بين مؤرخي الرعية ومؤرخي السلطان
قبل أسبوع، وفي قاعة ضيقة المساحة، ملتوية الهندسة، فقيرة الأثاث، غنية الحضور بأبناء الجامعة الوطنية التي تعاني اليتم، احتشد جمهور من الخطباء لتكريم »شاعر التاريخ الاسلامي« الدكتور ابراهيم بيضون وكتابه الجديد عن الإمام علي بن أبي طالب.
فأما الكتاب الذي حظي بجائزة دولية، وأما موضوعه الذي عنده انقسم التاريخ، فصار وجهات نظر لأطراف متورطين في حرب أهلية مفتوحة، فيقعان خارج نطاق هذه »الهوامش« اذ هما »المتن«، بدءاً وانتهاءً.
هذه كلمة عن »شخصية« الكاتب الذي دخل التاريخ من باب الشعر ثم لم يخرج منهما.
* * *
مفرح ان تحتفي بالجهد المتميز، وأن تحيي صاحبه وهو أمامك يراك ويسمعك ويسجل عليك السهو والغلط وزلات اللسان في النحو والصرف والإملاء فضلا عن البيان!.
فلقد تعودنا ان يسبقنا الموت الى من يستحق تكريمنا، وأن نلحق به نادبين ونادمين على التقصير.. فإذا ما تعجلنا التكريم لحقنا بصاحبنا وإحدى قدميه في القبر، نأتي به محمولاً، ونضع الى جانبه من يدله على المحتفين به، ومن يسمعه ما يقال فيه، ثم من يقرأ بالنيابة عنه كلمات الشكر على التأبين.. المبكر!
مفرح ان ينظم التاريخ شاعر، وأن يقرأ وقائعه »عاملي« تشكل أرضه الحد الفاصل بين الصحيح والمزور، وبين الحقيقة المضيعة عمدا عبر التوازن المفقود بين الحق المهمل والمنسي لضعف أهله وبين القوة التي تفرض منطقها تاريخا مقلوبا لأرض هي منبت التاريخ وأهلها فيها إطاره وسياقه، منها ينبع وإليها ينتهي مهما شدته فحرفته عواصم القرار البعيدة.
والدم المقاوم هو السياق، يرسم بالقاني الحد الفاصل بين أهل التاريخ وأرضه وبين الآتين من خارجه وخارجها ليصطنعوا من الاسطورة دولة تلغي كل من وما عداها، فيكون للارض اسم غير اسمها وللبشر ملامح الأغراب، لا الشمس طهرتهم ولا منحهم ترابها المبارك سمرة البشرة التي ميزت النبيين والصديقين كما مساكين الارض من أمثالنا مجتمعين!
كيف بنت جبيل ستسمي فلسطين اسرائيل، وهي ان أنكرتها أنكرت ذاتها وأهلها وكل اولئك الشهداء الذين عبروا إليها أفواجا إثر أفواج لكي تبقى لها هويتها واسمها ومسجدها الاقصى الذي باركنا من حوله، وناصرتها التي منها جاء عيسى بن مريم بكلمة الله؟!
كيف يكون خارج التاريخ هذا الذي يسكن فيه، باسمه وأسماء آبائه وأجداده وأسماء الدروب والجبال والبطاح والقلاع والشجر والأنهار والنجوم الهادية… وقد استكمله فصولاً بأسماء ذريته فإذا البيت مؤلفه الاكمل والاجمل!
* * *
مفرح ان ينظم التاريخ شاعر، يعيش بالفرح الانساني النبيل، يعشق الارض بناسها، لا يفصلها عنهم ولا يفصلهم عنها. فليس التاريخ مركبة فضائية تدور في سديم الفراغ بل هو حصيلة الصراع على الارض وعلى السلطة، اي على حكم الناس في أرضهم.
ومفرح ان يكون الشاعر ذا رؤية سياسية، وأن يقرأ سيرة السابقين بعقله قبل عاطفته، وأن يقرأ المجريات بفكر مفتوح لا بعصبية مغلفة، وأن يقرأ الوقائع السياسية بمنهج تحليلي يعيد إليها قوامها المفتقد نتيجة الانغلاق بالتعصب او الكسل في البحث والتنقيب او التعنت في الاستنتاج بما يلائم الهوى او الغرض او تجنب مخاطر الاجتهاد حتى لا تكون فتنة.. فإذا النتيجة التأسيس لفتن تتوالد باستمرار حتى تفرض نفسها سياقا بديلا للتاريخ المستمر والذي يصنع الغد من رحم الماضي وليس من خارجه.
وكثير من المؤرخين كتبوا او أعادوا كتابة تاريخ الحكام ونسوا او تناسوا المحكومين، وأغفلوا او تجاهلوا الواقع الاجتماعي الاقتصادي، فاغتالوا الناس من غير ان يصلوا الى الحقائق التي تفسر الاحداث وتعطيها مدلولها الفعلي.
وإبراهيم بيضون انتدب نفسه لمهمة صعبة: ان يقرأ ثم يقارب تاريخ المحكومين، انتفاضاتهم، تحركاتهم الشعبية، ثورات غضبهم بجذورها الفكرية كما بظواهرها الاجتماعية ومعطياتها الاقتصادية.
فمن كان الشاعر عنده أهم من السلطان، والارض تعطي الحقيقة قداستها، لا بد ان تكون قراءته للتاريخ مختلفة جدا. ذلك ان التاريخ ليس تراكما عشوائيا للحوادث والاحداث وسياقا منتظما لإنجازات السلاطين.
وعلى امتداد ثلاثين سنة او يزيد، عكف ابراهيم بيضون على اعادة نظم التاريخ برهافة الشاعر التي ثبت انها لا تتناقض مع دقة العالم، وإن كان لها من قوة التأثير والقدرة على كشف الحقائق المختفية وراء السلوك ما يكفل فضح التعصب والعصبية والوتر الشخصي او النقص في دقة النقل والاقتباس.
وفي كثير من الكتب التي ألفها واقتبسها او ترجمها بعض المحكومين بموقف مسبق، خلاصته احتقار العاديين من الناس، البشر الطبيعيين، اي كل الناس، وتقديس الحكام وتصنيمهم واعتبارهم أساس الكون وسر الوجود، يتبدى وكأن اولئك الحكام اقتتلوا واصطرعوا وتحالفوا وقاتلوا فانتصروا او هزموا في صحراء خالية من البشر، او ان اولئك البشر كانوا خُشُبا مسندة، مجرد عساكر او رعية لا رأي لهم ولا دور، بل ولا فكر عندهم ولا تطلعات، لا يشغلهم همّ اليوم ولا القلق على الغد، لا يعترضون ولا يتذمرون بل يحمدون ويشكرون او يكفرون بالنعمة فيعدمون ويعلقون على المشانق ولا قضية لهم او نصير.
مُسخت المعارضات ووجوه الاعتراض والطموح المشروع الى التغيير والى الافضل وتم التشهير بالكثير من المناضلين والدعاة والمبشرين بالغد الافضل والساعين الى تأمين حياة كريمة للناس في دولة تقوى بمواطنيها الأعزاء لا بجيوشها الجرارة، وتقوم على أكتافهم وأفكارهم ومطامحهم وأقلامهم لا على المرتزقة والانكشارتو والجنود المستقدمين من الخارج والذين بعدما اعتمدوا حماة للنظام في وجه شعبه انقلبوا على النظام وجعلوا الخلفاء عبيد أهوائهم وأغراضهم وشطبوا العروبة باسم الإسلام ثم أقاموا سلطتهم خارج الإسلام فدالت دولهم تاركين الأمة غارقة في دياجير التخلف والطقوس اللاغية للدين ونقص الولاء للأرض لأن السلطان عدو الوطن.
* * *
آسف لهذا الاستطراد السياسي، لكن ابراهيم بيضون مؤرخ صاحب موقف، وهو عبر مؤلفاته وكتاباته التي ملأت ثلاثين عاما من عمره او يزيد، عزز موقفه بإعادة قراءة الوقائع بعين الناس، مسقطا عنها الظل الأسود للسلطان الاسود فجاءت مؤلفاته شهادة تنصف الناس الذين قتلوا مرة بأيدي السلاطين ومرة أخرى بأيدي بعض مؤرخي السلاطين.
منذ ثلاثين سنة او يزيد… يعني نصف عمره، هذا الشاب الذي أغواه الشعر فحفظ المعلقات وقلد المتنبي وبصم أبا نواس ثم تفرغ لحماية آثار موسى الزين شرارة والمليون شاعر عاملي الذين غنوا الأمة وهم يسمرون في دردارة الخيام.
لكأن هذا الذي يتنزه بين رياحين الشعر في فترة الاستراحة ما بين كتابين قد ولد والقلم في يده، حتى استطاع ان ينجز 15 مؤلفا وحوالى ثلاثين بحثا ودراسة ومساهمة في كتاب، في وقت فراغه من التعلم ومن التعليم ومن العمل لإنجاح مشروع شقيق روحه الدكتور كامل مهنا في مؤسسة »عامل«، ومن تأمين النصاب في المجلس الثقافي للبناني الجنوبي، ومن المساهمة في المؤتمرات والندوات… بغير ان ينقطع عن سهرات السمر وعن تمارينه لإضافة حركات جديدة الى الدبكة الخيامية!
العيد المخنوق
غاب العيد عن احتفالات الكويت بالذكرى العاشرة ل»تحريرها«.
لا يعرف الفرح البدوي اللغة الانكليزية.
تزاحم الأغراب على العيد فخنقوه، ورطنوا فلم تصل الكلمات الى الاهالي المسدلة فوق آذانهم كوفياتهم البيضاء، ولم يستطيعوا تمييز الفروق بين »الغزو« و»الحرب« لإخراج »الغازي« التي لا تبدو لها نهاية محددة، فضلاً عن انها ضيعت معاني الكلمات الكبيرة مثل »الاستقلال« و»العزة« و»الثروة الوطنية« فضلاً عن »العروبة« و»القومية« و»فلسطين« و»اسرائيل« و»الامبريالية« و»الاستعمار«.
لن تكون الكويت بعض ولاية البصرة، ولكنها لن تكون أبدا بعض هذه او تلك من الولايات الاميركية.
وكلما أنّت أم عراقية وجعاً على سقوط وليدها ميتاً من الجوع او نقص الدواء، سيتكثف حزن الأم الكويتية على فقيدها الجديد، وخوفها على مستقبل أبنائها الآخرين على الضفتين.
لن يجيء العيد إلا إذا خرجت الكويت من الحرب، وخرج منها هؤلاء الأجانب الذين جاء بهم خطأ »الشقيق« الذي بيّنت الايام أنه حليفهم الدائم والاصيل، وأنهم »يحبونه« اكثر بما لا يقاس من حبهم للكويتيين.
»العيد«، على الضفتين، ينتظر »التحرير« الذي لم يتحدد له موعد بعد.
عناصر الحكاية
لم تكن مناسبة اللقاء لتسمح بأكثر من تبادل المجاملات مع نظرات التفحص التي يمليها الفضول والميل الغريزي الى إثبات الحضور بإلغاء الآخرين.
في لحظات الضجر، وهي كثيرة وطويلة، كان فضولهما يتدرج نحو الرغبة في تعارف اكثر تفصيلاً قد يمهد لصلة تفتح باب المعرفة.
قالت وهي تتقدمه نحو الشرفة: أحب المدينة في الليل. انها تنطوي على ناسها تاركة مصابيحها علامات على الطريق نحو السر في المساحات المعتمة.
أفلتت منه كلمات استغراب: وهل النوم مساحة معتمة للسر؟!
قالت وفي كلماتها رنة غنج: لو أطلنا وقوفنا هنا، خارج دائرة الهذر المدوي، على شرفة صمت المدينة، لتوهم من في الداخل اننا ننسج حكاية لنا جديدة…
ابتسم وهو يتمتم: حكاية جديدة، بهذه البساطة.
فرفعت ضحكتها مدوية: رجل وامرأة وضوء شحيح مع شيء من الموسيقى ونشوة الشراب… أليست هذه عناصر كافية للحكاية؟
قال متفلسفا: تبقى الحكاية..
انفلتت عائدة الى الداخل وفي نظراتها شيء من الغضب، وحين تجاوزته قالت بصوت يسمعه: من انشغل بحكايات غيره نسي أن يكمل حياته!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
كلما استمعت الى مزيد من أغاني الحب التلفزيوني افتقدت الحب والأحبة. لا »يؤلف« أحد حباً لغيره، الحب كما عرفته في حبيبي أعمق وأبهى وأدفأ وأبسط وأصدق.. ومن لا تكتسب قصيدته اتساع مدى الهمسة فلن يسمعها عاشق ولن يرتعش لها قلب محب.