طلال سلمان

هوامش

رياض الريس يدخل في الخوارج ليُخرج أهل الداخل!

أخيراً وجد رياض نجيب الريس »المرتبة« التي يرتاح فيها وإليها: آخر الخوارج…
ولقد اختار، بوعي، أن يسحبها على حياته جميعاً، من الولادة في دمشق، لأب حموي اقتحم السياسة من باب الصحافة فلمع فيهما معاً، وأم طرابلسية حاولت تعويض الغياب المبكر لرب الأسرة في البيت كما في العمل العام، في انتظار أن يكبر الفتى ويكمل الدرب والمهمة، لكن التطورات السياسية عدلت المسارات جميعاً…
ولأنه اختار أن يكون »آخر الخوارج« فقد استعاد رياض نجيب الريس سيرته الذاتية، وتجاربه المهنية، بإيجاز مقصود يبتر الرواية بتراً في بعض الحالات، وبتفصيل يتيح له أن يسدد حسابات قديمة مع بعض من عمل معهم أو عملوا معه، وبعض من صادقهم أو صادقوه ثم حدث الافتراق وفي نفس كل طرف كلام لم تسمح الظروف بقوله في الوقت المناسب.
وكعادته في كل ما كتب وقال رياض نجيب الريس، فإنه في روايته لنشأته ولتجاربه المهنية اجتهد في ابتداع »ربط نزاع« مع العديد من رفاق العمر، صحافيين وكتاباً وشعراء ونقاداً، فغمز من قناة هذا، وأومأ إلى ذاك بطرف عينه شزراً، ونكش بعض القبور بلمسات خفيفة لكنها تكفي لجيش من علامات الاستفهام، فلم يغفر ولم يرحم ولم يكبر على جراحه، وإنما ظل إنساناً طبيعياً يحب ويكره، ويحكّم رأيه (وعاطفته) في كل من عرف من البشر والعقائد والأفكار والأوطان والحكام…
تخيم رنة يأس أو قنوط على تجربة رياض نجيب الريس الغنية، كمحرر ومدير للتحرير ومندوب متجول، ثم كمقتحم لعالم الغرب بأول مطبوعة عربية جدية (»المنار«) التي تم له أن يؤسسها في لندن، التي فيها درس وتعرّف إلى الصحافة كمؤسسة فاعلة ومؤثرة في مجتمعها في ما يتجاوز »السياسة« بالمعنى المألوف، عربياً، إلى الاجتماع والاقتصاد والصحة والعلم، فضلاً عن صراع المصالح التي تنشئ الأحزاب وتصعد بها إلى الحكم أو تسقطها من دون دبابات ومواجهات بالسلاح بين رفاق السلاح.
ثمة نوع من إعادة الاعتبار إلى الأسر والعائلات وتقاليدها، وإلى أهل السياسة أيام كانت السياسة مجالاً للعمل العام مفتوحاً أمام المتقدمين إليه بروح المناضل لا بتملق المنافق… وفي هذا السياق يستعيد رياض بعضاً من سيرة أبيه نجيب الريس الذي خاض المعترك السياسي من باب الصحافة، قريباً من »الكتلة الوطنية« التي كانت تضم وجوه العمل الوطني القومي، متصدياً لقوات الاحتلال الفرنسي، بما كفل نفيه لسنوات، على فترات، من دون أن يكل أو يمل أو يغيّر خطه، وكانت المكافأة أن انتخبه »الدمشقيون« نائباً، هو »الحموي«، وإن احتلت جريدته »القبس« المرتبة الأولى حتى رحيله…
تمتد الرحلة من دار الصياد إلى »المحرر« مع الزميل الذي غادرنا مبكراً هشام أبو ظهر، ثم إلى »النهار« التي كان مؤسسها جبران تويني صديقاً كبيراً آخر للوالد، فإلى »الحياة« التي دخل إليها متردداً لاختلاف في النهج السياسي، فإلى »النهار« مرة أخرى بعد اغتيال الزميل الكبير كامل مروة حتى انفجار الحرب الأهلية.
يروي رياض تجربته الفريدة في إنشاء دار للنشر ومكتبة عربية في لندن، ثم حكاية الجريدة الأسبوعية التي أصدرها هناك ولم تعمر طويلاً، »المنار«، ويستذكر الزميل الكبير الراحل نبيل خوري وتجربته معه في »المستقبل« في باريس، وكيف أوقفها لتبدل في سياسة المجلة…
ويختم باستذكار تجربته في »الناقد« ثم في »النقاد«، عارضاً لعلاقاته وصداقاته ومسامراته مع كوكبة من الشعراء والكتاب والأدباء الذين اقتحم ناديهم »بفضوله« كما بمحاولاته الشعرية، والأهم بنهمه إلى المعرفة وتذوقه الشعر وميله إلى أن يكون بين »الغاوين«… ثم عاد إليهم بلسان النقاد وأقلام الهواة الذين يتملكهم الميل إلى تحطيم »الكبار« كأسرع وسيلة للشهرة، على طريقة »كاسر مزراب العين«!
لعل مصدر اليأس في »أشياء من سيرة صحافية«، التجربة التي أراد رياض نجيب الريس إنجازها، وصرف زمناً في متابعتها، واصطدم بكل أصناف المعوقات التي يمكن تخيلها… وتلك التجربة كانت تتمثل في إصدار صحيفة تجسد شعاراً قديماً لجريدة أبيه وهي »جريدة واحدة في بلدين«، وهو الشعار الموازي ل»شعب واحد في دولتين«: جريدة تصدر في دمشق وبيروت معاً وتكون جريدة لبنان وسوريا في آن…
ومع أن رياض نجيب الريس قد أشار عابراً إلى تجربته القصيرة في »السفير« واعتبرها مجرد »تجحيش« تمهيداً لعودته إلى »النهار«، فإننا نتقدم بشكره على إيلائنا هذا الشرف.
على أنه أساء إلى نفسه حين »قرّر« أنه ترك »السفير« لأنها بدلت خياراتها في حين أنه قد جاءها في محطة تبديل لمساره بين محطتين على طريقه التي تزدحم بمحطات تغيير المسار…
كتاب رياض نجيب الريس الجديد »آخر الخوارج«، ليس سيرة ذاتية تماماً، وليس تأريخاً لمرحلة تماماً، بكل ما حفلت به من صراعات عربية عربية، وصراعات عربية دولية،
إنه أشبه برسالة وداعية، مع أن رياض نجيب الريس لا يمكن أن يتوقف عن الإنتاج، وإن كان في كل مرة يبتكر له شكلاً جديداً ونمطاً جديداً يقتحم به عالماً مختلفاً من الكتاب والقراء.
لقد أضاف رياض نجيب الريس، الذي طالما أحب أن يكون »الأول« بين أقرانه، وسعى جاهداً لأن يكون »الرائد« و»السابق« و»المتميز« بين زملائه وأبناء جيله من أهل الصحافة خصوصاً وأهل الثقافة (والنشر) عموماً، لقباً ومرتبة جديدة، وهما يفرحانه بقدر ما سيثيران حوله من العواصف والضجيج الذي يطربه.

كلما غرّب سنان أنطون شرّقه الشعر

يجب أن نبعد الضوء عن عيوننا كي نرى، كذلك يجب أن نبتعد قليلاً عن أصدقائنا (وعن أبنائنا) كي »نكتشف« مواهبهم، ثم كي نعترف بها.
وسنان أنطون كان قريباً جداً بحيث إننا تعاملنا معه كأخ وكصديق، وظلت موهبته خارج إطار علاقة الود، لا هو أقحمها علينا، ولا نحن ألححنا عليه في كشفها لنا، إذ افترض ولعلنا افترضنا أنها لن تزيده قرباً ولن تضيف إلى تقديرنا له، ولا سيما أننا نعرف ما يكفي عما عاناه في العراق الذي أُخذ منه كوطن وإن استُبقي فيه كسجين للطغيان حتى تيسرت له فرصة الخروج إلى الحياة… بعيداً جداً عن أرض الرافدين، مع أنه مغروس في طينها كحبة قمح.
وكأنما قدّر على سنان أنطون أن يعيش عمره مع الهزيمة وفيها، فهو قد ولد في بغداد في العام 1967، وترك العراق بعد هزيمة غزوة صدام الكويت، مهاجراً إلى الولايات المتحدة، حيث أنهى الماجستير في الدراسات العربية في جورج تاون، ويعمل الآن على إنهاء الدكتوراه في هارفرد… وهو قد ترجم شعر درويش إلى الإنكليزية… ثم جاء إلى بغداد، عبر بيروت والقاهرة، بعد هزيمة الطغيان بالاحتلال الأميركي في ربيع العام الماضي…
… وخلال »رحلته المشرقية« تسنى لي أن أعرف المزيد من ملامح سنان أنطون الفنان، الشاعر والأديب، فعرفته من خلال صمته، أكثر مما عرفته من خلال كلماته التي تقطر مرارة لترسم بعض ملامح الفجيعة العراقية.
قبل أيام وصلني ديوان سنان أنطون »موشور مبلل بالحروب« الذي اختار، واختارت دار ميريت القاهرة، لتقديمه هذه الأبيات:
»قبل أن ننسج خريفاً لطغاتنا/ لا بد أن نقطع هذه المجرّة الكربلائية
»ونحن نردد: كل حرب ونحن (لسنا) بخير!«
شعر الديوان ينساب كموسيقى جنائزية، فالموت يظلل كل سطر، والكلمات ظلال للجرح العراقي المفتوح منذ دهور والذي سينزف حتى يغطي السواد بدم أحمر قان:
»سفر الخراب هذا، وهذه واحتنا/ زاوية تتقاطع عندها الحروب
يتراكم الطغاة حول محاجرنا/ وباحة القيد لا تتسع إلا للتصفيق.. فلنصفق!
»فلنصفق! بهيكل مظلة تحترق/ نستقبل هذا المطر
ثم إله يضطجع على علمنا، لكن الأفق بلا أنبياء
قد يجيئون إذا صفقنا… فلنصفق!«.
ولأن حياة العراقيين سلسلة من الحروب الخطأ، في الزمان والمكان والهدف، ولأن أبطالها طغاة من الداخل أو من الخارج، فبديهي أن تكون للغة نكهة الدم تظللها المأساة التي كانت، وتلك التي ستكون:
»خط الحدود الممتدة على أرض الحنين/ بين وطن.. لم يكن وآخر.. لن يكون
خط كلما جرته يد الخيال هنا(ك) تعيد يد التاريخ هنا«.
على أن للحب حضوره الذي يغلب الموت: »البحر قاموس للزرقة/ تعكف الشمس على قراءته
»جسدك أيضاً قاموس لرغباتي/ الحرف الأول فيه سيستغرق عمري كله«.
والحب حين يعود سنان إلينا ويعود إلينا عراقه، فكلما رجع نحو الشمس غمره الحب فصيره شاعراً.
وسنظل ننتظر سنان الى أن تستعيدة أرضه ويستعيدها.

مارون كرم »يختير« قبل شعره !

قبل نصف قرن هبط شيطان الشعر الشعبي (الزجل) على مارون كرم مصطحباً معه حلمَ الحب أو وهمه، الذي سيصير حقيقة بعد ذلك، وسوف تخرج »سلوى« من الخيال إلى الواقع وستغدو »الملهمة« والزوجة والرفيقة ومصدر الوحي، من دون أن تقفل الباب على »سلوات« عديدات…
في الذكرى الخمسين عاد مارون كرم إلى »سلواه« الأولى وإلى »شعره« الأول، لعله يستعيد طيف شبابه، متوجساً أن هذا الديوان الجديد قد يكون ديوانه الأخير.
ومارون كرم يُذكَر في العادة مقروناً ب»سلوى« وبالفنان الكبير وديع الصافي صاحب الحنجرة المنفردة في سحرها والتي لم يتمتع بها مطرب آخر، ولم يستمتع بمثلها جمهور المتذوقين، جيلاً بعد جيل، كما استمتع جيلنا.
شعر مارون كرم بسيط، لا تعقيد فيه ولا استعارات تبتعد به عن اللغة اليومية، لكن الصوت النادر لوديع الصافي أضفى على الكلمات العادية التي يمكن أن يعبر بها أي إنسان عن حبه، وجعلها تقتحم وجدان المستمعين في لبنان، وتحمل إلى عشاق الطرب في الوطن العربي صورة ولا أبهى عن هذا اللبنان الساحر، فتعرّفهم إلى أنهاره وجباله، إلى قمره ونجومه، إلى أرزه وصنوبراته وسهول الورد، إلى أنماط العشق الريفي بصوره العفوية التي لا خديعة فيها ولا استعارات تُتعب الأذن ولا تدخل القلب.
سافر مارون كرم في غناء وديع الصافي، وسافرت معهما »الضيعة« بكل تفاصيلها التي تكاد تندثر، وحكايات الحب التي تبدأ صاخبة فوّارة بالعاطفة ثم لا تنتهي، فيطير النوم، ويتركز التفكير في المعشوق الهاجر، الذي لم تتح له الظروف أن يذوق خمرة الحبيب من أول العنقود الذي على الدالية، والذي ما قطف أحد مثله ولا عصر.
على أن رنة قنوط تسود هذا الديوان العشرين للشاعر الذي لم يتعب، والذي يبدو أنه يعيش »شيخوخة« مبكرة، ربما بفعل تأثره بثمانين مطربنا الذي لا شبيه له، وديع الصافي، والذي نتمنى له دوام الصحة والقدرة على العطاء وعلى إمتاع جمهوره العريض في لبنان كما في كل قطر عربي آخر.
عافاك الله يا مارون، وعافى »سلواك« وعافى قيثارتنا: وديع الصافي.

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا يحتاج العشق إلى اللغة، ولا يكون الحب أخرس، وإن تعددت وسائل التعبير عنه، من الإشارة إلى الإيماءة إلى الصمت الأفصح من الشعر.
حبيبي ثرثار بصمته، وأنا المترجم بامتياز! وأنا أجدد عمري بترجمة »الآه«.

Exit mobile version