طلال سلمان

هوامش

حوار عاقل في ساعة الجنون العالمي
يبدأ الغياب قبل أن يكتمل حضور المدعوين، وتستبق النشوة حضور المطرب لأنها مختزنة وقد تقرر أن يتم الإفراج عنها مع الوصول الى الورقة الأخيرة في مفكرة العام.
الكل آتٍ في طلب الزمن الجديد في علبة الليل هذه… ولقد أعدّوا له هنا كل أدوات التنكر: أقنعة للوجوه، طراطير للرؤوس، زمامير للأفواه حتى تنصرف عن الكلام وشرائط ملونة لزركشة الغد عند إطلالته الأولى مع انتصاف الليل.
يبحث كل عن معارفه في زحام الوجوه. لقد اختار كل منهم المكان الأبعد للتخفف من »الثوابت«. إنه يريد حريته والأصدقاء قيود. جاء لكي ينطلق، ووجود المعارف يقلص مساحة الحرية. يدخله في دوامة اللياقات والأصول والواجب، والليلة موعد للخروج من الزمن وليست للهدر في ما لا طائل منه. الليلة للنسيان، وفي الغد تستعيد الذاكرة الهموم والمتاعب.
يجيل كل بصره في من حوله ليطمئن الى أنه في أمان من اللوم والنقد. تنبهه الزوجة الى بعض من وما غفل عنه. يشير إليها أن تنسى فتنسى الرجال لكنها لا تنسى ثياب النساء الأخريات: إنهن يشترين الثياب من أغلى دكاكين الموضة!
مع أول إيقاع تدافع الجمهور الى حلبة الرقص فملأها، لا يهم ماذا ستكون الأغنية أو من سيؤدي اللحن. الطرب قرار.
انفجر الليل بالدوي المضيء! سقط العام الماضي صريعا، تحت وطأة التمني بأن يكون »المقبل« مختلفا عنه. تضيق الذاكرة عند الوداع فتسقط منها كل الأيام الطيبة واللحظات التي حملت إشراقات من الفرح والسعادة، لتخلي المساحة للآتي الذي لا بد أن يعوض عما فات.
يتعالى الصراخ وقد اختلطت فيه الزغاريد والزمجرات وكلمات المعايدة وانحطام الأكواب والدق على الطاولات، وخبطات الأقدام، في »دبكة« حرة… يتبادل الناس قبلات ليست كالقبلات، وتمنيات تتجاوز الإطار التقليدي، ولكنها تبقى حبيسة التمني والشعور بأن ليلة واحدة لا تكفي لتبديل المقادير.
إنها ساعة الجنون العالمي. لكأن انتصاف هذه الليلة من دون غيرها يسقط الناس من على حافة العقل الى دائرة الهذر والانفلات من الضوابط الصارمة للعمر والتقاليد وكلام الناس ومسؤوليات القضية.
… وإذا كان العالم يذهب بقدميه نحو الجنون فلماذا تكون الصاحي؟
لماذا لا تشتري ساعات من النسيان، أنت الذي تقوم متبرّعا بدور »المنبه« لا يكف عن الرنين، لأن القضايا مترابطة من أول الفقر الى آخر الغنى، من أول الاستعباد الى ذروة التحرر، من أعلى الدين الى أدنى الدنيا؟!
لا بأس من أن تتفرج على الحب معروضا على الطرقات.
لا داعي للتشدد الآن، ولتزمتك في التمييز بين الحب والعشق والرغبات المعروضة للبيع.. هذه ليلة تسقط فيها الحدود. إنها ليلة سماح، وغداً يعود العقل الى العمل فيحاسب ويعاتب وقد يعاقب.
أسقط أفكارك الجادة. إمسح عن هذا الوجه المتغضن عبوس الوقار الذي يحبسك في إسار معلم المدرسة الذي نسي الأسئلة وصار همه أن يكون مستعدا للأجوبة وحدها.
إنك لا تملك من الأجوبة ما يكفي لفضولك فكيف لمعرفة الآخرين!
بل إنك شلال من الأسئلة، تجاهد لتحبسها ولكنها تنصب الأشراك والكمائن، فإن أخطأ عابر سبيل وسألك عن الوقت انهلت عليه بسيل من الأسئلة التي تفترض أنها ضرورية للاجابة الصحيحة فيندم على تورطه معك، ثم ينصرف عنك مشفقا وهو يتمنى لك سرعة الشفاء.
ما الذي أعادك الى هذه الدوامة مرة أخرى؟ التوقيت. أفغانستان والحرب على الإرهاب والمبارزة بين أسامة بن لادن وجورج و. بوش. وموقعك الذي تتقاطع عليه السيوف فتأكل من لحمك في فلسطين، وتلتهم من أملك في غدك ما يكفي لتبرئتك من جريمة مزدوجة أنت ضحيتها في الحالين؟!
التفت الى من حولك. إنهم يشترون النسيان بالمال، فلماذا تشتري التذكر؟!
الكل يجاهد ليتحرر من أثقاله فينطلق مع عواطفه، مع غرائزه، مع أشواقه الى تعويض الحرمان في طفولته. الكل آتٍ الى هنا ليشتري وقتا خارج الزمن.. ليصطنع بعض الزمان الإضافي الخاص. الكل أقفل على أسئلة يومه وغده في صندوق الثياب القديمة وارتدى أفضل ما عنده، ورسم على وجهه أوسع ابتساماته، وهيأ ذراعيه لأمتع لحظات العناق، واستعدت ساقاه لأقسى مباريات الدبكة… فاهدأ، أجل ناظريك في من حولك، واستعر منهم ابتسامة تليق بالمناسبة.
الابتسامات المستعارة لا ترد ولا تبدل، فانتبه.
من حوله كان الجميع يتبادلون الابتسامات المستعارة، ثم ينسون أن يعيدوها الى مصدرها!

الملكة والشجرة
يرتفع دوي القرع على الطبل، يغطي على الخواطر والأفكار المشوشة. لا بأس من استذكار قول المهلهل: »الليلة خمر وغداً أمر«، والتفت الى حلبة الرقص ففيها ما يسر العين ويبهج الفؤاد!
لفته شاب بدا أول الأمر استعراضيا دعيّا، ثم مع سريان النشوة في الجمهور بدأ يشكل »ظاهرة« في انطلاقه ورفعه الكلفة مع الحشد، رجالا ونساء. كان أطول من المألوف، وأظرف من التوقع ويتمتع بروح رياضية عالية، كما أنه راقص ممتاز، لين الجسم، خفيف الحركة ودائم الابتسام. وبعد ساعة تقريبا كان قد غدا »فارس« الحلبة، بلا منازع وزاحم المطرب على قلوب العذارى والمطلقات والزوجات برضى الأزواج وابتساماتهم المدللة على رحابة صدورهم.
ثم نزلت »الملكة« الى الحلبة مرة أخرى، ومن دون زوجها الكهل الذي اكتفى بمتابعتها بقلبه في عينيه، أما قلبها فكان معه وله، يدور في مداره لا يغادره، ولا يأبه لغابة النظرات التي أحاطت بها تتابع قدها الممشوق وهو يتطاول ويتمايل وينحني بغير أن يتقصف، ويهتز بكل أعطافه ثم تأخذه النشوة الى التثني، وعند منحنى اللحن تهوي وكأنها سقطت من شاهق قبل أن تعود لترتفع في موكب من اللهفة تجتمع فيه العيون والقلوب والرغبات.
حاول ظريف السهرة أن يشاغلها: دار أمامها كنخلة عالية، ومد ذراعيه الطويلين فوق رأسها، انقصف كشجرة ضربتها عاصفة، ثم اندفع صعودا كبئر نفط انفجر للتو، تثنى بليونة الهليون، تلوى وتعرّج هبوطا وارتفاعا، ثم أعياه التجاهل المهذب، فابتعد ليشاغل مراقصته الأولى، مدللا على روح رياضية عالية في ذلك المنخفض الجوي الخطر!
ساد الإعجاب حتى أفسح الراقصون مساحة إضافية »للملكة« التي ازدادت نشوة وعيناها تلتقطان ولهَ الناظرين وحسراتهم التي سرعان ما انقلبت تقديرا واستمتاعا، فتوقفوا عن التصفيق حتى لا يفسدوا متعة النظر وبراءة التمني!
عندما توقفت »الملكة« كان كثيرون قد بلغوا ذروة النشوة، فقاموا ينصرفون قبل أن يفسدها الطبل وصوت المغني.
جميل أن يطل عليك العام الجديد من ارتجاجات »عرش« تصير ملكته أكثر شعبية كلما تسامت مبتعدة عن.. جمهورها!

العودة من النسيان
في طريق العودة كانت السيارات تتمايل ثملى بأحمالها من أولئك الذين حاولوا الخروج من الزمن ثم تركوا لسياراتهم أن تعيدهم إليه،
وكانت الزوجات اللواتي بقين داخل دائرة الوعي يجمعن ويطرحن ويقسمن ليعرفن كم تكلّفن على سهرة عبث فيها الأزواج مع النساء الأخريات، ونسوهنّ!
أما الرجال فكانوا يحضرون لاستئناف كلامهم في الغد عن الأزمة الاقتصادية الخانقة، وعن تدني الرواتب، وعن احتمال انكسار الليرة كليا أمام الدولار، وعن خطط صندوق النقد لرهن البلاد!
واما الذين تركوا عقولهم حيث سهروا فكانوا يسخرون من هؤلاء الذين جاؤوا يشترون النسيان فنسوا ما جاؤوا من أجله وعبثاً حاولوا استذكاره فما استطاعوا إليه سبيلا!
كان طابور العائدين إلى الصحو يتمايل بعرض الطريق ثم ينتبه إلى الشرطة فينضبط.
لكم كانوا يحسبون السنة الأخرى بعيدة فإذا هي على مدى كأس!
انتبهوا إلى أنهم استهلكوا يومها الأول وعجبوا كيف ستمضي بهم ورؤوسهم ثقيلة، وهي بلا رأس!

لقاء خارج زمن الانفجار…
تقصّف الزمن بين يديه وهو يحاول العودة به الى حيث كانت البداية التي ضاع منها السياق فظلت بلا خاتمة.
هتفت بفرحة اللقيا: لن تعرفني، الغياب يطمس الوجوه ويبهت الذكريات…
ركز بصره على الوجه المستدقّ والمقنع الآن بنظارتين طبيتين، وتدرج به نزولاً من الشعر المصبوغ الى الفستان المزركش بالربيع عله يخفف من تهالك الجسد… وقبل ان يرفع عينيه الى صفحة الوجه رشقته باسمها ومعه تفاصيل كثيرة:
جيرانا كنا في فورة الصبا الاول. ولطالما لهونا معاً وتشاكسنا فتخاصمنا، ثم تصالحنا واحتفلنا في مخبأنا الأثير: في القبو الذي كان ذات يوم اسطبلاً ثم بات مستودعاً للمهملات.
ظلت العين خارج مدى الذاكرة. متعبة استعادة الأمس البعيد عبر ازمان الحروب والتعب والانهماك في التعرف على الذات ومن ثم شق الطريق الى الغد عبر صخر الغربة وشوك الفقر واضطهاد الخائفين على قديمهم من الدم الجديد.
انتحى بها جانباً ويدها في يده لا تريد ان تسحبها، باشرت رواية واقعة فأكملها، وروى مغامرة القبلة الاولى فتضرّجت وجنتاها الغائرتان بحمرة الخجل، وكان الضحك السبيل الوحيد لمغادرة التحرّج. ذلك كان في زمن لا يقع الآن تحت الحساب. ظل طوال الغياب سراً فلم يفتضح الا مع لقاء المصادفة الآتي من خارج التوقع والقدرة على الاستعادة فكيف بالاستكمال. لا خطر من ماضي المراهقة على حاضر الكهولة. اندثرت لحظة انفجار اليوم بالأمس. صارت الانفجارات خارجية، لم يعد في الداخل ما هو قابل للتفجير.
بعد دفقة من الذكريات المحفوظة رجعا الى يومهما غريبين يحاول كل منهما ان يتعرّف الى الآخر: كم ولداً لديك؟! كم اعمارهم؟ هل لديك احفاد؟ أين تسكن؟!
طوى كل منهما غلاف الماضي على مكنوناته، وانتبهت الى ان زوجها ينتظر ان يعرف منها ما الذي يجمعها بهذا الغريب، فلما جاءت لتقدم واحدهما الى الآخر، اكتفى كل منهما بالقول: تشرفنا!، ثم انصرفا مسرعين كأن الاول يريد ان ينسى والثاني لا يريد ان يعرف…

من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ما قبل الحب مراهقة وما بعد الحب إهراق للعمر،
اما الحياة، بافراحها ومتعها وبهجتها والمعنى فهي تلك الدنى المسحورة المحصورة بين حرفين صغيرين لكنهما يختزنان نور قمر صيفي يغازل نجمة صيف تلتهم اطراف الليل ساعية الى الموعد المهدد بالضياع ان سبقته الشمس.

Exit mobile version