طلال سلمان

هوامش

الربيع الفلسطيني يعيد الشارع إلى الحياة
في موعده المرتجى والمحسوب وصل موكب الربيع الفلسطيني مجلّلا بالاحمر القرمزي، يعتمر كوفية مرقطة ومن ثقوبها المتقاربة تطل عيون الشهداء كابتسامات الوداع.
نشر الربيع الفلسطيني أريجه على امتداد الوطن العربي الذي غُيّب عن وعيه منذ دهور، ووصل بعض من شميمه الى أقاصي الارض، غربا وغربا وغربا وبعض الشرق.
كانت الشوارع خالية الا من العسس وصور السلاطين والخوف، كما هي »حالتها« منذ ثلاثة عقود او يزيد. في الزوايا كان يمكن اكتشاف صور قديمة، باهتة وممزقة الاطراف، لشهداء زمن مضى وللشهود على قدرات الامة التي أحيلت الى التقاعد مع التهديد بحبسها في مأوى للعجزة ان هي جهرت باعتراضها او قاومت من نصّبوا أنفسهم في موقع أولي الأمر وطالبوها بالطاعة التزاما بالنص المقدس.
على غير توقع، انفجر الربيع الفلسطيني في الشارع الخالي، وترددت اصداء الدم الصارخ في البرّية في الجهات الاربع، فغادر النوم الجفون والاذهان والعقول، وجاءت الصحوة تطرد الاحلام والاوهام وتأخذ الناس الى الشارع لكي ينهوا مواته ومواتهم ويعبروه الى القيامة الجديدة.
الشارع؟! الشعب؟ الجمهور، الرأي العام؟ المعارضة؟ عادت هذه الكلمات المهجورة الى التداول وعاد الوعي الى صاحب الحق الشرعي بالقيادة والتوجيه، عدة الحرب، عدة النصر، وعدة القرار الصح في زمن الضياع.
* * *
امتلأ الشارع بالقضية. امتلأ الشارع بالحياة.
كان ابناؤنا يسمعون حديث ذكرياتنا عن التظاهرات والشعارات والمصادمات مع آلة القمع فيفترضون اننا نخرّف او نتحدث عن بلاد اخرى وزمان آخر، او اننا نروي حكايات النوم.
جيل تلاه جيل ولدا وعاشا خارج السياسة. لم يقطع فتى منهم الشارع الا متسكعا، في طريقه الى »موعد«، او إلى زي غريب في متجر مبهر اللافتات، الى مقهى يقتل فيه بعض الوقت حتى لا يقتله فراغ الوقت.
كبر الجيل الاول، وجاء الجيل الثاني والسلاطين ما زالوا يثقلون على صدور أوطانهم، يكتمون أنفاسها، يعطلون حركة تقدمها بشللهم وأمراضهم ومخاوفهم الكثيرة.
كان »الشارع« في رأس قائمة الممنوعات.
ومن باب التحوط ملأ السلطان الشارع بوعود الازدهار والاعمار ومخدر الاستقرار باعتباره أقصر الطرق الى السعادة والرفاه واستعادة الكرامة التي يضيّعها »الشغب« والضياع وراء سراب التحرير والشعارات الخلابة في عالم بات »النظام الجديد« يفرض على اهله الانضباط في أعمالهم وأفكارهم وأشعارهم وأحلامهم وعدم تحدي »السيد« الذي أقطع نفسه صلاحيات الآلهة جميعا في الثواب والعقاب: من أغضبه دمّره وحلت عليه لعناته الى يوم الدين، ومن استرضاه فأرضاه عفا عنه وقرّبه وأكرمه!
عاش جيلان خارج السياسة، خارج القراءة. خارج دائرة الفعل، حتى تحولت احلامهم الى كوابيس…
صار التفكير بالتغيير، ولو بتدخل مباشر من القدر، مصدر قلق حقيقي يداني حدود الرعب. قُصت أجنحة الخيال، فضلا عن القدرة على احداث التغيير. وصار الاستقرار ذروة الطموحات وغاية المنى، لان بديل الاستقرار هو الحرب الاهلية، اي تدمير الذات.
ألغيت دساتير، عدلت دساتير، طمست دساتير، داست الدبابات وخيالة النظام الدساتير والقوانين »لحماية المجتمع ووحدته« من اولئك المفسدين في الارض الذين يدفعون البلاد الى الاحتراق في نيران الحرب الاهلية. بات اي اختلاف مع الحاكم في الرأي(؟!) او في العمل تهديدا لوحدة البلاد وتصديعا لوحدة الشعب وتفجيرا للفتنة (النائمة؟) والعياذ بالله. صار اي ارتجاج للنظام (او حتى اي مرض يصيب السلطان) هو دفع بالوطن نحو بئر الحرب الاهلية البلا قعر والفوضى والدمار والفقر حتى الإملاق.
* * *
مع الربيع الفلسطيني وبفضله ها هي الجماهير تستعيد روحها فتنزل الى الشارع الذي افتقدها وقتله الفراغ فصار مصدرا للخوف بدل ان يكون منبعا للأمل.
ها هم الفتية الاغرار الذين كنا نأخذهم بعيدا عن السياسة، نرميهم بكل المغريات التي تعطل عقولهم لنحفظ الامان، يخترقون أسوار العزلة والامية السياسية والجهل بالذات و»بالقضية«، كما كنا نفترض، ويفاجئوننا بأنهم انما يختزنون شبابنا بطموحاته وأحلامه في صدورهم وفي عقولهم، وإنهم أسرع الى بلوغ سن النضج مما نتصور، لانهم يستفيدون مما لم يكن متاحا لنا من كنوز المعلومات والمعارف المتاحة لمن يريد ان يعرف.
ها هو »الجمهور« يستعيد وعيه، ويستعيد زخمه فيملأ الشارع حياة: يسقط الشعور الكثيف بالخيبة والاحباط، وينتشل نفسه من قلب الفراغ ويستعيد دوره في المحاسبة عما كان وعما هو كائن.
هي البداية فحسب، لكنها مصدر عظيم الأمل: ان يُسقط هذا الجيل كل الادعاءات والمزاعم والتهويل بشبح الحرب الاهلية، وأن يتحرر من الخوف الذي ملأنا به صدره، وأن يعرف اسرائيل كما لم نعرفها فيقاتل فيها الخطر على اهليته وطموحاته وحقه في حياة كريمة كما لم نقاتلها.
ان بيروت تستعيد شبابها.
ان القاهرة تستعيد وعيها بذاتها.
ان كل المدن العربية تعود تدريجيا الى دائرة الفعل.
ان هذه التظاهرة المفتوحة الممتدة بامتداد الربيع الفلسطيني المجلل بالاحمر القاني، هي مقدمة فقط لما بعدها… والآتي أعظم، هكذا تقول بيادر شقائق النعمان، التي تملأ بطاح فلسطين بالاسماء الحسنى للشهداء صنّاع الغد.
ها هي فلسطين تطارد اسرائيل التي كانت قد استرهنت الحكام فتوحدت بهم، تستعيد الشارع وتأخذ الناس اليه لتقهر الخوف والحرب الاهلية والعجز وسلاطين الاستسلام بوهم الاستقرار. أي استقرار وإسرائيل تحكمنا؟
الى الشارع، الى السياسة، الى الغد.
شاعر القمة!
هتف صاحبي الشاعر بفرح: أخيرا ها أنا في بيروت، أميرتك التي نعشقها جميعا.. كيف الوصول اليك؟!
واستغربت ان تكون ثمة مشكلة، لكنني أدركت الصعوبة حين أضاف يقول: أنا الآن عضو في وفد رسمي، وعلى ياقتي شارة مميزة تجعلني من أهل القمة، وحركتي مرصودة. الافضل ان تجيء أنت.
.. والتقينا متعانقين، وتبادلنا اسئلة الاطمئنان عن العائلة والبيت والعمل، ثم جفت الكلمات ونحن نقترب من موضوع القمة: ارتدى الصديق الشاعر القناع الرسمي، وخفت صوته، واكتست كلماته تلك البرودة التي تشعرك بالغربة.
قمت أودعه، وفضحت نبرتي صدمتي، فمشى معي خطوات نحو المصعد، ثم استأذنني للحظات عاد بعدها وهو يحمل معطفه، وقال: سأذهب معك، لو بقيت هنا سأتفجر غيظا وحنقا داخل قناعي الخانق هذا!
قبل ان يستقر بنا المقام في المقهى، اندفع يقول: لا تظلمني، أنا لم أتغير، لكنني مجبر على أداء دور لا يناسبني ولا اؤمن به ولكنني لا أستطيع رفضه او التخلي عنه. انني أزوّر نفسي ألف مرة في اليوم. لقد حولت لغتي الجميلة الى مرتزق. أحس وأنا أفرغ الكلمات من معناها لأدخلها في هذه الجمل الخشبية التي لا تعني شيئا انني إنما أغتال نفسي، أغتال أطفالي وأصدقائي، أغتالك… لكنه الخيار المر: أبقى في بلدي خادما للسلطان، او يتوجب علي ان أنفي نفسي وعائلتي الى صقيع الغربة. ولعلمك فأنا ممنوع من السفر، الا ضمن وفد رسمي. انني اؤجر لغتي. المفجع انني تورطت في اللعبة، فبت أنقذ »حرجهم« بخبراتي اللغوية، ابتدع لهم جملا توحي بعمل لن يتم، وتخادع قارئها فتأخذه بعيدا عن معناها الاصلي لتضفي صدقية مزوّرة على ما هو كاذب. انني شاعر الانحراف، وربما الخيانة. لكن مشكلتي انني لا أقبل امتهان اللغة، ولذا فانني أعيد صياغة ما هو مشبوه من المواقف بلغة متينة وجميلة فأنقذ النص تاركا انقاذ المضمون لغيري من الفرسان الصناديد امثالك!
ضحك وكأنه يبكي، ثم اعاد طرح سؤاله: كيف الوصول اليك.. أتراني وصلت!
وقمت لأعيده الى مدفنه في القمة.. التي لا قعر لها!
عندما ترقص الألقاب!
بدأت السهرة والالقاب المحتشدة على الطاولة تحاصر الألفة وتفرض لياقات ومجاملات تذهب بالمتعة، وتبقي النشوة محاصرة هؤلاء الذين جمعتهم المصادفة من خارجهم، اي من الآتين طلبا للنشوة والنسيان على الطاولات المجاورة.
في الساعة الاولى كانت الثرثرة بضجيجها الصاخب تطغى على الموسيقى والصوت الشجي الذي كان يحاول أخذ الساهرين بعيدا عن نهاراتهم المثقلة بالاخبار الرديئة وأشباح الازمات المهددة بالتهام المواسم والمدخرات وقوت الاطفال.
أما في الساعة الثانية فكانت النشوة قد احتلت طاولة الالقاب المفخمة، وأخلى الضجيج مكانه للهمس وحكايات اللحظات الحميمة… وتقاربت بعض الرؤوس، وأتاح شح الضوء مساحة أوسع للاعتراف او للتمني، ثم أكمل الشراب المهمة، وتولت الموسيقى الترجمة في حالات كثيرة.
فجأة، نفضت الوافدة الجديدة طوق الالقاب وسحبت جارها الى حلبة الرقص… قاوم قليلا، لكنها لم تتراجع، وقالت: اطمئن، سنضيع داخل تظاهرة الراقصين!
خشخش اللقب وصاحبه يتقدم به نحو حلبة الرقص، فلما اندسا داخل التظاهرة نسيه لفترة فلما ذكّره به وافد جديد فوجئ بنفسه ينتفض كأنما ليلقي عن كتفيه حملا ثقيلا… وبعد ذلك اندفع يرقص ويرقص حتى لم يترك ساهرة او مساهرة، على طاولة الالقاب او على الطاولات الاخرى الا ودعاها او قبل دعوتها وأبدع فنونا جديدة في مراقصتها.
عند باب الخروج، استعاد معطفه ولقبه وتجهمه وصفق الباب خلفه، وهو حانق على ان ساعات الليل أقصر مما يجب، وان النشوة قد غادرته وكأنها »ملك المحل«.
لفحه هواء الليل فأحس بالبرد ينخر عظامه، فتلفلف بوحدته جيدا ومضى نحو العتمة حتى اختفى تماما.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أجمل ما سمعته من أشعار حبيبي تشبيهه لي بالارض. لا أتخيل الحب منفصلا عن الارض. كلما اردت توصيف الحب لجأت الى طبيعة بلادي، الى وردها والياسمين والفل والبيلسان، الى جبالها التي ترتدي ثوبا جميلا جديدا مع اختلاف الساعة، وبحرها الذي يمنحها المدى ولا يهجرها، الى فراشاتها وطيورها المترنمة بأنغامها الشجية لإسعاد الناس… أرى وطني في وجه حبيبي، أليست السمرة هي اللون المبارك؟

Exit mobile version