طلال سلمان

هوامش

زيارة ثانية لجمهورية النورس والغراب.. عبر الوحدة
مع خيوط الشمس الأولى أقلعت بنا الطائرة اليمنية، متبعة خط الوحدة، من صنعاء، في الشمال، الى عدن عند مجمع البحور في الجنوب.
ارتفعنا فوق قمم الجبال التي »تحاصر« صنعاء و»نُقُم« أعلاها، وطرنا فوق تلك السهوب ومخلفات البراكين من الأرض المحروقة تطلع من السفح، بين الفينة والأخرى، كأنياب وحوش أسطورية عملاقة فرغت للتو من التهام آخر عرق أخضر ثم تطلعت الى فوق متوسلة قطرة ماء أو غيمة تلفها فتحجب قبحها عن العيون.
ستكون المرة الأولى التي نصل فيها عدن آتين من »العاصمة«، بعدما انحطمت »الحدود« واستعاد الشعب وحدته ودولته الواحدة. لقد سقط »خط الانفصال« الذي كان لسنوات »خط نار« تلتهم آمال اليمنيين على الجانبين.
كنت كالمخدَّر حين هبطت بنا الطائرة في المطار الفسيح الذي اتسع ذات يوم لأكبر قاعدة بريطانية في قلب واحد من أعظم المرافئ والخلجان اتساعا في العالم. هذه »المعلا«، وهذه »خور مكسر«، والى الأعلى »كريتر« منبت البطولات الأسطورية، و»الشيخ عثمان«. هذه هي السوق التي كانت ترتفع فيها اللافتات الحمراء بكتابة بيضاء تحيي مرة الذكرى المئة والخمسين لميلاد انغلز، أو ترحب مرة أخرى بالرفاق من كومسمول كييف وموسكو ولينينغراد، بينما تحتشد في الدكاكين صور جمال عبد الناصر وتصدح المسجلات وأجهزة الراديو بأغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد قنديل وكارم محمود وصباح فخري وفيروز ووديع الصافي، ويتزاحم أركان الدولة مع الجمهور على أبواب السينما الصغيرة حيث كانت الفرقة القومية للرقص الشعبي تقدم تحيتها لعيد الاستقلال.
الشوارع هي الشوارع، والمباني هي المباني مع إضافات تفصحها نظامتها كما هندستها المعاصرة. يأخذنا »قائدنا« الزميل علي الرعوي الى الفندق الذي بناه الرفاق البلغار قبل عشرين عاما، وتسلمته إدارته مع عودة الفرع الى الأصل شركة شيراتون الأميركية، بعدما توفر المستثمر »الحضرمي« الذي أقدم على تجديد المبنى وتوسيع مدى الحدائق والمسابح التي لا يفصلها عن البحر إلا شاطئ الرمال الذهبية الذي سماه الانكليز قديما »غولدن مور« وكانوا يستريحون فيه من وعثاء… الاستعمار!
***
في الزيارة الأولى لهذه المدينة التي كانت عاصمة »لجمهورية اليمن الديموقراطية«، أواخر الستينات، جئناها مسبوقين بأخبار نضالها ضد المحتل البريطاني، فرحين باستقلالها الذي جاء في جانب منه وكأنه رد غير مباشر، في أقصى الأرض العربية، على هزيمة 1967 في قلب الأمة: فلسطين ومعها مصر وسوريا الشام.
في الزيارات التالية بدأنا نستشعر جوا من الغربة: لم تعد لغتنا واحدة مع الذين وصلوا الى الحكم فيها باسم حركة القوميين العرب ثم تغربوا تحت شعارات اليسار حتى باتوا يرطنون بالروسية… وأخذت المسافة تتسع بينهم وبين »الشطر الشمالي« حتى بلغت حد القطيعة ثم تجاوزته الى المحظور: حرب الأشقاء.
اختلق الانفصال منطقه التبريري. كان قد اطمأن الى رسوخ »الانفصالية« في النفوس، معززة بالأسطول السوفياتي عند الشاطئ.
ويوما بعد يوم كانت تزداد غربة »أهل السلطة« عن مجتمعهم. كانوا قد نسّبوا »الشعب« الى »الحزب«، وكانوا يرفعون شعارات النظرية الماركسية في حين كانوا يمتّعون أنفسهم بمزايا الرأسمالية.
لكن »السلطة« وحش برؤوس عديدة، سرعان ما باشرت التهام بعضها البعض، وعلى طريق الدم والغلط تم تدمير الحزب والنظرية فضلا عن الحقائق الأصلية: هوية البلاد وأهلها. ومن ثم أخذت السلطة الرفاق الحكام في ظل الحاجة الى الحماية الى الخارج فصاروا في الخارج واغتربوا عن مجتمعهم بمن فيهم أولئك الذين كانوا »أولاد بلد«، لحمهم من ترابه، من صخوره، من حطام الفقر والنضال ضد القهر فيه.
***
من السهل توجيه النقد، وبقسوة، الى تجربة صارت صفحات دامية في تاريخ اليمن المعاصر، خصوصا ان انهيارها كان إيذانا بانهيار »الأصل السوفياتي« ومقدمة لسقوط الأمبراطورية الشيوعية.
ومن السهل مطالبة كل من مالأها وروّج لها وعلّق عليها الآمال، ونحن منهم، بنقد ذاتي يقرّ فيه بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر، بوعي وبغير وعي، حين برّر الانفصال بالعقيدة الآخذة الى التقدم والعدالة الاجتماعية، في حين كنا نعرف جميعا أن وحدة اليمن أهم من تلك الشعارات جميعا… سيما وان الوعود الكبيرة لم تجد طريقا تسلكها الى أرض الواقع.
كل شيء يبدو الآن متشحا بالكاريكاتور: »جمهورية النورس والغراب«! هكذا كان العنوان الذي توّجت به مشاهداتي في »جمهورية اليمن الديموقراطية« غداة ولادتها. كان هذان الطائران أبرز سماتها في القفر واليباب والبحر الذي لم يعد يطعم أهل الأرض سمكا.
أقيمت »دولة«، وانتفخ في ظل السلطة »الحزب القائد« فصار الشعب كله »رفاقا«، ثم صار الجيش أعظم من الحزب والشعب… لكن الادعاءات العقائدية لم تنجح في تحويل القبائل الى بروليتاريا حيث لا صناعة ولا طبقة عاملة، ولا هي نجحت في تصوير ملاّك القطع المحدودة المساحة من الأرض »اقطاعيين« برغم »نجاحها« في اخراج فيلم »الثورة الفلاحية« في قرية »الحصن« بمحافظة أبين!
شاءت لنا الصدف ان نعيش بعض فصول هذه »الثورة«:
أُخذنا في لاند روفر الى »الحصن«، ولخلل بروتوكولي دخلنا القرية بغير ان يعرف الأهالي الذين كان يسوقهم »الحزب« الى ظاهر البلدة لاستقبالنا، إننا »الوفد الضيف« الآتي ليشهد ثورتهم ويشهد لها.
ارتبك مرافقنا، ثم قرر ان يقصد بنا الى الجمعية التعاونية حيث بوغت بنا الموجودون وكانوا بمعظمهم من الشيوخ والكهول.
كان في صدر القاعة صورتان: الأولى لرئيس الدولة آنذاك سالم ربيع علي (او سالمين كما كانت تسميته الشعبية) والثانية للقائد الفيتنامي العظيم هو شي مينه.
وتقدم زميلنا الكبير محمد مكرم أحمد (رئيس مجلس إدارة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة »المصور« المصرية، الآن، وكان يومها محررا في »الأهرام«) من أكبر الشيوخ سناً وحياه ثم سأله: من هذا يا عم؟! ورد العجوز: »هذا سالمين..«. اطلق مكرم سؤاله الثاني: وهذا؟!. فرفع العجوز بصره يحدق في الصورة، ثم أفتى بذكائه اليمني: والله يا بُني لا أعرف، ولكن المؤكد انه يحب الفلاحين والا ما وُضعت صورته هنا!
***
سهل الآن إعادة ذبح المذبوحين، والعودة الى التشهير بالمهزومين في حروبهم داخل سلطتهم ثم في حروبهم لمنع توحيد اليمن حفاظا على سلطتهم التي كانت »شيوعيتها« تتغذى في سنواتها الأخيرة بالدنانير والريالات… لتشجيع النزعة الانفصالية فيهم.
ولكن ليس هذا هو الهدف لا من زيارة عدن ولا من الكتابة.
على ان ما لا بد من تسجيله هنا ان الجنوبيين تخلصوا، الى حد كبير، من مرارة »الهزيمة« على يد اخوانهم في الشمال، كما ان الشماليين تخفّفوا من »زهو« الانتصار على اخوتهم الجنوبيين.
عاد اليمن الى طبيعته: واحدا!
هتف بي الصديق »الجنوبي« القديم وهو يراني في عدن: أتذكر، أنا من »شهَّرت« بي ذات يوم، إذ سمعتني اختم البث التلفزيوني بالقول: والآن، تصبحون على… ماركسية لينينية!
ضحك الحاضرون، بينما اكمل الصديق: هل تأكدتم الآن »الحكمة يمانية«؟! ها هو اليمن دولة ثابتة الأركان، فقيرة لكنها صلبة كالحقيقة.
لم اجد ما اقوله غير كلمة مأثورة أخرى: لا بد من صنعا وإن طال السفر.
مع الغروب تركنا عائدين الى صنعاء فقطعنا مسافة سنوات الانفصال والقطيعة والدم والحروب التي امتدت لسبع وعشرين سنة في ساعة واحدة…

أنثى الطاووس وحريمه!
نفش غروره كذنب أنثى الطاووس وهو يتقدم »حريمه«. كنَّ أربعاً تتراوح أعمارهن بين حافة العنوسة وبين أواخر سني المراهقة. ولم تكن بينهن من هي زوجة له أو خليلة ولكنهن »يعملن« عنده!
وصل إلى الطاولة متعاظماً والنادل يتقدمه بتأدّب لزج، فأشار إلى كل منهن يحدد لها مقعدها، مع إشارة صارمة إلى النادل بأن ينصرف، أتبعها بجولة بصرية في من يجاورهم للاطمئنان وإشاعة الهيبة.
جلس وكنّ يتجولن بعيونهن فضولاً بعد، فزأر: ألن تجلسن؟!
همست كبراهن: إهدأ، إن لنا هنا أكثر من صديق.
رد بعجرفة: هم أصدقائي أنا، ومن شاء منهم إلقاء التحية فليأت إليّ هنا.
قالت تهدّئه: تعرف أننا خارج العمل الآن، وقد جئنا بدعوة من غيرك. ثم لقد آن أن تثق بنا وبقدرتنا على حسن التصرف.
نفث بعض غلّه المتراكم في صدره: لا أثق حتى بأمّي!
قالت بنبرة تتجاوز البكاء: أما أنا فقد انتهيت مع يأسي، وأما هاته الصغيرات فلسوف يقفزن من فوق سورك هاربات من خطر الاختناق في زنزانة غيرتك.
قال من خلال شفتيه المغلقتين: ليجربن فيندمن حيث لا ينفع الندم.
صدحت الموسيقى وانتشرت في النفوس النشوة، فقام إلى الحلبة من يريد أن يتسلق النغم ليصل إلى ذاته فازداد توتره وهو يلمح صغراهن تتمايل في مقعدها وقد هزها الطرب، وهمّ بأن يؤنّبها لكن أمراً آخر شغله حتى كاد يصعقه: انتبه إلى كبراهن وقد وقفت متجهة إلى الحلبة! وحار في كيف يتصرف! همّ بأن يهتف بها آمراً أن تعود لكنها كانت قد انفلتت تدور في الحلبة وقد تركت جسدها للموسيقى تطلقه فيترامى على أسنّة العيون.
مدت نحوه يديها مع ابتسامة عريضة ونظرة جاذبة. التفت حوله فإذا الكل ينظره. تقدم متردداً، فاقتربت لتجذبه من يديه، حتى إذا ما خاصرها، أشارت إلى رفيقاتها من فوق رأسه أن: هيا، انضممن إلينا.
وتقافزت الفتيات إلى الحلبة ينفضن من طريقهن ريش أنثى الطاووس التي كانت الآن قد غطت مساحة الرقص تماماً وباتت تتطاير على وقع الطبل الصاخب كرأس »الأستاذ« الذي لم ينجح في تقليد »الحاج متولي« الذي كان حتى لحظة ارتكابه الخطأ الفاحش، باصطحابهن إلى مكان عام، مثله الأعلى!

تهويمات
لم يكن يصدّق أن الحزن عراقي حتى رآها:
للدمع المتجمد في العينين وهج الجمر المتبقي بعد حريق، والشعر أسود كالمأساة… حتى الابتسامة كان مذاقها مرّاً.
قال لي الصديق: كل عراقية قصيدة رثاء. كل عراقي مشروع قتيل!
ورد صديق آخر: عرس الحزن مفتوح أبداً في أرض السواد والكل يجيئه بلا دعوة، لكن الحب قد كفّ عن البكاء.
***
تمتد اليد فلا تصل إلى الوجه الذي تشتهي احتضانه، فتضخ الكلمات في الكف المفتوح كقلب. تتحرك الشفاه بالكلمات، لكن إيحاءها يتعدى حدود الكلام، أما العيون فتتعانق خارج سور الكلام.
أين الزمان من الزمان، والقبلة وحدها لا تصل بين الزمانين اللذين لا يوحدهما حتى الحلم.
من افترق عنك في أحلامه لن يلاقيك في يقظة الحب الذي لا ينام!

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
إذا وجدت حبيبك حزيناً فابحث عن خطأ ارتكبته. يقولون ان الهدايا تنعش الحب، وتكفّر عن الاخطاء. الاعتراف أسهل وأرخص وأضمن. صارح حبيبك بالخطأ ان وقع فيغفر لك ويحبك أكثر، أما التجاهل فيجرح الكرامة.. والحب كرامة، فحصّنه باحترام عقل حبيبك!

Exit mobile version