طلال سلمان

هوامش

بيروت الثقافة تعطي ثمارها في الخريف

»خريف بيروت« جاء هذا العام مثقلاً بثمار الثقافة، فاحتشدت فيها على مدى اسبوعين كوكبة من المبدعين، كتاباً وشعراء وروائيين ومسرحيين وسينمائيين وأصحاب دور نشر، وتوالى على المنبر جمهرة من المحاضرين والمشاركين في ندوات تجاوزت »اليومي« و»الراهن« إلى طرح هموم المستقبل سواء على المستوى الفكري او على المستوى السياسي المباشر.
تزامنت فتكاملت ثلاثة احداث ثقافية مهمة:
اولها عيد القراءة السنوي الذي ينظمه بنجاح النادي الثقافي العربي، »حارس الزمن الجميل« الذي يواصل القيام برسالته برغم تعاظم المصاعب واشتداد الحصار والضيق الاقتصادي.
وثانيهما معرض الكتاب الفرنسي الذي تتزايد مشاركة الكتاب اللبنانيين فيه منتجين لا قرّاء فقط.
أما الثالث فهو معرض »اشكال الوان« الذي تقوم بإنتاجه »النحلة« كريستين طعمة متخطية مصاعب التأشيرات والامزجة وتناقص »الرعاة« مقابل تزايد الكلفة… وهي في كل عام تضيف إليه جديداً باهراً سواء في اشخاص المبدعين او في موضوعات إنتاجهم. وعندها قدرة خارقة على »اكتشاف« بعض الذين أبعدتهم عاديات الايام عن ارضهم ولكنها لم تقتلعهم منها ولا هي اقتلعتها من صدورهم ونبض القلوب.
ولقد وفقت كريستين طمعة في تقديم شاعر كبير هو ادونيس وكاتب متميز هو حازم صاغية في صورة من »خارج الاطار« المعروف لكليهما، فجاء كل منها محاضراً، وقد اختار لوقوفه امام »جمهوره« البيروتي موضوعاً جديداً بل ويمكن وصفه بأنه »مباغت« ومن خارج السياق الذي ألف الناس ان يقرأوا (او يسمعوا) له فيه.

.. أدونيس: القرمطي مدعياً عاماً

فأما ادونيس فقد وقف في مسرح المدينة متخذاً صفة »المدعي العام« ليحاكم بيروت، المدينة العالم، التاريخ والجغرافيا، الهندسة والدين، السياسة والثقافة، الميليشيات والتجارة.
ولعل كثيرين قد رأوا ادونيس يقف في ماضي هذه المدينة الاميرة، وتحديداً في الستينيات، ليحاسبها من موقع المحايد البارد وكأنه »خبير أجنبي« على الحرب التي دمرتها في جملة ما دمرت في نفوس اهلها كل اهلها في الداخل والخارج من قيم ومثل وتقاليد وأعراف فضلاً عن طرز البناء، بما جعل أحياءها كانتونات مغلقة على الطوائف والمذاهب المتنابذة، تعلو مآذن مساجدها وأبراج كنائسها على حطام دورها كمنارة ثقافية وتجربة انسانية كانت متميزة بحيويتها وانفتاحها وديمقراطيتها التي تسمح لجميع ألوان الطيف السياسي العربي، وحتى الدولي بالتعبير عن نفسها براحة وبلا قسر أو عنت.
لأمر ما بدا ادونيس كأنه يرثي نفسه عبر هذه الادانة القاسية لبيروت الحاضر التي وجد نفسه غريباً فيها، هو الذي كاد يكون مع زملائه من »الخوارج« او »القرامطة« بين ملامح هذه المدينة التي كانت دائماً أكبر من حاكمها بل وأكبر من »شعبها« باعتبارها عاصمة عربية شاملة ومدينة كونية مفتوحة على رياح الارض جميعاً.
كيف صار »القرمطي« غريباً في مدينة الطوائفيين الذين يشدهم التعصب إلى مربّعاتهم التي تقتل بيروت الواحدة برغم أمميتها، و»الكافرة« برغم تزايد عدد بيوت الدين فيها… وهل تبرر له »غربته« المستجدة ان يدين هذه المدينة الفريدة في بابها وأهلها الذين لم يرفضوا احداً بسبب من دينه او معتقده السياسي او انتمائه الحزبي او خروجه على الجماعة… وإن كانت رياح السموم التي خلفتها الحرب الاهلية أقامت سدوداً بين الإخوة، لا يمكن هدمها إلا بالسياسة، متى جاء زمن السياسة الملغاة الآن والممنوعة حتى إشعار آخر.
على ان المحاضرة الحدث التي هزت المدينة العالم أثارت عاصفة من النقاش اختلطت فيها عصبية »أهلها« بغضبة مقدري دور بيروت والحريصين على بقائها ملاذاً لأفكارهم وإبداعاتهم ومعتقداتهم بالناقدين والناقمين مفتقدي بيروتهم التي اندثرت او تكاد بينما كل دنياها العربية التي تريفت مدنها جميعاً، كما بيروت، في امسّ الحاجة إلى المدينة العالم!
لقد رمى ادونيس »قنبلة« لا حجراً في بحيرة الارجوان التي طالما أفقدتها سكينتها »القنابل« المدمرة فعلاً او الوهمية، والتي يمكن نسبتها بهذا القدر او ذاك إلى تضاءل تأثير الثقافة على السلوك العام »للجماهير« التي ثبت انها معنية أولاً وأساساً بأمنها وخبزها اكثر من اهتمامها بصورة المدينة او حتى بصورة الوطن التي أصابها التشوه لأسباب عديدة ابرزها ان الذين تصدوا لمهمة إنجازها كانوا عموماً اولئك الذين ارتكبوا جريمة تشويهها بل وتدميرها.
لكن بيروت ما زالت توفر لادونيس المنبر الذي يستطيع ان يقول من فوقه ما لا يقال.. في اي مكان آخر!

..وحازم صاغية محللاً للجمهور بالطرب

أما حازم صاغية فقد اختار لمحاضرته موضوعاً طريفاً في ظاهره عميقاً في الاستنتاجات التي انتهى إليها بغير ان تنتهي حيرته وبغير ان يحسم في المفاضلة.
لقد غطس حازم في مقارنة بين »عصري« عبد الحليم حافظ وعمرو دياب، شملت الذوق والسوسيولوجيا والتحولات الاجتماعية والمفارقات السياسية التي يعبر عنها اختلاف المناخ والأداء والمزاج بين هذين المطربين اللذين يختلفان في المضمون والشكل والنبرة وطبيعة الجمهور المنقسم الى »احزاب« قد تكون اكثر جدية في دلالاتها من الاحزاب السياسية. وعلى عكس ادونيس فإن حازم صاغية اكتفى بتشريح جثة الجمهور من دون ان يعطي شهادة بالوفاة وبالتالي من دون ان ينظم قصيدة في رثاء الطرب او متذوقيه عموماً. لقد حاول ان يضع سياقاً للمزاج العام وأن يستخلص منه قواعد سلوكية لجمهور ما زال يبحث عن قاعدة ثابتة من اليقين لمختلف شؤون حياته، السياسية والاقتصادية والامنية والاجتماعية وصولاً إلى المزاج. ويبقى ان اسقاط الموقف السياسي على الطرب يذهب بالطرب والموسيقى من دون ان يبلور موقفاً سياسياً.
ولم يفت حازم صاغية، بطبيعة الحال، ان يمر على المرحلة الناصرية »بالتحية« عبر مطربها المريض والحزين والمتوحد… فسقطت من استشهاداته بعض اجمل الاغاني التي كتبها صلاح جاهين ولحنها كمال الطويل والتي ادخلت »وسائل الانتاج« والحرص على الثروة الوطنية والمقاومة بالعمل والابداع، في الاغنية الشعبية، وربطت بينها وبين كرامة الوطن وكرامة انسانه.
بيروت ما تزال تنبض بالنقاش الحيوي، ولو تبدى كأنه خارج السياسة، وهي معطلة في مختلف أنحاء الوطن العربي.
بيروت ما تزال مشاغبة ومفتوحة الذراعين والقلب للمشاغبين سواء أكانوا قرامطة ام خوارج ام بين بين.

حليم فياض يعود من الجنوب شاعراً

قلة من بين »القادة الإداريين« من سجلوا تجربتهم في العمل العام، ووسط الأمواج المتصادمة للنافذين داخل الحكم وخارجه، ليفيد منها الناس… وفي ما عدا عددا محدودا من السفراء الذين أتاحت لهم الظروف فرصة »معرفة العالم«، فلم نقرأ الكثير من تجارب »القادة« السياسيين من رؤساء ووزراء ونواب مخلدين..
وتتساءل: لماذا يحجب هؤلاء الذين عرفوا بحكم مواقعهم معلومات قد تكون مهمة وقد تكون مفيدة، ثم أنهم عاشوا تجربة قد ينتفع بها غيرهم، ثم إنها تبقيهم في الذاكرة، وهو »مكان« أفضل بكثير من المقهى أو من النسيان في جب التقاعد.
حليم فياض واحد من هؤلاء القلة الذين عاشوا التجارب وعرفوا أسراراً وشهدوا وقائع مثيرة وحافلة، فكتب بعض جوانب تجربته الغنية كمحافظ للجنوب، عاش فيه أكثر مما عاش في مسقط رأسه، وأحب أهله فأحبوه، وواجه معهم الأيام الصعبة فأفاد من شجاعتهم في مقاومة الاجتياح الإسرائيلي وأضاف إليها شجاعته الشخصية في مواجهة المحتل.
في كتابه »الجنوب أحداث وذكريات« استعادة لوقائع مثيرة ولمواجهات عاصفة مع قادة في جيش العدو ومخابراته ومع بعض عملائه في »الشريط« أو في العاصمة بيروت وما بعدها، وإنذارات وُجهت إليه لترك صيدا إن هو رفض الانصياع للمحتل… وهو قد واجهها على طريقة التعامل »مع اللغم المزروع في طريقك: إذا أحجمت عن المرور بقيت في مكانك وبقي اللغم في مكانه وتعذر عليك إكمال المسيرة. لا جدوى من التأجيل ولا طائل من التهرب أو الإحجام«. إذاً، خذ قرارك فواجه قدرك… وقد كان!
واضح أن الجنوب قد أخذ حليم فياض إلى ما يشبه الشعر فكتب قصة حب للأرض وإنسانها، وتخطى الوظيفة إلى ما يشبه »خدمة العلم« عبر الالتزام بالناس… أهله. لقد ذهب إلى الجنوب »موظفاً« فعاد منه مقاوماً وراوية لحكاية الصمود الوطني الذي بات ديواناً جامعاً لفعل الإرادة في قهر المستحيل.

تهويمات

* يتناثر الصدى بعد انطفاء الصوت، لكن الأفق يتلوّن بملامحك التي تغدو الآن مشاعاً لمن يرى بقلبه، في حين يعتكر صفاء عينيك خلف حجاب الغياب.
* كلما هبط الليل تدليت من عتمته ذؤابة تبث سحباً من الشجن، حتى إذا أطل موكب البدر ببهائه السني اقتعدت صفحته حتى يمتنع على الناس تمييز الخيط الأسود من الخيط الأبيض.. فيغفلون عن الصيام!
* امرأة واحدة تكفي لتحويل قطيع من الرجال ذوي الألقاب إلى مهرجين.
في غيابها كان كل من هؤلاء ينفخ صدره ويروي كم دمرت فحولته من النساء فحوّلتهن إلى قطيع من الجواري في خدمة عشيقته الجديدة التي قررت أنه يختصر كل الرجال!
* كيف تتحول هذه الأنثى القادرة على إشعال حرب أهلية إلى ظل لهذا الهيكل المتبقي من رجل نضبت في جذعه مياه الحياة؟! الحب أعمى… أما الجسد فحاد البصر واليد والذراع، مع ذلك قد يقوى الحب على تطويع الجسد!

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا يعيش الحب في الذكريات. الحب ليس حكاية انتهت. انه سيرة حياة، به تبدأ ومعها يكون وتكون. أنا في حبيبي حتى لو ابتعد او قصر او افترض فيه غيري النسيان… أما حبيبي فهو في نور عيني يريني طريقي وفي الهواء الذي أتنفسه فأحيا له ويحيا لي.

Exit mobile version