طلال سلمان

هوامش

»الجمعية التأسيسية« للجمهورية الجزائرية »تصوِّت« لشراء كسوة للرئيس…
لا يمكن ان تكون »في صحنك« إذا ما حوصرت بين »فخامة الرئيس« و»صاحب السمو الملكي« وسائر أصحاب الدولة والمعالي والسعادة… إلخ. الألقاب المذهبة تحاصر الأفكار وتضيّق الخناق على الكلمات: تخطف منها البراءة وتكتم أنفاسها بغلالة من حرير.
بالمقابل، فليس من الشجاعة، فضلاً عن اللياقة، ان ترفض دعوة من »مؤسسة الفكر العربي« المعقودة اللواء للأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز لتقديم رئيس جمهورية الجزائر الديموقراطية الشعبية، في ختام أعمال مؤتمرها الثاني الذي انعقد في بيروت، الأسبوع الماضي، تحت عنوان »استشراف المستقبل العربي«… فكل هذه العناوين ومعانيها (الاصلية) تعنيك وتهمك، بشرط ان تظل متنبهاً لموقعك »الخارجي« فلا يغلب الشكل على المضمون…
… ولأنك قد عرفت الجزائر، لحظة انبثاق »الدولة« من رحم »الثورة« على الاستعمار الاستيطاني، فقد كان لديك الكثير لتقوله… وهذا بعض منه:
»انه لشرف عظيم ان تجيء إلينا الجزائر في بيروت، بشخص رئيسها، برغم انها لم تغادرنا أبداً، لا في زمن الجهاد بالسلاح، ولا في زمن الجهاد من أجل الإنجاز، ولا في زمن مجاهدة الفتنة التي نتمنى ان تكون الآن إلى انتهاء.
ما زالت البيوت في بيروت، بما هي لبنان مكثفاً، وكذلك الشوارع التي نذرت نفسها لقضايا النضال العربي، عابقة بذكريات الزمن الجميل… والصبايا اللواتي صرن أمهات وجدات لا يتعبن من رواية الحكاية للأحفاد باعتزاز: كيف جمعن القلائد والعقود والأساور وخواتم الزواج وأرسلنها لتكون مَدَداً ورباطاً مع المجاهدين على قمم الأوراس وعند سفوحها المضرجة بدماء الشهداء.
وليسمح لي السيد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وهذه النخبة العربية المتلاقية في بيروت التي طالما كانت المنتدى الثقافي والشارع الوطني والمطبعة والكتاب والصحيفة لأهلها العرب، بأن أستعيد معهم ولهم بعض ذكريات البدايات في جزائر الاستقلال.
لقد أسعدني حظي بأن كنت واحداً من قلة قليلة من الصحافيين العرب الذين شهدوا الفجر البهيّ لقيام جمهورية الجزائر المستقلة: الانتخابات الأولى وقيام الجمعية التأسيسية، أو البرلمان، التي منها انبثقت أول حكومة وطنية للجزائر المنتصرة بالثورة.
كان المشهد خارقاً للمألوف، مثيراً لمزيح من مشاعر الفخر والإكبار والحزن عند أبواب ذلك المبنى ذي الأعمدة، في قلب العاصمة، الجزائر، الذي اتُّخذ مقراً للبرلمان الجديد. جاء السادة النواب مباشرة من الجبل حيث كانوا قد هزوا السلاح حتى النصر… كانت نسبة كبرى من هؤلاء النواب مشوّهة الجسد: بعضهم بلا أقدام تحملهم إرادتهم قبل عكازاتهم، وبعضهم مقطَّعة أيديهم من الكتف لكن إيمانهم أعظم صلابة من الفولاذ، وكثير منهم فقدوا نور عيونهم في المواجهات مع جند المستعمر، لكنهم ظلوا يرون هدفهم المقدس ببصيرتهم التي لا تخطئ.
كانوا قافلة من المجاهدين الأبطال يتقدمون لتلقف ثمرة انتصارهم بغير مباهاة أو مفاخرة أو شكليات بروتوكولية، فكلهم في الثورة ومنها ولها، وها هي جزائرهم قد عادت إليهم بدماء مليون من إخوتهم وأخواتهم والآباء والأمهات.
انتخب النواب رئيسهم، وباشروا مهمتهم الثانية بانتخاب أحمد بن بله رئيساً للحكومة (قبل ان يُنتخب في ما بعد رئيساً للجمهورية).
كان المشهد تاريخياً بكل تفاصيله… وكنا نحن الضيوف المبهورين بتحول التمني إلى حقيقة، في غاية الانفعال، نتابع ولادة مرحلة جديدة زاهية ومبشرة بتحقيق الأحلام والأماني في التحرر والوحدة وبناء الغد العربي الأفضل.
بعد ان تمت عملية الانتخاب وقف واحد من الثوار الذين صاروا نواباً وهدر بعاميته الجزائرية قائلاً: »ماتواخذونيش خويا، أنا ما نهدرش العربية، ولكن عندي طلب واحد نريد عرضه عليكم… طلبي ان نصرف للسي أحمد بن بله ثمن كسوتين… والله أنا نعرف السي أحمد ونعرف انه مثلكم كلكم لا يملك إلا كسوة واحدة، والآن ولّى رئيس، وراح يتلقى وزرا وسفرا ويمكن رؤسا ولازم يكون عنده كسوة جديدة«.
وصوّت الرجال الذين وصلوا بالثورة إلى المجلس النيابي على قرار بصرف ثمن بدلتين لرئيس دولة الجزائر لحظة اعلان استقلالها.
ثم كان لا بد من العودة إلى الحاضر، حيث تبدو مثل هذه »الصورة« وكأنها في منزلة بين منزلتي »الحلم« أو حديث الخرافة:
»إن العرب اليوم، والجزائر بين عناوينهم المضيئة، يفتقدون دورهم ومكانتهم في العالم.
إنهم في أزمة مع أنفسهم، كمواطنين محرومين من حقوقهم في بلادهم، ومع أنظمتهم التي لا تمكّنهم من ممارسة إنسانيتهم، والتي قد يُستخدم تعسف بعضها وطغيانه في تبرير الاحتلال الأجنبي، كما فعلت الإدارة الأميركية مع العراق.
كذلك، فإن تنصّل هذه الأنظمة بمجموعها من واجبها القومي يُستخدم لتمكين الاحتلال الإسرائيلي بقيادة أعتى رموزه العنصرية السفاح أرييل شارون من تدمير حقوق الشعب الفلسطيني في وطنه، ولو بحدها الأدنى.
مع الجزائر، وعبر سيادتكم، لا تجوز إلا الصراحة.
ووجودكم معنا فرصة لا تُعوَّض لطرح الموضوعات التي يتحرّج الناس عادة من طرحها في وجود مسؤولين كبار.
إن العرب، كما تعرفون باليقين، يواجهون أزمة مصير تتهددهم في وجودهم كأمة وشعوب ودول.
لقد تهاوت عروبتهم حين اتخذها العسكر غطاء يموه الدبابة بالشعار العقائدي وهم يتقدمون بها للسيطرة على الحكم.
كذلك، تم تشويه الشعار الإسلامي حين استخدمه المتطرفون سلاحاً لإرهاب الأهل بذريعة مكافحة الردّة تمهيداً لمواجهة الكفار، فإذا هم لا يفعلون غير تهشيم مجتمعاتهم وإنهاكها بالحروب الأهلية مما سهل على دار الكفر ان تظهر بثياب الضحية، وبرر لها ان تجتاح مجتمعاتنا بذريعة الدفاع عن النفس، بل عن الحضارة والإنسانية جميعاً.
وهكذا، بات العرب مشوَّهي الهوية القومية إلى حد النفور منها، متحرّجين في إسلامهم يحاولون متعجّلين ان يُبرئوه من شبهة التعصب القاتل بتخلفه فيكادون يتبرأون منه…
كذلك، فإن تجربتكم في الحكم، من قبل، ثم في المعارضة، وأخيراً في سدة الرئاسة، لا بد غنية بالدروس التي من حق الأمة ان تَفيد منها وهي تسعى بحثاً عن اليقين في مواجهة مصاعب حاضرها التي تكاد تدفعها في ظل العجز الرسمي الشامل إلى اليأس من غدها.
السيد الرئيس: لك المنبر.

حكاية الشاعر الذي خرج من الماضي لينسى المستقبل!

قرأت زمني على صفحة وجه الصديق الذي غاب عني »ثلاثين دهراً« أو يزيد. لم يتبق من ملامح ذلك القلم الوسيم، أحمد الحريري، إلا المرارة وآثار أقدام الخيبات والمواجع التي تتفجر شعراً رقيقاً على حدود الدمع.
كان يا ما كان… كان الحب بحراً أخضر بلا ضفاف، تأتيه الشمس لكي تسرّح بخيوطها شعر الحبيبة وتضفره جدائل، والسرير عرائش من الياسمين، والليل قصيدة يصدح بها صوت عبد الوهاب البياتي، بين وصلتين من »خائف أقول اللي في قلبي« و»أنا في انتظارك«، وفي الاستراحة تلعلع الضحكات التي ينتزعها من الصدور محمود السعدني بقفشاته وحكاياته التي لا تحدث لأحد غيره، والتي تتحول فيها الغرفة إلى مسرح تتوالى على خشبته مشاهد أولئك الكبار بألقابهم وقد عرّاهم لسان »الفتى الشقي« وألقاهم في مواجهة حقيقتهم المزرية.
كان يا ما كان… كان في الدنيا عرب يتقدمون نحو مستقبل موعود، بشيء من التعثر، ولكنهم يتحركون إلى الأمام.
وحين التقينا مجدداً كان أحمد الحريري يضمّد جرحاً في يده: لقد حاول أن يغازل القطة فغنى لها بصوته الخشن أغنية لعلها من نَظمه، طالما أحبها الليبيون، تقول إن »الورد يتندى في كفها«.
كان البحر يسمع، وكان الليل شاهداً، وكانت القطة »معتقَلة« في الشرفة، وكنت أقرأ الزمن على صلعة رأس أحمد، وكان يقرأ السنوات في جراحي، لكننا كنا بعدُ قادرين على ارتكاب فعل الفرح، برغم كل الشقاء الذي يظلل دنيانا من خلف حدود ليبيا التي جاء منها إلى ما بعد حدود لبنان الذي جاء إليه لينسى المستقبل!

جاهدة وهبي تغني للغد…

لكم هي عنيدة، جاهدة وهبي: إنها لا تريد أن تغادر »عصر الانحطاط« بذريعة التمسك بأصالة اللحن والأداء، لأن الغناء إنما يتوجه إلى الإحساس والوجدان وإلى ذائقة اللغة، صورةً ومعنىً، ثقافةً ووعياً وموقفاً من الحياة وفي الحياة.
لكأنها تفهم الفن بمعناه العميق: إنه بين مكوّنات الوعي بالذات بقدر ما هو إبداع وتذوّق للجمال وما رقّ من المشاعر في النفس الإنسانية.
ولأنها عنيدة فهي لا تبتذل نفسها ولا تبتذل فنها… ثم إنها تحاول تعويض النقص في الملحنين المبدعين بأن تجتهد في التلحين من داخل المدرسة التي آمنت بها والتي تسعى دائماً لأن تؤكد انتماءها إليها، والتي يتولى »التدريس« فيها محمد عثمان وسلامة حجازي وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وزكريا أحمد وأم كلثوم ومعها السنباطي وأسمهان وفريد الأطرش وكمال الطويل ومحمد عبد المطلب ونور الهدى… إلخ.
»لن تصدقوا ما حدث لي في بلجيكا، وهو تكرار لما حدث لي من قبلُ في إيطاليا. كان الجمهور بمعظمه أجنبياً، حتى إن العرب كانوا يُعَدون على أصابع اليد. مع هذا فقد عبّروا عن نشوتهم بالتصفيق، تكراراً، وبكلمات التهنئة، وباقات الورد. الفن الأصيل يصل إلى أي متذوق، حتى من لا يفهم الكلام يصله اللحن فيشده ويحمله إلى الطرب«.
الصوت النهر يزداد طلاوة وصفاء، وهو يغني للغد لا للأمس.
لا تتعب جاهدة وهبي من الغناء. يمكنها أن تغني ليلة كاملة ثم تسألك في نهايتها: والآن ماذا تريد أن تسمع…
وجاهدة تختزن في داخلها الطفلة المشاغبة التي كانتها في الصغر، وقد تُطلقها في لحظات النشوة لتعبث مع سامعيها… ثم إن عندها القدرة على اكتشاف المتذوّق من المجامل، قدرتها على اكتشاف الأجمل من الكلمات والألحان التي تعطي صوتها مداه… الحيوي.
بعض من يغني يرفع جمهوره معه إلى ذرى النشوة: بالشعر واللحن ومن ثم الأداء، هذا الثالوث المقدس الذي من دونه لا طرب ولا غناء.
بين مزايا جاهدة وهبي أنها لا تعترف بالصعوبة.
كلما واجهتها مشكلة، في الجمهور أو مع شركات الإنتاج، اندفعت تثقّف نفسها أكثر وتدرّب صوتها على إجادة تصل حدود عباقرة الغناء الذين أخلوا دنيانا وارتحلوا وتركونا لصبيان شركات الإنتاج التي يملكها أصحاب الملايين وليس أصحاب الذوق أو المسكونين بهمّ الفن الأصيل الذي يزيد من ارتباط الناس بأرضهم بأن يؤكد انتماءهم إليها، بينما فن الروتانيات يحاول تنسيب الغناء إلى العصر بأن يُخرجه من صدورنا، وهي تتمة منطقية لمحاولة إخراجنا من أرضنا، أو قبول الأجنبي فيها بوصفه معلمنا ومدربنا على الديموقراطية والتذوّق والتعبير عن الرأي!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
هل رأيت ما رأيت.. كان العجوزان يتهاديان ببطء وقد استند كل منهما إلى الآخر. كانت خطواتهما قصيرة، ولم يكونا يتبادلان الكثير من الكلام. لكن العيون كانت تلتمع بفرح غامر. جلسا في مقعديهما في الحديقة. جاءت حمامة فوقفت أمامهما. أخرج الرجل من جيبه بعض اللوز والسكر ورماه وهو يسألها: أين حبيبك؟! نظرت الحمامة إلى الأعلى بغير قلق، وبعد هنيهة جاء الذكر، فحام حول العجوزين قبل أن يتقدم إلى شريكته ليتناول معها وجبة العصر. هدل فهدلت، فابتسم العجوزان وقاما منصرفين بخطى راقصة.

Exit mobile version