طلال سلمان

هوامش

دبي تطرح السؤال: هل »الدولة« مانع للتقدم؟!
بينما يصيب الشحوب العواصم العربية الكبرى والتي كانت مصدراً للتنوير السياسي والابداع الثقافي والفني، تتلاقى الإرادات مع الثروات مع الحس التجاري المرهف على استنبات »مراكز« اشعاع جديدة، وبالذات من منطقة الخليج العربي، تحتل دبي موقع الصدارة فيها، متقدمة على »عاصمتها« أبو ظبي، وعلى »ضرتها« التي تحاول أن تقيم مجدها على فضائية: قطر!
ما يعنينا هنا من »دبي« دورها المتعاظم في المجال الإعلامي.
إن هذه المدينة السوق التي تجدها صباحاً أكبر مما عرفتها مع المساء، تستعيض عن الارث التاريخي بالسبق إلى آفاق الغد، وتتخطى حواجز البلادة البيروقراطية وافتقاد الهدف بالحس التجاري المرهف فتتصدر موكب التقدم مقدمة نموذجاً ملتبساً للعولمة، لا هو عربي تماماً، ولا هو أجنبي خالص، ولكنه يحتفظ بالكوفية والعقال لباساً لرؤوس الرجال، وبالحجاب الأسود يلف أجساد الفتيات الحيويات الجالسات خلف الكومبيوتر والحاسوب بدءاً من أمن المطار وانتهاء بالمدينة الإعلامية بالكفاءة التي تعودنا ان نجدها فقط في الأجنبيات.
قد لا تحس أن دبي هي مدينتك تماماً، وأنت فيها، ولكنها لا تشعرك بالغربة. قد تبهرك بوتيرة الإنجاز المذهلة، بحراً وبراً وجواً، اقتصاداً وإعماراً، سياحة وتسويقاً، لكن الانبهار سرعان ما يخلي طريقه لأسئلة جدية ابرزها: هل »الدولة« بأثقالها المعروفة في الأقطار العريقة، هي مانع التقدم؟!
ذلك حديث يطول إذا ما أردنا التوغل في أسباب العجز والتخلف وبطء وتيرة الانجاز في »الدول« العربية التي تفتقد الآن الدور في السياسة كما في الاقتصاد، وفي احتلال المكانة اللائقة بكفاءات أهلها في مجالات التقدم العلمي وبالذات منها ما يتصل بالإعلام، فضائياً وأرضياً، مرئياً ومكتوباً، وهذا بيت القصيد بالنسبة لنا، في هذه العجالة.
جائزة للجنة الفاحصة!
ذهبنا إلى دبي في الموعد السنوي لإعلان النتائج وتقديم الجوائز للفائزين بجائزة الصحافة العربية، بفروعها المختلفة… وهو موعد بتنا نتطلع إليه بشوق كونه يوفر لجمهرة واسعة من الصحافيين، بل من الإعلاميين العرب، فرصة للتلاقي والتعارف وتبادل الرأي في حوار مفتوح، منطلقه هذه المهنة التي نتشرف بالانتماء إليها، والتي يحزننا ما نلمسه من تراجع في دورها الريادي.
ولقد نجح نادي دبي للصحافة، هذه السنة، في إغناء المناسبة بندوة ممتازة استقدم إليها كوكبة من الكتّاب والدارسين المعنيين بشؤون منطقتنا، فيهم »الخصم« و»المتفهم« و»الصديق«، وفيهم من فتحت »فلسطين« عقولهم بانتفاضتها المجيدة، وفيهم أيضاً من فتحت »المبادرة السعودية« شهيتهم للتشفي بهؤلاء العرب العاجزين الذين يتسولون حلولاً »سلمية« قد تغري عدوهم السفاح فيعفو عنهم ولو إلى حين.
كانت الندوة ناجحة بالمعنى السياسي والمهني، حتى وهي تكشف جوانب الضعف في منطقنا المتهافت بينما قضيتنا عادلة لو تيسر لها المحامي الكفؤ والذي يعرف لغة العصر، أي المصالح، ويستطيع الادعاء انه يمثل بلاده وليس مجرد صاحب رأي شجاع وقد تكلفه شجاعته »خصومة« مع دولته ممثلة بأصحاب المصالح فيها، حكاماً وشركاء (بلا رأسمال) للحكام النابهين!
خارج إطار الندوة، تيسر لنا أن نمضي ليلتين من الحوار الحيوي مع مجموعة من الزملاء النابهين المثقلين بالأسئلة عن مستقبل المهنة، وعن دور الصحافي العربي، في هذه المرحلة الدقيقة جداً والتي قد يقرر مصيرنا فيها »غيرنا« خلافاً لارادتنا ولمصالحنا… خصوصاً ان هذا »الغير« ينكشف يوماً بعد يوم أنه صديق عدونا، بل هو شريكه عملياً.
كان التلاقي فرصة لنا نحن الذين وضعنا في موقع »اللجنة الفاحصة« أعظم من نصيب الفائزين بالجوائز: لقد جاءت مع الحوار لحظة الحقيقة، فإذا نحن لا نعرف عن بعضنا البعض، عن ظروف مهنتنا في الأقطار العربية المختلفة، إلا معلومات أولية لا تفيد في توفير الأرض لعمل مشترك، ولو في إطار نقابي، فضلاً عن أنها أضيق من أن تتسع للأحلام المشتركة في تطوير دورنا في خدمة مجتمعاتنا العربية ذات الهموم الثقيلة والمتقاربة بحيث تكاد تكون واحدة.
وبغير قصد في الإساءة إلى أحد، يمكن القول إن نادي دبي للصحافة بدأ يوفر لنا، نحن أبناء المهنة، فرصة ممتازة، ويملأ فراغاً هائلاً لا تهتم لأمره المؤسسات المهنية العريقة…
فالنقابات، بأكثريتها مع الأسف، باتت أثراً من الماضي، لا علاقة لها بالحاضر فكيف بالمستقبل. الوجوه فيها مألوفة ومعروفة كتماثيل رجال التاريخ المخلدين، وتقاليد العمل فيها روتينية موروثة… وهي وإن اهتمت بتحقيق بعض المكاسب المادية للمنتسبين إليها فإنها لا تهتم كثيراً لأسباب تطورهم المهني، ولا تنفعهم كثيراً في تأطير دورهم أو تزخيم ادائهم بما ينفع مجتمعاتهم.
إن المؤتمرات التي تعقدها هذه النقابات منفردة أو داخل إطار اتحاد الصحافيين العرب هي »مناسبات اجتماعية« و»احتفالات« تغلب فيها الخطابة ومراعاة البروتوكول، بزيارات الرسميين ورجال الدولة »المضيفة«، بمعزل عن مواقف هؤلاء من قضايا أساسية كالحريات وبينها حرية الصحافة وحقوق الإنسان.
ولعل بين الأسباب أن العديد من هذه النقابات أقرب لأن تكون مؤسسات حكومية أو »شبه« حكومية منها إلى مؤسسات نقابية مهنية بالمعنى المألوف، وهذا يعكس واقع الصحافة العربية بمجملها إذ هي حتى إشعار آخر صحافة حكومات لا صحافة حرة… وهذا أخطر سبب لضعف الصحافة العربية عموماً، بل ولانعدام تأثيرها في مجتمعاتها، إذ تظل صحة السلطان تتقدم على المجزرة الإسرائيلية في مخيم جنين، وتظل الأولوية لخطاب صاحب العظمة على الحرب الأميركية على العراق.
حيث السلطان لا صحافة
ولقد اسعدني، شخصياً، أنني تعرفت إلى مجموعة من شباب الصحافة العربية في السعودية، على وجه الخصوص، وفي المغرب، فضلاً عن بعض صحافيي »المهجر« العربي الجديد، في بريطانيا. كانوا يضجون بأسئلة القلق حول دور الصحافة في مجتمعاتنا، وعن أسباب تبعثر العاملين فيها، وكانوا مثلنا فرحين بفرصة التلاقي يريدون أن يسمعوا منا وان نسمعهم، ويرفعون أصواتهم بما لا يكتبون!
على الهامش كانت تتبلور تدريجياً أسئلة جديدة من نوع: هل »تغيب« الصحافة في بلادنا، بدورها الذي تلعبه في بلاد الآخرين، لأن الدولة أو بالأحرى السلطان حاضرة بأكثر مما يجب، مما يحجب المجتمع ويطمس تفاعلاته، ويلغي دور صاحب الرأي أو الاجتهاد ويوحد »القطيع« حول الرأي الرسمي؟!
وعلى الهامش، كان علينا أن نعترف بأن هذا الواقع »الرسمي« يعكس نفسه على النتائج المعلنة لجائزة الصحافة العربية، فطالما أن أكثر الصحف حكومية أو »أميرية« كما كان يقال في الماضي، وربما يقال الآن أكثر فإن الصحافي الأنجح في الكشف عن وضع خاطئ أو معتل هو الأقرب إلى »المصدر« الرسمي الذي قد يكون صاحب غرض في الكشف عن »فضيحة« هنا او عن »تجاوز« هناك!
ومع اننا، في مجلس الجائزة، قد توافقنا على معايير اكثر قربا من الدور الذي نطمح اليه في مهنتنا، الا اننا عدنا من هذه المناقشات الصريحة مع »شبابنا« وقد ازددنا يقينا بأن الحرية هي موئل الصحافة ومنطلقها، فلا صحافة حيث لا حرية، ولا صحافة حيث لا حياة سياسية، ولا حياة سياسية حيث السلطان هو »السياسي« الوحيد، وهو من ينعم على شعبه بالحريات والحقوق، وبينها حرية الزواج او الطلاق وماذا يسمع من الموسيقى ويقرأ من الكتب ويرى على شاشة التلفزيون!
… والتغيير آت من حيث لم نتوقع ولا يتوقعون!

قيمة مضافة للجائزة: كامل زهيري!
اكتسبت »جائزة الصحافة العربية« مزيدا من القيمة حين قبلها الزميل الكبير كامل زهيري، احد الاساتذة الكبار لجيل وربما لجيلين من الصحافيين العرب، داخل مصر وخارجها.
لقد اجتمعت في هذا الكاتب المجيد مجموعة من المواصفات ندر ان اجتمعت في غيره: فهو بين ملوك المشافهة مثلما هو بين ملوك النصوص، وهو رسام بالكلمة بقدر ما هو نحات في المعنى، وفيه من المؤرخ بل من حس التأريخ مثل ما فيه من المستشرف او قارئ المستقبل… ثم انه رسام في كل الحالات!
وفي المهنة هو كاتب تحقيق ممتاز، وهو كاتب عمود طريف ولافت.
أما في الموقف السياسي فقد كان على الدوام »عربيا«، وكان متعاطفا مع الحالمين بالتغيير في العالم الثالث، شعوبا وقادة، يستوي في ذلك اهل هند غاندي ونهرو او الزنوج في حي هارلم بنيويورك وقد استكتبوه »مسحوق الهمس« فجاء قصيدة في وصف معاناتهم وطموحاتهم وصراعهم مع واقع قهرهم شبه الابدي.
وفي »الزمن الجميل« كان كامل زهيري »مرجعية عربية« في مصر، لا بد ان يلتقيه كل قادم من المشرق، او من المغرب، ليسمع منه وليحاوره فيفيد منه علما وظرفا، شعرا ونثرا، عن واقع الحال كما عن رجالات الامس العظام الذين تركوا بصماتهم على حياتنا الثقافية، بل والسياسية عموما، وعن الامكنة التي أنجبتهم أو أكسبتهم نكهتهم المميزة، »فالانسان ابن مكانه« ايضا.
وفي جلسة واحدة مع كامل زهيري، وحتى لو تقصدت البعد عن السياسة، فإن كوكبة من النجوم ستشاركك متعة صحبته: من الجاحظ الى الجبرتي، ومن طه حسين الى احسان عبد القدوس، ومن كبار المفكرين الفرنسيين بعد فكتور هوغو وقبل جان بول سارتر، ومن احمد بهاء الدين الى ابن خلدون، ومن طاغور الى كامل الشناوي، ومن منح الصلح الى عبد الحليم حافظ، ومن صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي الى فتحي غانم وصلاح جاهين وبهجت عثمان ومن ام كلثوم الى صلاح ابو سيف وسيد مكاوي الخ…
لقد أحس كل منا انه انما يكرم نفسه ويكرم جائزة الصحافة العربية حين اخترناها وسيلة للتعبير عن تقديرنا لكامل زهيري، هذا الذي اعطى المهنة عمره ثم لم يأخذ منها الا ما يؤخذ من الملوك عادة: مرض النقرس!
كان على كامل زهيري ان يقطع بضعة امتار، وأن يصعد بعض الدرجات لكي يصل الى المسرح، حيث كان ينتظره الشيخ محمد بن راشد المكتوم، منشئ الجائزة… ولقد ساعده التصفيق الحار فرفع من معنوياته حتى كاد يستغني عن العصا التي بات الآن يتوكأ عليها… بل انه تخلى عنها فعلا وهو يرى الجمهور الذي يضم نخبة من رجال الثقافة والعلم والمال، يقف له تحية واحتراما، فرفع يده يرد التحية، ولكن تأثره منعه من الكلام، وهو ابرز ملوك الكلام.
قال ونحن نفترق في المطار: تعال الى القاهرة، سآخذك في جولة الى كنوزها التي لم يعرفها احد. سأثبت لك تأثير المكان على المبدع، كاتبا او شاعرا او فنانا، ثم اني سأقرأ لك عبر الامكنة الماضي والحاضر والمستقبل.
وشاغب احد الاصدقاء: بل خذنا الى باريس، حيث درست وتخرجت من جامعاتها وعرفت فيها اسرار قادتها عبر الامكنة..
ورد كامل زهيري ببداهة: القاهرة اولا، القاهرة ثانيا، وبعد ذلك باريس. لن تفهم مصر إن لم تعرف القاهرة.. بعد ذلك اذهب حيث شئت!
ومضى بعيدا… وانا اتابع الصحافة العربية تتوكأ على عصا من ماضيها اكثر مما تمكن من ان تصنع دليلا الى المستقبل ينتفع به قارئها!

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
حين نحب نقرأ كل ما حولنا قراءة جديدة. بداية نكتشف الطبيعة، الورد والياسمين والحبق والقرنفل، ثم اننا نسمع صوت الليل، وتلفحنا انفاس القمر، فكيف لا ارى حبيبي جميلا! في لحظة احس ان المحبين هم الذين يعطون الدنيا ألوان الجمال فيها. حبيبي وحده يمكنه ان يجمّل ألف قارة وقارة، فكيف لا احب الحياة وهو مصدرها وسر بهائها؟!

Exit mobile version