طلال سلمان

هوامش

العراق بين الظالم والأظلم!

قد يردد كثيرون، وهم يتأملون الصور المشوهة لعدي وقصي ونجله مصطفى والمرافق »صمد«: وما من ظالم إلا سيبلى بأظلم!
لكن شعب العراق قد بلي بالظالم المحلي والأظلم ممثلا بالاحتلال الأميركي معاً.
ولسوف تنشأ معادلات ذهنية وعملية عديدة عبر استخلاص الدروس مما وقع للعراق وفيه، منها على سبيل المثال لا الحصر:
إن الحاكم الفرد، الطاغية، الدكتاتور يرى نفسه أهم من وطنه وأقدس من شعبه. وهو مستعد لأن يبيد مجاميع لا تحصى من »رعاياه« إذا ما أظهروا اعتراضاً، ولا يتورع عن التضحية ببعض التراب الوطني إذا كانت المفاضلة بين شخصه وبين الوطن. إنه فوق الوطن وقبله وبعده.
إن مثل هذا الحاكم لا يعرف أن يحب إلا نفسه.. ومن هدد أمنه قتله بلا رحمة حتى لو كان من صلبه. لا يهمه أن يعم الفساد، وأن تخرب البلاد، وأن يتخلف شعبه ويفقد مكانته في العالم. إنه يختصر الوطن والشعب بشخصه، فإن كان بخير كان وطنه بخير وشعبه بخير والعكس غير صحيح.
مثل هذا الحاكم لا يقاتل دفاعاً عن الوطن. إنه يضع نفسه فوق وطنه… وما قيمة الوطن إن لم يكن هو فيه. الوطن هو كرسيه لا أكثر!
مثل هذا الحاكم السفاح مع شعبه لا يقاتل العدو. إنه يلبس عدة الحرب للمساومة مع العدو، فإذا قرر العدو الحرب وأفشل المساومة، أسقط في يده فبات شريداً طريداً يخاف أن يقتله ظله.
كان الناس على استعداد لأن يغفروا، ولو قليلاً، لو أن صدام حسين نفسه ونجليه عدي وقصي قاتلوا كما قاتل الحفيد ذو الأربعة عشر ربيعاً، مصطفى… لكنهم اختاروا أن يموتوا كمطاردين يلاحقهم »صيادو الجوائز« بدل أن يسقطوا دفاعاً عن بغداد والمجد الذي أعطتهم، فيغفر لهم الناس بعضاً من ارتكاباتهم. لكنهم، من أسف، ماتوا كورثة للطاغية لا كعراقيين يدافعون بدمائهم عن الأرض التي أعطتهم كل ما تمتعوا به من جبروت التسلط ورفاه الدكتاتورية.
… وبقي على شعب العراق أن يواجه بتراث المظلوم قسوة الأظلم: الاحتلال الأميركي!

… في الطريق إلى البيت!

ها انت، مرة اخرى، وفي زمن آخر، في بنت جبيل: امامك فلسطين، وعن يمينك فلسطين، وعن يسارك فلسطين… هي مدى الرؤية الذي لا تسده الاسلاك الشائكة، وهي مهجع الحلم الذي لا تقدر على احتلاله دبابات الميركافا، وإليها تنتهي الطرق جميعاً، حتى تلك المقطعة بسواتر نارية او بحقول ألغام يفجرها الظل او عبور فراشة!
»البيت اجمل من الطريق الى البيت«، لكنك ان ضاعت منك الطريق لن تصل الى البيت… والطريق رتل من الشهداء، يرتفعون بصورهم فوق العابرين نوراً على نور.
غداً إذا ما تكاملت المسيرة فاستعادت الطريق هدفها ستغدو للقرى والبلدات على الضفة الاخرى، الفلسطينية، اسماء اهلها الذين غابوا لتعود.
الطريق سريعة، مستقيمة على الشاطئ الواحد، من بيروت الى صيدا فصور ثم تنقصف في الناقورة، بينما عكا وحيفا ويافا في مدى النظر… تعود فتطل عليها من عل، وأنت تسلك الدروب التي لا تبتعد عن التخم الفلسطيني إلا لتعود فتتماهى معه برغم الشريط الشائك المغروز في قلبها كأثر جرح قديم لا يتعب من تذكيرك بالمتسبب به.
امتلأت الوهاد والهضاب والتلال المتعرجة صعوداً بيوتاً بشبابيك ملونة وعمارات قيد الإنجاز وقصورا بنتها الرغبة العارمة في التعويض عن سنوات الشقاء والتآخي مع الخطر في أدغال المغتربات لقهر الفقر والجهل والاهمال. أي خيار بائس فُرض على هؤلاء الذين ظل إيمانهم في صدورهم طيلة الغياب ثم أعادهم إيمانهم الى الأرض الفقيرة التي ضربها الطاعون الاسرائيلي دهراً، فاستعادوها واستعادتهم وما بدلوا تبديلاً!
أما الساحات فلا تترك السيارات الفارهة المتراكمة على جنباتها ملاعب للصبية أو مدى لإبراز المعروضات المهجنة التي تطفح بها الدكاكين.
الرجال كثيرون، والملتحون بينهم قلة، والنساء كثيرات والمناديل البيضاء علامات لتجاوز عهد الصبا وللتدين المقيم منذ اجيال، وثمة محجبات، لكن الصبايا بالأزياء الحديثة لسن قليلات العدد… وعلى أعمدة الهاتف والكهرباء، وفوق بعض السطوح، تترادف الاعلام مشيرة الى مناطق النفوذ، وحين »تتعانق« يتبدى »القرار السياسي« نافذاً وحاجباً للصراع الذي ان انت دققت فيه اكتشفت له جذوراً في ما يسبق عصر المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي بالمقاومة، سواء من داخل السلطة او من قلب »التكليف الشرعي« الذي أعاد صياغة الشعار السياسي بما يتلاءم مع معطيات اللحظة الراهنة.

بنت جبيل: زيارة جديدة لحب قديم!

ها انت في بنت جبيل، اذن،تتقدم وجلاً كمن يسري الى حلمه، يشده الشوق الى الارض المعطرة بدم الشهادة ويأخذه التهيب من امتحان الجدارة بالمقام متحدثاً بين أهل الحديث.
تتقدم محمولاً على جناح الشعر في بيت أهله الذين ينجبون من الدواوين بقدر ما ينجبون الشعراء، ابناءً وأحفاداً، وأكثر، حتى لقد احتلوا الوجدان كله: عائلات تتعاظم ابداعاً جيلاً بعد جيل، فإذا بالابن الذي ليست يده قلماً غريب الدار.
تتقدم وقد أخذتك الرهبة من الدخول تحف بك انفاس هذه الكوكبة المميزة من علماء جبل عاملة الذين أنبتتهم هذه القلعة الحصينة، ففتحوا باب الدين أمام العقل فجعلوه يسراً في الايمان بالحقيقة، بالانسان، لا تعصباً يأخذ الى الهجانة بعيداً عن الناس والقضية والتاريخ الذي يعطي الناس ملامحهم وأسماء الاحفاد الذين سيكتبونه من جديد ولو بدمائهم.
… لكأن أبناء جبل عاملة هذا الذي يمتد بعروبته من فلسطين وعبر مصر الى المغرب الاقصى، ويمتد بعروبته من حوران السورية وعبر العراق والجزيرة الى ادناها في اليمن، قد ولدوا شهداء شعراء، وشهداء شعراء عاشوا فيه وارتحلوا منه إليه، وما تخلوا عن شبر من ترابه ولا بدلوا تبديلاً.
من زمان، كان قد أسعدك حظك فدخلت بنت جبيل من احد اوسع ابوابها، إذ وضعتك الاقدار على طريق موسى الزين شرارة، فجلست إليه تتعلم فن تحويل الألم الى أمل، وتغرف من بحر علمه بالسياسة والسياسيين ما يجعل الأمل ينقلب مرة اخرى الى ألم، بغير ان ينقص الايمان بالذات وبحتمية التغيير.
كان شاعراً شاباً في نحو الستين، وكنت قارئاً غراً في العشرين، ألقيت عليك على حين غرة مهمة تحرير مجلة »الأحد« لصاحبها المرحوم رياض طه… وكنت تتعشق »الشرارات« التي ينثرها على صفحات المجلة فتحرق الظلاّم والنهابين والاقطاعيين والمرتدين عن عروبتهم الى جاهلية السلطة. وكنت تنتظر إطلالاته بتلهف، حتى اذا جاء دخل عليك في مكتبك البسيط وبادرك من الباب: اسمع، هذه ستعجبك!
ولأن الشعر يستدعي الشعر، فكثيراً ما كان يروي بصوته الذي لا تغادره السخرية قصائد لغيره عارضها بأبيات تسري بين الناس كالتعويذة، او قصائد له عارضها غيره فنجحوا لكنه سيرد لهم الكيل كيلين.
مرة قال: هيا ستذهب معي الى بنت جبيل. لقد ارهقتك بالحديث عنها فصرت تحسبها باريس او نيويورك… لكنها اعظم!
وجئت بصحبة الشاعر فإذا انت فيها ضيف رئيس البلدية، جال بك في احيائها معرفاً بالعظماء الذين أنجبتهم. وكان يبادرك بين حين وآخر هذا بيت خصم خطير… لكنه، لعنه الله، شاعر كبير! وهذا يكنز مالاً كثيراً، لكنه لا يميز بين العصا والألف… أتظن ان الموهبة والثروة لا تلتقيان؟ وهذا بيت عالم جليل، لكن الشاي لا يروي الغليل حتى لو اعتبروه خمر المؤمنين!
في مجلة »الأحد« ايضاً، أسعدك حظك بالتعرف الى عبد اللطيف شرارة، الموسوعي الذي اعترف بأنه هرب من الشعر لصعوبته الى الفلسفة لسهولتها!
وعبر العمل الصحافي تسنى لك ان تعرف علي بزي، نائباً ووزيراً، وهذه بعض أقنعة الداهية السياسي فيه، والذي رحم الله الشعراء بأن جعله يكتفي من الشعر بمعرفة أوزان الرجال وتشطير احوال السياسة ونظم المواقف معلقات.
ثم كفاك عمك »محسن«، الذي خدم دركياً في بنت جبيل، وبعض جيرتها، فكان يأتيك بآخر ما أنتج شعراء آل بيضون، وبآخر الفتاوى الاقتحامية التي صدرت عن المراجع الذين كانوا يدانون شيوخهم في النجف، بل ويبزونهم، كما كان يقول تعصباً لكل ما يصدر في بنت جبيل وعنها.
وقبل ألف عام او يزيد تهاطل عليك نتاج الدكتور ابراهيم بيضون نثراً يصحح صورة الإسلام وتاريخ مسيرة المسلمين، وشعراً جاهلياً يكمل تراث امرئ القيس وعنترة العبسي وطرفة بن العبد، ثم شدك الدكتور احمد بيضون بثقافته الواسعة فزاد من معرفتك بالعربية وعاندته فلم ترافقه في رحلته الصعبة داخل الفرنسية، ولا أنت استطعت ان تجاريه في »موسوعيته« في العلم السياسي.
وعبر الرحلة الطويلة في عالم الصحافة زاملت عشرات من المتحدرين في بنت جبيل حتى حسبت ان مولودها يخرج من رحم أمه وقد أنجز فيه كتاباً…
وحين زرت الجالية العربية في ديربورن، في ولاية ميتشيغين الاميركية، عدت وحقيبتك مثقلة بدواوين شعر وكتب في المسألة القومية والصراع العربي الاسرائيلي وروايات مكتوبة بأقلام من نار لأدباء من بنت جبيل يحاولون ان يتقنوا الانكليزية ثم يتذكرون معاهدة سايكس بيكو او المساندة الاميركية للاحتلال الاسرائيلي لفلسطين فينفرون منها الى لغة قريش ينظمون بها هجومهم المضاد.
***
كل سبت تتعاظم »القرية« التي كانت شبه مهجورة، فتغدو، مرة اخرى، مدينة تضج جنباتها بالسلامات والمواعيد والدعوات الى شاي المغرب.
ومع غروب الأحد يعود اهل المدينة الى بيروت واجمين، وتودعهم بنت جبيل بصمت المحزون لافتقاد الاهل.
وتخلو السماء إلا لبدر يعيد ربط الارض بالارض والناس بالناس والجغرافيا بالتاريخ ليكون منها جميعاً الشعر الذي يستولده جبل عامل على مدار الزمن.
(مقتطع من كلمة ألقيت في بنت جبيل)

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
لا أستغرب عندما يقبل عليّ من لا أعرف من الناس فيسلمون عليّ بحرارة الصديق. إنهم يعرفونني من خلال حبيبي. لطالما سمعوه يتحدث عني حتى عرفوا »تفاصيلي« التي لا يعرفها غيره… أما صورتي فقد قبسوها من عينيه. من نظر في مرآتي عرف اسم حبيبي، وملامح الوجه الذي يعلّم العشق!

Exit mobile version