. ولعلها المدينة الوحيدة في لبنان التي لا يتباهى أهلها بمظاهر البذخ والإسراف، ولا يعطون من حبهم أو من احترامهم للآخر بقدر ثروته.
طرابلس أول من يحضر فيواجه بصدره من أجل العروبة، ومن أجل الاستقلال، ومن أجل الحرية والكرامة. ولقد واجهت ودفعت من دم شبابها من أجل عروبة لبنان وعروبة سوريا، وكذلك من أجل عروبة ليبيا ثم الجزائر في ما بعد، ومن أجل عروبة فلسطين على امتداد عصر نضالها.
لقد عاشت هذه الفيحاء عمرها على حافة الشهادة، عاصمة للشمال الموسومة ملامحه بدم الشهداء الذين منهم من غاب ولم يمت، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً..
وكما الشهداء كذلك العلماء والفقهاء وأساتذة الأجيال ممن عبروا.
والمفارقة قاسية بين ما أعطاه الطرابلسيون خصوصا والشماليون عموما، وما نالوه من حقوقهم البديهية.
طرابلس هي ضحية المعادلة المغلوطة التي فرضت على لبنان أن يختار بين هويته وبين هذا النظام الهجين الذي يقدم الطائفة أو ربما المذهب على الوطن.
لكن طرابلس تواصل مسيرتها، تحمل في قلبها جمال عبد الناصر، وعلماءها وقادتها وشهداءها الأبرار، ويجتهد ناسها البسطاء الطيبون في أن يجعلوها في قلب الغد.
العثار الذي أصبت جبار
تكشف لنا النائب والوزير السابق عمر مسقاوي عن »شاعر« محاصر بين مقتضيات اللعبة السياسية وبين موجبات »مكارم الأخلاق«، وهي واحدة من كبريات الجمعيات الخيرية في طرابلس والشمال، ومجال عملها الشأن الاجتماعي.
كانت السياسة قد أوقعتنا في خطأ تقديري، مما تسبّب بإساءة غير مقصودة إلى الرجل الذي لشدة التزامه بالقواعد الأخلاقية ظل لفترة طويلة، ولعله ما زال، مرشحاً لمقام المفتي… وعتب علينا عمر مسقاوي، وكان محقاً في عتبه.
خلال تكريم طرابلس »السفير« في فضيتها افتقدنا حضور عمر مسقاوي، وتبيّن أن العتب ما زال يحجبه عنا ويمنع التواصل… وأرسلنا إليه نسخته من مجلد »السفير 25 عاماً ذاكرة للمستقبل«، مع إهداء بسيط: لعلنا أخطأنا… لعلك تغفر«، وكان ان جاء الرد شعراً.
قال عمر مسقاوي:
»صدف أني في قراءاتي وما أدوّنه في دفتري الخاص أن قرأت في »مدارج السالكين« في التصوف البيتين التاليين:
»ان جرى بيننا وبينك عتب
وتناءت منا ومنك الديار
فالوداد الذي عهدتَ مقيمٌ
والعثار الذي أصبت جبار«
فرأيت تربيعهما بما يلي:
»ان جرى بيننا وبينك عتب«
وتناهى منّا إليك سرار
وتجافى عن البيان اقتدار
»وتناءت منا ومنك الديار«
»فالوداد الذي عهدت مقيم
وهو أصل وما سواه نثار
فلنعد نقطف الحياة نضارا
»والعثار الذي أصبت جبار«
أرجو أن يكون ذلك جوابا على مبادرتك، وبداية لعلاقات وطيدة«.
وهكذا يكون الشعر قد أصلح ما أفسده النثر المرسل بغير قصد.
ترانيم على وتر الغياب
ترنيمة أولى..
لم يعد لنا غير الرصيف يعبره اللقاء فتشتعل المصادفة بالحنين وتنفض الغبار عن المنسي عمداً حتى لا يكون التذكر جرحاً مفتوحاً.
شهقت المفاجأة المحببة في العيون وانفتح الذراعان لاحتضان اللحظة البهية بينما »الملاك الحارس« يستعير ثياب الشيطان ليرمي في مستنقع الإيهام لعنات الحسد وغيرة العجائز اللواتي غادرهن زمن الحب بغير وداع.
هذا عنواننا الجديد: أمام الباب المفتوح على صمت الحيطان، خلف الشبهة التي تنسكب فوق بلاط الرصيف، على يمين الشرطي الذي يحرس فضوله ولا يتحرك إلا لطرد من يحجب عنه فرصة التمسح برداء السلطان.
عنواننا الجديد؟
وهل كان لنا غير الهواء أرض تلاقٍ، وغير مدى الأغنية مجالاً للتحاضن في أفياء الكلمات التي قالها مثلنا لمثلنا وأشاعوها فاتخذناها مسكناً؟!
هذه المرة، كانت الكلمات فاصلاً، يقولها غيرنا لغيرنا، فنتلطى في الصدى لنستولد عبر النظرة المختلسة معنى من خارجها نمتصه حتى يهدأ الداخل المهتاج بحلول الذكرى محل الإمكان.
لا يمكن تعليق الحب على شريط المصادفة.
نتلبث الآن في وحشة السكون، بعدما انطفأ وميض لحظة الفرح الذي التمع كبرق في صحراء الليل والعطش والقرب القريب من الاستحالة.
نمشي فوق رصيف المصادفات ونطلق عيوننا تبحث عن المفاجأة الجديدة للحب الذي صنع زماننا في قلب اليباب ودويّ الموت العبثي وهو يطاردنا فيوحدنا في هنيهة تختزل بهجة عمر مديد.
ترنيمة ثانية
عشر سنوات من الغياب والرغبة المرجأة: كيف أمكنك الرزوح تحت الوطأتين؟
أقرأ في كتاب العيون ذوب الكلمات التي لم نقلها.
تجتاحني رعشة اليد الممتدة للمصافحة والمغلولة عن الاحتضان.
يتصاغر الجسد الملفوف بأدب المجالسة وهو ينطوي على لهفته لأن يتنفس ويطلق صيحاته المكبوتة.
تتكسر جمل المجاملات قبل نهاياتها.
لا يُملأ مثل هذا الفراغ المدوي بحطام الكلام البديل.
تغطي الرموش مساحة الاعتراف، فإذا ما انحسرت تكفل الصمت بإعلان ما تم دفنه فيه مما يصعب طمسه فيتسرب عبر التنهد الكليل.
والصمت يخيف أكثر من كلام مفرغ من معناه.
يهتز فنجان القهوة وهو يداني الشفتين فينطق الصمت ويجلجل المعنى.
لا بد إذاً من الانصراف،
لا بد من غياب جديد خلف كثبان المضمر.
لا بد من تعليق الرغبات على حبال الصمت الممدود بين الغيابين لتأكيد عبثية الحضور من خارج الحضور.
ترنيمة ثالثة
انطفأت الشرارة على تخوم الحريق.
القاعة عينان ناعستان تغمزان فتشق الومضة بلادة المتكأكئين على بقايا أعمارهم، ويمتد طيف ابتسام المعابثة المهربة كنسمة رطبة في أصيل صيفي قائظ.
يتنشق شميم البهجة التي طرأت فطغت وحملته على جناحها إلى حيث يتشهى خارج الدائرة المقفلة للعجز.
يتهاطل عليه رماد السنين فيثقل حركته ويحاصره داخل شرنقة الخوف من الاكتمال.
هيا انكسر واخرج مجرجراً أذيال هزيمتك أيها الذي تحطمك همسة شوق.
هيا أدخل شرنقتك واترك للرماد مهمة خنق الكلمات التي لم تقلها إلا بعد الغياب.
هيا اهرب أيها الأصغر من حرفين يختزلان العمر.
الطفلة أماً … لمنافستها!
بلا مقدمات أخذت الطفلة المشاكسة التي لما تكمل عامها الثالث تكتسب ملامح »الأم« وهي تتقدم من شقيقتها التي كانت قد فتحت عينيها على الدنيا قبل ساعات.
جلسنا نتأمل »الغريزة« وهي تحتل المساحة كلها، وتفرض منطقها.
ارتفع صوت »الوليدة« فتحدد موقع فمها في كتلة العجين المنمنمة. وفي حين افترشت وجوه الكبار ابتسامات عريضة ابتهاجاً بالنسل الجديد، فقد اندفعت الطفلة نحو »الوليدة« مهتاجة، تحاول عبثاً تبيّن سبب بكائها، وتجمع الألعاب لتشغلها، حتى إذا استمر بكاؤها تقدمت تحاول أن تحملها، تحاول أن تقبّلها، تحاول أن تسترضيها بكل ما طالته يدها من الورد والهدايا وأصناف الملبس.
وحين كفت الوليدة عن البكاء التفتت الطفلة إلى الحضور تشير إليهم وقد وضعت سبابتها على شفتيها ان أخرجوا على أطراف أصابعكم.
وقفت عند رأسها، تذب عنها الفراش المتوهم وهمسات الأهل الممتلئين بالغبطة والفضول.
وحين عمّ الصمت انتبهت إلى حقيقة أن الوافدة الجديدة منافس خطير، فعادت تسترد ما وهبتها من ألعابها، وهي تصرخ لتستعيد موقعها باعتبارها الأولى والأكبر والأفضل والأَولى بالرعاية، وكل من تبقى ضيوف ثقلاء لا يستحقون إلا القليل من الشفقة لأن لا مكان آخر يذهبون إليه.
لكن صرخة واحدة من الوليدة أعادت الطفلة أماً صغيرة وحائرة.. من جديد!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب إدمان أيضاً. إنه في البداية شغف، ثم ثقة، فاطمئنان إلى الغد، فحسم للخيار، فتوحد قاعدته الرضا. لا يخطر ببالك أن تطالب حبيبك بما لا يقدر عليه، وتعرف أن ما أعطاه أو ما وفره هو الأقصى من بين ما يتمناه. تطلب حبيبك ولا تطالبه. أنتما معاً دنيا البهاء والجمال والروعة.. لن تضيف إليها الرياش الفخمة الكثير، ولن يضيرها إن أقمتما في خيمة أو في غرفة يتسع ضيقها للكثير ممن يطلبون الحب لذاته ويبحثون عمن يستحقه ليعطوه.