طلال سلمان

هوامش

لقاء مع الصداقات والصحافة العربية في عاصمة الإنكليز!

سافرت الى لندن، الاسبوع الماضي، تطاردني الوصايا: لا تنس معطفك، لا تهمل تغطية رأسك، لا تخدعنك الشمس، اذا ما لمحتها، فالبرد الانكليزي يفري العظام، لا تتحدث بعواطفك فالبريطانيون عقلانيون وعمليون ولا مجال للعواطف في سياساتهم. دع »تطرفك« هنا، ولا تتحمس كثيراً فتتحدث باسم »العرب«، »العرب« بعد احتلال العراق و»جرف« فلسطين صاروا أثرا بعد عين، ولن يقبلوا منك في لندن ما بات غير مقبول في بيروت او في القاهرة او في الجزائر او في الكويت ناهيك عن قطر العظمى!
المفاجأة الاولى في الاستقبال ان الشمس كانت في كبد السماء تنشر الدفء والنور في العاصمة التي طالما اشتهرت بضبابها… ولعله كان يتصل بسياستها اكثر من اتصاله بدخان المصانع الضخمة التي كانت الى ما قبل المرأة الحديدية مارغريت تاتشر في ضواحيها، ثم جرى نقلها الى البعيد او تحديثها بحيث حلت الالكترونيات والكومبيوتر محل الفحم الحجري الناشر للغيم الاسود.
اما المفاجأة الكبرى التي تجلت لي عبر اللقاءات التي اتيح لي ان اشارك فيها فهي ان لندن باتت كما باريس من قبل »عاصمة عربية« يحتل فيها اللبنانيون موقعاً ممتازاً، اذ ثمة اكثر من عشرين ألف لبناني هناك، على حد تقدير »عمدة لندن العربي« الزميل سليم نصار.
ولعل تمركز عدد من الصحف العربية الناجحة في هذه العاصمة الهائلة الامتداد، والغالية التكاليف، يعزز من جرعة »العروبة« فيها، اذ تبدأ نهارك بأخبار »البلاد« المفرحة جداً مكتوبة بحبر قرشي صرف، وان خالطته قحطانية يمانية مؤكدة.
وهكذا تسنى لي ان اعرف القليل من كثير عن السياسة في هذه الدولة العريقة التي طالما اشتهرت مواقفها »بالالتباس الخلاق«، خصوصاً وقد اتسع وقت العديد من السفراء العرب المعتمدين لديها للقاءات حميمة وصريحة تحركت فيها المواجع التي مصدرها عواصمنا واهل السلطة فيها الذين ضاع الكثير منهم وضيعونا.
امتع الجلسات واغناها كانت في دارة السفير اللبناني جهاد مرتضى، حيث احتشد احد عشر سفيراً عربياً ومثلهم من الزملاء في »الحياة« و»الشرق الأوسط« وتفرعاتهما ومجلة »الحوادث«، وبعض وجوه الجاليات اللبنانية والسورية والفلسطينية والمصرية وحتى لا ننسى الدكتور اشرف مروان.
والسفير جهاد مرتضى صديق قديم، اذ التقينا للمرة الاولى قبل عشرين عاماً في واشنطن، ثم واكبنا صحافيا العمل الممتاز الذي اداه ورفاقه السفراء المجلون في الوفد اللبناني لمفاوضة العدو الاسرائيلي، والذي كان يرأسه »الحاذق« سهيل شماس، و»المنطقي« محمود حمود، و»المرجعي« سمير مبارك، وكان مرتضى »ذاكرته« والمؤتمن على اسراره العلنية التي كثيرا ما اخرجت وفد العدو عن طوره.
وشهادتي في جهاد مرتضى »مجروحة« لانه »بعلبكي«، مع انها تظل دون ما يقوله فيه زملاؤه من السفراء العرب وجمهرة الصحافيين ورجال الاعمال الذين يرجعون إليه في شؤونهم العامة واسرارهم الشخصية على حد سواء.
ولقد سعدت بأن التقيت بعد فراق طويل المناضل القديم عبد المحسن قطان، وهو جامع الاحبة و»مقيل عثرات الكرام«، من غير اعلان… وكنا، وما زلنا نلتقي على صداقة كبير فقدته الثقافة العربية، وليس الصحافة فحسب، هو المفكر والكاتب احمد بهاء الدين. وسنظل نذكر لابي هاني انه عمل جاهداً لتخليد ذكر هذا »الكبير« الذي خسرناه ونحن في امس الحاجة إليه.
رفرفت روح الصداقة والزمالة والعشرة الطيبة في دارة »السفير السيد« الذي بات اسمه »ممنوعاً« لان »الجهاد« من مكونات »الإرهاب« بل من مرتكزاته: جورج سمعان الشهير »بأبي علي« المتحدر بدوياً من صور، وحازم صاغية »ميرابو الهزيمة« والكاتب القادر على ابداع كتاب كل يوم وابداع الف خلاف »فكري« في الساعة، وغسان شربل الذي يستحضره صمته العميق وتأمله وجوه الناس ليختار من بينهم من يستحق ان ينتزع من ذاكرته صفحات من تاريخنا السياسي الراهن، وعبد الرحمن الراشد الذي ارتقى من مرتبة رئيس تحرير الى رتبة »كاتب« في الشرق الاوسط، ومحمد العوام الذي اعيد فاستعادته رئاسة التحرير في »الشرق الاوسط«، وشيخ مشايخ عرب لندن عرفان نظام الدين الذي يفتح مضافته حيثما حل حرصا على سمعة العشيرة في القامشلي الحسكة وما بينهما، والراوية الرحالة »العارفة« كما يقول الاعراب، جهاد الخازن، و»حافظ« مجلة »الحوادث« في لندن، ابن مرجعيون البار الذي اصابته لوثة الشعر فنظم من ابياته الكثير ولكنه ظل بلا بيت »محفوظ«… على ان »العمادة« تظل لناظم علاقات الود ومزيل الالتباسات ومانع الاشتباكات وجامع الاضداد سليم نصار.
في ما بعد، وفي زيارة الى كاتب »الحياة« الانيقة في »الورد« احياء لندن، حيث لا اثر لحزب العمال او لمن قال قوله بل هو من بابه وحتى محرابه للمحافظين الذين تجمعهم صلة نسب سياسية بالامراء، اكتشفت ان جورج سمعان بات خبيراً في تقنيات التلفزيون ايضا والربط بين المرئي والمكتوب، عبر تجربة العمل المشترك مع »ال. بي. سي«… وهو يقلب »موجاته« مرة بين الصباح والظهر، واخرى بين آذان المغرب وآذان العشاء حتى يطمئن الى كل التفاصيل فيركب الطائرة عائداً الى البيت عبر الرياض وبعض انحاء الخليج فيبلغه قبل صلاة الفجر!
اما في زيارتي الى مكاتب »الشرق الاوسط« في الجهة المقابلة من لندن المحافظين، فقد تسنى لي ان التقي محرراً كان مبتدئاً عند صدور »السفير«، وقد ابلغني انه تسبب في اقامة اول دعوى ضد »السفير«، وبعدما ضمن كسبها قانونيا هاجر الى البرازيل فأمضى ربع قرن ثم عاد الى الصحافة… فتصور كم كان نجاحه في التجارة!
وفي »الشرق الاوسط« كما في »الحياة« التقيت الحزبين الصحافيين من خريجي »النهار« وخريجي »السفير«… وداعب غروري قول الزميل العوام ان هؤلاء من انجح الكادرات المهنية العربية، وان كان قد »اسقط« الغرور واقع ان الذين استقروا في الخارج من بين هؤلاء الزملاء هم اضعاف اضعاف من بقي في بيروت!
ولقد التقيت في »الشرق الاوسط« ايضا زميلة كانت ناشئة في بيروت، ثم اختفت لتظهر زوجة في المغرب، ثم لتستقر كاتبة ومشاركة في برنامج ثقافي تبثه البي بي سي في لندن، اما في اوقات فراغها فتنتج الرواية، واسمها هاديا سعيد.
كما التقيت زميلا قديما كان من اوائل الذين اهتموا صحافيا بالنفط وعائداته وتوظيفاتها فوجدته ما زال »قرعونيا« هو سليمان الفرزلي.
اما من رجال الاعمال اللبنانيين فلقد التقيت الشيخ سليم خير الدين وجورج الزاخم ومحمد صباغ.
كما التقيت بعد طول افتراق الصديق الدكتور رمزي دلول، وهو احد رموز النجاح في مجال الاعمال عبر القارات، وهو شقيق »الريس« فخري دلول، الذي ما زال صوته يلعلع مذكرا بمطعم فيصل وحلقات المداولة قبل اصدار الحكم المفوض بنطقه دائما وبأسلوبه الفريد الذي يختلط فيه الذكاء بالدهاء بالتورية الظريفة، منح الصلح، »بيك« الجلسات وصاحب القلم الذي لا ينضب لغزارة ما يعرف عن البلدان والناس والسياسات، وهو نادراً ما يقول كل ما يعرف ولكنه يعرف دائماً كيف يقول.
* * *
في سهرة اخرى في دارة السفير السوري في لندن موفق نصار، الذي عرف لندن من قبل كقائم بالاعمال وعاش أياماً عصيبة بعد »طائرة الهنداوي« الشهيرة، تسنى لي ان اعرف اكثر الدكتور فواز الاخرس، الذي يعامله السوريون (واللبنانيون) هناك وكأنه عميدهم، والذي يعرف بريطانيا بقدر ما يعرف سوريا… ولانه »حمصي« فهو يقابل النكتة بنكتتين، اولاهما قبل التحليل السياسي والثانية بعده.
والسفير موفق نصار دبلوماسي محترف كنت قد عرفته عن كثب وهو مدير لمكتب وزير الخارجية في دمشق، فلفتني هدوءه حتى وهو يشرح »اقوى« المواقف، ودقته المعززة بدماثة هي بعض طبعه.
على ان ما يشغل البال فعلاً ان السفراء العرب على صداقتهم في ما بينهم انما يعبرون عن سياسات مختلفة تصل الى حد التناقض احياناً… فما يهم الكويت من العراق وفيه، مثلاً، مختلف تماما عن رؤية سوريا للاحتلال الاميركي ومخاطره على وحدة ارض الرافدين وعلى عروبة كيانها السياسي. واقطار الخليج التي تبدو من الخارج موحدة الموقف ليست كذلك عند مناقشة مستقبل المنطقة. فالعرب لم يعودوا يشكلون »وحدة« بل هم »امم شتى«… وبين كل عربي والآخر اميركي يشكل عازلاً، فاذا كان لا بد من تقارب بين العربيين فعلى قاعدة اميركية.
* * *
على الضفة الاخرى تقبع مكاتب »القدس العربي« و»يربض« منشئها ورئيس تحريرها عبد الباري عطوان الذي ابلغني بفرح طفل انه يطبع الآن، اضافة الى لندن، في نيويورك، وفي فرنكفورت بالمانيا ومنها ينتشر الى سائر اتحاد اوروبا… في حين يكمل هو الدائرة بالانتشار، تلفزيونيا، من مربط خيله في »الجزيرة« الى قنوات عربية متعددة والى محطات ناطقة بالانكليزية حتى لو كان الكلام ملتهب العروبة وحراقاً بفلسطينيته. وكثيرة هي القاب »التشهير« بعبد الباري، بينها »المزايد« وبينها »المتطرف« وبينها »الملاكم« او »ملتهم المحاورين«، وان كان »المدرب« جورج سمعان قد جعله ينضبط ذات مرة في دبي ضمن قواعد اللعبة فلا يقضي على الدكتور احمد الربعي.
ومع عبد الباري اكتشفت زميلة جديدة هي سناء الزوجة الزميلة للرجل المربع عبد الوهاب بدرخان…
وفي مكاتب »القدس العربي« الضيقة على المتبرعين »اكتشفت« امجد ناصر وسط غابة من الكتب واللوحات والذكريات الفلسطينية.
زميل عزيز عز عليّ لقاؤه بسبب من ضعف صحته هو عادل مالك،
وزميل آخر صمت »ينبت« فجأة حيث لا تتوقع، وقد لقيته مراراً ما بين صنعاء وبيروت واقطار الخليج، هو خير الله خير الله، الذي يقدم نفسه بوصفه »عاطلاً عن العمل«، بينما آثاره تتحدث عنه في عواصم عدة، اشهرها لندن.
* * *
يبقى ان اشير الى انني ذهبت الى اثني عشر لقاء »رسميا« خلال اربعة ايام، كانت تحتاج مني اسبوعين على الاقل، وربما شهرا في اي بلد عربي. فوقتنا مهدور ومشاع، اما الوقت عندهم فانتاج يدر نفوذاً ومالاً وحياة في العصر.
ولقد سهلت عليّ الأمر كثيراً تلك السيدة الدقيقة والاصولية في عملها، العربية الاصل الانكليزية الزواج والتي تعمل لحساب وزارة الخارجية والكومنولث واسمها بالولادة هيلدا خوري، واسمها »الرسمي« مدام بريسيد… ولعلني لم اخيب حسن ظنها في عروبتي فضلاً عن لبنانيتي.
* * *
هي نظرة، مجرد نظرة، من هنا الى هناك… عبر الهموم العربية الكثيفة التي تكاد تسد علينا الأفق… فكيف يمكننا ان نرى ما لا نحب ان نعترف بأنه واقع بائس مهما اجتهدنا في تلوينه؟!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس ان ترغب في الحب ثم تقبع داخل شرنقتك في انتظار من يشقها للوصول اليك… فاذا ما اقدم اتهمته بأنه افسد عليك صورة الحبيب. الحب ان تخرج الى الشمس. الحب الناس. كن في الناس يجدك حبيبك الذي تبحث عنه او تسبق فتجده انت.

Exit mobile version