دبي ومؤتمر الكلام: السلطة للإعلام والنقد للحكام
لا تكفّ »دبي« عن التوسع، صعودا بالأبراج نحو السماء، وتوغلا بالواحات المستولدة بالمال في قلب صحراء الصمت الأبدي، واقتحاما للبحر بالجزر المستنبتة قريبا من شاطئ الخليج الذي كان إلى زمن قريب مستنقعات للخز والأوبئة متعددة المنابت.
في كل زيارة جديدة تفاجئك إضافات جديدة في هذه المدينة المعولمة منذ ولادتها، سواء في مجال الاستثمار والأسواق المالية، أم في مجال التوسع العمراني المعبر عن طموحات معلنة لاستقطاب الرساميل والشركات الكبرى، ومعها الخبرات والكفاءات المتميزة، أو في المجال الإعلامي حيث لم يعد خافيا على أحد ذلك الإصرار الذهبي على جعل دبي »عاصمة الصحافة العربية«، بل عاصمة الإعلام العربي، مكتوبا ومرئيا ومسموعا، أو حتى على شبكات الانترنت، حتى لو كانت الهوية الحقيقية لهذا الإعلام أو لتلك الصحافة موضع نقاش.
إنه عصر دبي، مع الاعتذار من القاهرة ومن بيروت… فالأمر لمن يعطي أو يدفع، بحسب لغة المقامرين، حماك الله منهم!
ولقد أمضينا، كما في كل سنة، ثلاثة أيام في دبي، للمشاركة في الاحتفال المُرجَأ بسبب الحرب الأميركية لاحتلال العراق، لتقديم الجوائز للفائزين بجائزة الصحافة العربية عن العام 2002.
… وهي الجائزة التي كانت تقررت بمبادرة طيبة من ولي عهد دبي وزير دفاع الإمارات الشاعر الفارس العقل الاستثماري الرقم واحد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وقد رأينا فيها، زملائي في مجلس الجائزة بقيادة اتحاد الصحافيين العرب، وأنا، مناسبة ربما نستطيع تحويلها إلى شهادة بالجدارة للصحافة العربية عبر العاملين فيها، لا سيما جيل الشباب، وحافزا لبذل مزيد من الجهد في خدمة القارئ العربي بتقريبه من الحقيقة وإليها.
على أننا هذا العام تحديدا، وفي هذا الاحتفال التكريمي، قبعنا لثلاثة أيام في مقاعد المتفرجين نستمع إلى مسلسل من الانتقادات الحادة التي قاربت الإهانة، الموجَّهة إلى »الإعلام العربي« عموما لنقص الموضوعية في معالجاته، ولنقص الحرية في بنيته الأصلية، ولعمى الألوان الذي يعاني منه فلا يميز!
ذلك أن من قرر الجائزة قرر كذلك تحويل مناسبة الإعلان عن الفائزين إلى »منتدى إعلامي عالمي«، يُدعى إليه كل عام حشد من البحاثة والدارسين والصحافيين بغير تمييز أو تفريق على أساس من »الجنسية« أو »الخط« أو الانتماء إلى موقف سياسي.
هي سوق عكاظ بلكنة أميركية، في الغالب، يغيب عنها الشعر ويكثر فيها النقد، صعباً وهيناً وبين بين.
وليس في ذلك ضرر ولا ضرار، حتى لو دعي إلى المنتدى أو أُشرك فيه بعض المعروفين بعدائهم »للقضية«، أو للعرب بمجموعهم، أو بعض المشهورين بغرامهم المعلن لإسرائيل وكراهيتهم لفلسطين شعبا وأرضا وحلم دولة، وبالتعصب للامبريالية الجديدة: الأميركية.
ولأننا في مجلس جائزة الصحافة العربية غير مسؤولين عن المنتدى وغير معنيين به، بمعنى تحمّل المسؤولية عن اختيار الموضوعات أو المشاركين فيه أو ضيوف الشرف المستقدمين لإضفاء الأهمية على مناقشاته، فلقد كنا نحضر في مقاعد المستمعين بعض الندوات من قبيل الفضول، أو رغبة في تدقيق معلوماتنا عن بعض المشاركين، أو طمعا بالفرجة على أبطال المصارعة بالكلمات (بدلا من اللكمات) استكمالا لجولات سابقة في ما بينهم في الفضاء العربي المفتوح… للفضائح على أنواعها، فكرية وسياسية وشخصية!
الجديد هذه السنة كان فريدا في بابه، إذ وقف بعض من هم في موقع »الحكام« ليوجهوا نقدا عنيفا إلى »الإعلام«، آخذين عليه قعوده عن تنوير الجماهير، وعن طمس الحقائق، وعن تزوير الوقائع أحيانا!
كانت المفاجأة صاعقة: فمتى كان الحاكم يهتم بإظهار الحقيقة؟!
وهل انقلبت الآية فصار الحاكم مجرد معلّق أو ناقد وصار الصحافي مسؤولاً عن القرار السياسي وفشل أصحاب هذا القرار في اتخاذه أو في تعميمه لاعتماده منهجاً وخطة عمل؟!
وكان يمكن قبول هذا المنطق لو انه جاء على لسان صحافي كنوع من النقد الذاتي لنفسه ولزملائه، أو من حاكم منتخب في نظام ديموقراطي يشكل الاعلام واحدة من مؤسساته الكبرى المشاركة في صنع القرار السياسي…
أما ان يجيء من طرف صاحب سلطة، وبالتالي شريك في صنع القرار، وفي بلاد عربية يعتبر الحاكم فيها نفسه صاحب حق إلهي في كل الأمور التي تخص البلاد والعباد، فهذا كثير على الصحافة والصحافيين، بل إنه يكاد يكون دليلاً على اندثار الصحافة والصحافيين، كأصحاب رأي وأصحاب دور ما (ولو محدود) على صاحب القرار.
الحاكم ناقداً والمحكوم مسؤولاً؟! هذا كثير كثير!
ومتى أتيح للإعلام العربي والصحافة بالذات أن يكون صاحب رأي مسموع في قرارات السلطة، أي سلطة؟!
ومتى أُخذ بآراء اصحاب الرأي في أي قرار؟!
إن الصحافي، في نظر العديد من الحكام العرب، بل في نظر أكثريتهم الساحقة، هو في أحسن الحالات مصوّر، وفي أبأسها من مداحي السلطان، تنتصر مهمته على امتداح القرار، أي قرار وكل قرار، بمعزل عن مضمونه. هو شاهد ممنوع من ان يرى، فإذا رأى أو سمع فهو ممنوع من ان يحدث الناس بما رأى أو سمع، فإن أطال لسانه قُطع وان خبَّر بما رأى سُملت عيناه!
والسمل بالدينار اقسى من السمل بالنار وأفظع!
فأما المنتدى الذي حمل عنوان »الإعلام والحرب« فلقد كان أقرب الى التجريد، إذ تم تجهيل الحرب وضحيتها: لم يظهر الأميركي جيش احتلال جاء من اقصى الأرض ليغزو بلداً عربياً، ولم يُذكر العراق إلا عرضاً وفي مجال الإشارة إلى دور المراسلين الحربيين أو الذين صُيِّروا حربيين بالاضطرار، والذين كانوا شهود زور في الحالتين، فهم مع جيش الاحتلال الأميركي كانوا »أميركيين« بمدى الرؤية والمعلومات المتاحة، وهم في بغداد صدام حسين لم يروا من الحرب إلا مواقع سقوط الصواريخ وأكاذيب محمد سعيد الصحاف، الذي لا يجد غضاضة الآن من القول انه كان يعلن ما يقال له، وان الصحافيين كانوا ينقلون عنه… وناقل الكفر ليس بكافر!
***
ويبقى ان نطلق التمني الحبيس: نتمنى طبعاً ان يستمر تقديم جائزة الصحافة العربية، مع التقدير لمانحها الذي غاب هذا العام عن الاحتفال بها.
ولكننا، قبل ذلك، نتمنى ان تبقى صحافة عربية، تستحق ان يُطلق عليها في عصر ثورة المعلومات والاتصالات، تسمية »صحافة«، و»عربية« بينما بات القابض على عروبته كالقابض على الجمر!
ما أمتع القبض على الجمر!
ابتسامة لأخبار الاحتلال واغتيال الأوطان!
الوجه صبوح، وفي العينين نداء، والشفتان الغليظتان تنفرجان عن ابتسامة قصيرة تتيح لك تأمل »صفّي اللولو«، قبل أن يدهمك الصوت الرقيق بأخبار الكارثة الجديدة: في فلسطين، في العراق، في الجزائر، في السودان، في المغرب إلخ.
حدث الانفصال الكامل بين »الناقل« و»الخبر المنقول«. المذيع/ المذيعة مجرد لسان. مجرد قارئ. مجرد أداة وصل. عليه/عليها أن تكون موضوعية، محايدة، لا علاقة بين لسانها وقلبها، أو حتى بين لسانها وعقلها. القلب جلاب هموم، والعقل مصدر للمصائب.
ما الفرق بين المستعمر الإسرائيلي والفلسطيني صاحب الأرض في فلسطين؟ ما الفرق بين جندي الاحتلال الأميركي وبين المواطن العراقي صاحب البلاد في العراق؟
أليس الخلق كلهم عيال الله، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى؟
في البدء كانت فلسطين. وكان الاجتياح الإسرائيلي لأرضها وطرد شعبها منها بقوة السلاح والمجازر والتهجير. قالت العرب: هذا صراع وجود إلى يوم القيامة بين الأمة جميعا وهؤلاء الذين جاء بهم الاستعمار ليزرعهم شوكة في القلب وفاصلا بين المشرق والمغرب. فليتنحّ الفلسطينيون جانبا لكي تقوم جيوشنا بالواجب.
اليوم، بعد خمس وخمسين سنة، وأربعة حروب وبعض الاجتياحات العارضة وغارات التدمير والاغتيال البعيدة المدى التي طاولت المفاعل النووي في بغداد، وقيادات المقاومة الفلسطينية في تونس (بعد بيروت)، انسحب »العرب« دولة إثر دولة من فلسطين مستجيبين لنداء قيادتها: ليكن لنا قرارنا الوطني المستقل!
لم تتبدل طبيعة الصراع. تبدلت التعبيرات والتسميات:
في البدء كان لا بد من إسقاط الهوية العربية الجامعة. صارت التسمية الرسمية »أزمة الشرق الأوسط«. والشرق الأوسط منطقة جغرافية مفتوحة، لا هوية لها ولا تاريخ يأخذها القادر على حسم »أزمتها«.
كان السادات قد انفصل بمصر بعد معاهدة الصلح المنفرد في كامب ديفيد، فاصلا كذلك ما بين المشرق والمغرب، وقد كانت فلسطين حبة العقد.
بعد اتفاق أوسلو، انحصرت »المشكلة« بين إسرائيل من جهة وسوريا ولبنان من جهة أخرى: صارت خلافا عقاريا على »الحدود«.
ثم بعد انتصار المقاومة في لبنان بالتحرير، انحصرت المشكلة في »حرم« بحيرة طبريا، وهل لسوريا حق المشاطأة ام لا؟
اليوم تقلصت المسألة الى »اشكال« فني بين اسرائيل والفلسطينيين في الضفة الغربية من جهة، واسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة من جهة اخرى، وهل الارض المحتلة هنا او هناك تعود الى اصحاب الحق ام الى اصحاب السلاح؟
ربما لهذا كله لم يتأثر الوجه الصبوح، ولم يغب عن العينين النداء، ولم تتوارَ الابتسامة القصيرة التي تنفرج عنها الشفتان الغليظتان؟
مع الاجتياح الاميركي للعراق تزايدات الفضائيات العربية عدداً وتزايد بالتالي عدد المذيعات الحسناوات، والمذيعين ذوي الصوت الاجش، بل جرى تبادل الخطف بين المحطات بتواتر مع سقوط المدن العراقية… على ان ملامح السعادة والبهجة والانبهار بالاخبار المفرحة صارت هي الطاغية!
ساعة بعد ساعة، نشرة بعد نشرة، تتزايد الاصوات المبتهجة باخبار »الانتصارات«، وتتوالى المحاورات التي غالباً ما تبرر الاحتلال الجديد؛ موقف الشيعة يتمايز عن موقف السنة، وفي الحوزات خلاف، وبين السلفيين والاخوان المسلمين صراع، وجماعة العهد البائد يواجهون جماعة العهد الملكي المباد، والشيوعيون يقفون الى يسار »الحاكم المدني« الاميركي توكيداً لاستمرار الصراع ضد الامبريالية.
المسألة في العراق: مجرد خلاف على تقاسم المقاعد والنفوذ في مجلس الحكم المحلي بين الاديان والطوائف والمذاهب والقوميات والاثنيات والاعراق.
لماذا تضخيم الصراعات وتصوير المنطقة وكأنها على فوهة بركان؟
وهل ثمة بين الاخبار ما يستحق ان يغيِّب الابتسامة عن الوجه الصبوح، وان يغلق العينين على النداء فيكبته، وان يبلل بالدمع ذلك الصوت الرقيق مما يتسبب في حجب »صفّي اللولو« عن اهالي هذه الارض المضيّعة هويتها والفاقدة الامل في مستقبلها؟
افتحوا الباب للفرح…
اتكأت الأميرة التي في عينيها وسن على أريكة آلامها وهي تقول:
حين تجيئون إليّ يسحب الموت ظلاله من حولي. هو يعرف انكم مصدر قوة إضافية لي. يعرف ويخافكم. إن ضحكاتكم تبعده.. وأكثر من يرعبه الأطفال، انهم حين تتفجر قهقهاتهم الرخيمة يسدون عليه الأفق، ويُنبتون زهر الفرح بالحياة من حولي. يحوّلون بيتي إلى جنة. تعالوا إليّ أيها الذين على وجوههم صورة الله. تعالوا إليّ أيها الملائكة الذين كلماتهم غناء، وبكاؤهم موسيقى، ومداعباتهم وصفات للشفاء. تعالوا إليّ يا الذين من أسمائكم تتكون السعادة وتنهمر عليّ مطراً رخياً فتغسل أحزاني وتعيد تذكيري بقوتي التي أكاد أنساها تحت وطأة الخوف. الأطفال هم قاهرو الخوف والمرض والموت والحزن. دعوا الأطفال يأتوا إليّ. افتحوا الباب للفرح. افتحوا النوافذ للشمس، ولتملأْ ضحكاتهم جوانب الحياة…
قريباً سيأتي من يضيف إليكم فرحاً جديداً. رحبوا بالآتي باسم الله. رحبوا بفرح الحياة الذي يتجدد فيجددنا.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
كل منا يولد مرتين، الاولى لا يد له فيها، أما الولادة الثانية فهي لحظة انبثاق حبه، ربما لهذا يحس المحب انه بإرادته، يخلق عالمه الجديد.
لولا خوفي من تهمة التجديف لقلت إن الحب في منزلة »الخالق«. أليس الحب كلمة الله.