طلال سلمان

هوامش

»نحن الإرهاب«، مسلمين ومسيحيين، لأننا عرب!
هي حرائق صغيرة في بقاع متعددة لا رابط بينها غير الخوف من الفتنة، ولكنها تستحق وقفة بالتأمل والتحذير: متفجرة على كنيسة في صيدا، ثم في طرابلس، اي في مدينتين »مسلمتي« الاكثرية، حريق متعمد في مسجد معزول في مدينة »مسيحية« الاكثرية… وفي البعيد، مذبحة ضد مصلين مسيحيين في مدينة منسية في الريف الباكستاني، فمذبحة ضد مصلين مسلمين في بعض أطراف الهند.
تهيّب »إسلامي« في مقابل »ذعر« مسيحي يمتد سريعا وعميقا في أوساط »الأقليات« التي أشعرتها الحرب الاميركية على »طالبان« الافغان و»درتهم العربية« أسامة بن لادن بالخطر على المصير،خصوصا وأن أبطال الحرب على الجبهتين ارتكبوا من الاخطاء المقصودة او من زلات اللسان ما يطلق اللهب في الهشيم.
يتفرع الخوف وتتسع دوائره لتشمل أطرافا اخرى داخل صفوف »المسلمين« أنفسهم… يسري الهمس بالرعب في اوساط »أقليات« إسلامية، ثم تجيء الذروة مع » لا تنابذ بالألقاب« بين »الاصولية السنية« الناهضة الآن، وبين »الاصولية الشيعية« التي كانت قد احتلت المسرح طوال عقدين من الزمان (بعد تفجر الثورة الإسلامية في إيران ثم نهوض المقاومة الوطنية في لبنان على اكتاف منظمات شيعية بكليتها او بالكتلة الكبرى من مقاتليها).
لكن الصورة غير حقيقية،
* * *
لم يكن للمسيحية في هذا الشرق دولة، عبر تاريخه. كانت وظلت، وهي اليوم، دعوة. كانت وما تزال »ديناً«، رسالة سماوية، أقرّ بها الاسلام واحترمها حتى يوم صار للرسالة الاسلامية دولتها العربية.
»الدولة المسيحية« جاءت وافدة، استعمارية، الى هذه المنطقة تحت راية الصليب. ولقد قاتلها المسيحيون الحقيقيون من أبناء هذه الأرض، وقاتلتها الكنيسة الشرقية التي ترى نفسها عن حق الممثلة الشرعية للمسيحية الرسالة، بقدر ما قاتلها »المسلمون« ومن داخل صفوفهم، وقاتل الغربيون الآتون تحت راية الصليب اتباعها المؤمنين برسالة المسيح بأعنف مما قاتلوا المسلمين. فهم كانوا يفضحون المقاصد الاستعمارية للآتين من الغرب لاحتلال الشرق وليس للتبشير بالرسالة السماوية للسيد المسيح.
اما »الدولة الاسلامية« حين أخرج منها العرب فقد باتت دولة غريبة، وهي قد قاتلت العرب وقتلتهم، لم تفرق بين المسلم منهم والمسيحي.
.. ومع ذلك فقد اتسعت هذه الارض دائما لأتباع الاسلام والمسيحية ومعهم أتباع ديانات اخرى، بينها اليهودية، اضافة الى »كفار« وملحدين و»عبدة شيطان« وعشرات الملل والنحل فضلا عن القوميات والعناصر والاعراق المختلفة.
* * *
ليست قضية مسيحية، ولا هي قضية ظلم أحاق بمسيحيين في باكستان ويخشى ان تكون »جمرة خبيثة« تمتد عدواها الى سائر بلاد الشرق ودنيا العرب حيث تقلب الاهالي بين الدينين القديمين المسيحية والاسلام على امتداد الدهور، فاختلفت أديانهم داخل أنسابهم وأعراقهم ذاتها، وحتى من جاءهم »دخيلا« من الخارج ذاب فيهم فصار منهم وتداخلت الاصول فبات الفصل والتمييز (العرقي كما الديني) مستحيلا.
انها قضيتنا جميعا، مسلمين ومسيحيين، إذ ان »الآخر«، الغرب، الغريب، يضعنا جميعا في الخانة »الجغرافية« ومن ثم »الحضارية« الواحدة: فنحن »الشرق«، ونحن »العرب«، ونحن التخلف وبدو الصحارى الهمج، نحن البربر و»المور«، نحن أهل الاختلاف في المسيحية بداية، وبعد ذلك لا قبله حول الاسلام والمسلمين.
نحن الارهاب… يستوي في ذلك ان يكون الاسم خليل الوزير (أبو جهاد) او جورج حبش، صلاح خلف (أبو أياد) او كمال ناصر، هادي حسن نصرالله او لولا عبود، المطران كبوجي او أبو علي مصطفى.
لكن أسامة بن لادن ليس ممثلنا الشرعي، وطالبان ليست حكومتنا.
وليس جورج بوش »محررنا«، وليس لأرييل شارون صورة اخرى غير الارهاب مجسماً.

»يالو« الياس خوري: الاستعراض في الذروة!
الاستعراض في ذروته: لكل »بطل« صورتان، شخصيتان، حياتان، اما »يالو« فله صور عديدة تمتد عبر البلاد المختلفة والقوميات المختلفة والحروب المتعددة خارج لبنان ثم داخله، وصولا الى »الحرب الشخصية« التي تكثف مأساته التي يصعب ان يتعاطف معه فيها أحد!
والياس خوري يلاعب هذه الثنائيات والمجاميع من الشخصيات التي تتناسل من ذاتها فتصطنع عوالم متعددة سرعان ما يعود خيط الدم فيقربها بعضها من بعض ويدرجها في سياق واحد لرواية يتوهج الالتباس في كل فصل منها كما في »مجموعها«.
والالتباس واحدة من المزايا المعلنة لالياس خوري الكاتب السياسي والمثقف متعدد المواهب والروائي الغزير الانتاج والذي يتقدم في كل عمل جديد نحو المزيد من النجاح والانتشار والعالمية، اذا اخذنا ترجمة أعماله الى ثلاث او أربع لغات غربية بالاعتبار.
»يالو« هدية من السماء هبطت على الياس خوري لتمكنه من ان يقول، على لسانه وعبر رواياته المختلفة لحيواته العديدة، رأيا متكاملا يجسد موقفه المبدئي من أمور كثيرة: الحرب وطبيعتها وهل هي »أهلية« أم »حرب الغرباء على أرضنا«، مجتمع ما بعد الحرب والى أي حد هو وليد بشاعاتها وفضائحها وقسوتها وطاقتها التدميرية نفسيا وخلقيا وعائليا ووطنيا… ثم يجيء الموضوع الأثير: التحقيق وأساليب التعذيب الجهنمية التي استعارت من »المحاربين الأشاوس« بعض تفانين التعذيب حتى تدمير الذات الانسانية.
الرواية ممتعة، وقد نجح الياس خوري عبرها في تقديم نفسه كروائي بوليسي ناجح، وكدارس للتحولات النفسية والفكرية وانعكاساتها السياسية على الأفراد والمجتمع.
لكن الرواية تبدو وكأنها كتبت بحبر الليل، ليل الامس، لتكون مطالعة او مرافعة سوداوية تكاد تقنعك بأن لا أمل في الغد.. اللهم اذا اعتبرها »قطاعية«، بمعنى انها اختارت قطاعا معينا من المجتمع، ذلك الذي كان هامشيا خلال الحرب، يعيش منها وخاضها حتى القتل، ثم لم يعرف كيف يعيش بعدها فتهاوى في لجة الموت الذي يجيء كعقاب ناقص على جريمة كاملة.
ليس في الرواية شخصية واحدة سوية، وليس فيها »بريء« او مذنب يحاول التطهر واستعادة البراءة المدمرة، خليط من الخيانات العائلية وضياع الانساب وتداخلها بحيث تكون الأم شقيقة ويكون الجد أبا ويكون العشيق والدا أما الوالد الحقيقي، فخسيس متوهم، والزوجة عشيقة تخون زوجها بلا سبب يكفي لتبرير الخيانة، والصبية التي كادت تشكل مصدر أمل تتكشف عن مشروع مومس تدعي الشرف عن طريق التلطي بخطيبها ذي الشخصية التافهة بحيث يظل ادنى من »قواد«، اما العشيق الطبيب فيستغل مهنته الانسانية للايقاع بالجميلات من مرضاه.
عالم من العبث وازدواج الهويات وسريان الخيانة.
مستنقع من الانحطاط ليس فيه طاقة لضوء او نافذة لأمل.
الحبكة البوليسية متقنة. وشخصية »يالو« الحقير حتى الدناءة، الغادر بمن ائتمنه على بيته وعرضه، السارق من السارق، المعتدي على المعتدي، غاصب المغتصبة ومبتز المنحطين، تتبدى عند »المحاكمة« المدبرة الاتهامات سلفا وقد استعادت قدرا من البراءة، فصارت »ضحية« لمتجنين أبرع منه في نسج الروايات واستخلاص الاستنتاجات بما يناسب أغراضهم السياسية.
نجح الياس خوري الكاتب البوليسي. انتصر المحاربون على البراءة.
من الافضل ان نكتفي بمتعة الاستعراض الذي يقدم الياس خوري كاتبا دخل من السياسة الى البوليسيات فانتهى بأن جعل البوليسيات مسار حياتنا العامة والخاصة داخل السياسة وخارجها.

سهرة في حديقة الحيوان!
جلس يشكو همه الى صاحبه في لحظة صفاء. قال:
لقد تملكتني عادة غريبة تكاد تفسد عليّ صداقاتي وتكاد تحرمني ساعات السمر والأنس.
أشعل لفافة وكرع قهوته، وسط دهشة صديقه، قبل ان يستأنف كلامه فيقول: من زمان، قبل سنين طويلة، كنت شغوفا ببرنامج فرنسي من الرسوم المتحركة يعطي لأبطاله وجوه حيوانات أليفة، في الغالب. يومها كنت أرى في هذه المبالغة استدراراً للضحك بالمبالغة في تحوير الوجوه.
لم يفهم صديقه دلالات هذه المقدمة، فقال: وماذا فيها؟ برنامج ظريف أعجبك فتابعته.
تنهد قبل ان يقول: المشكلة أنني لا أستطيع التخلص من هذا البرنامج، بل انني أضبط نفسي، في كل مجلس، وقد أخذت في تلبيس الموجودين وجوه الحيوانات التي أراها مناسبة لهم! وأكثر ما تتحكم بي هذه العادة في السهرات التي تضم أشتاتا من الناس لا أنا أعرف معظمهم ولا هم يعرفونني.
كانت الدهشة قد وسعت عينيّ صديقه على مداهما.. فأكمل يقول:
مع انقشاع عتمة الوهلة الاولى وتمدد الفضول وسريان تيار الألفة بين الغرباء، أسقط في الشرك فابدأ بالاستكشاف. أُسقط الاقنعة من فوق وجوه الساهرات والساهرين فإذا بالمشهد من حولي أشبه بحديقة حيوانات. تتبدى تلك المرأة السمينة التي ضغطت جسدها في ثوب يكاد يتمزق لضيقه بها، أشبه ببقرة حلوب، واما صاحبها فأراه تيسا بقرنين وجرس في رقبته. وفي الزاوية الاخرى أرى ثلاثا من النساء بوجوه قطط تتربص بتلك الزرافة الجميلة التي تكوكب من حولها الرجال كقطيع من الماعز، يكاد يقفز واحدهم من فوق الآخر ليلفت اهتمامها اليه… ولقد كدت أنفجر ضحكا حين لمحت رجلا له ملامح »الخنوس«، لولا ان شغلني »الكلب« الذي الى جانبي إذ غنى بما يشبه النباح فلفت الأنظار واضطر الجميع الى الغناء لكي يحجبوا صوته. اما المرأة الثعلب فقد ضبطتني متلبسا فجاءت تقرأ أفكاري، على انها رأيها في من حولنا، وأنا لا أملك غير ان أهز رأسي موافقا كالحمار. الأفاعي كثيرات، من مختلف المقاسات والأشكال والألوان… ولقد شهدت، في ما شهدت، ثورا يراقص نعامة، حتى اذا قاربته واحدة من »الغزلان« اهتاج فاجتاح سائر الراقصين قبل ان يرتمي منهاراً على الكنبة والزبد يغطي شفتيه.
صمت فلم يجد صديقه ما يعلق به فعاد يقول مستخلصا الحكمة من ملاحظاته:
يجب ان تمنع الطبلة، فضلا عن الطبل، في السهرات. هل لاحظت كم يشبه ضباط الايقاع القرود؟! انهم ينتقمون من هؤلاء المترفين بأن يجعلوهم حيوانات مثلهم، لا سيما النساء… ومن ساواك بنفسه فما ظلم!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا تخجل من إظهار ضعفك أمام حبيبك. الحب يجعلك رقيقا، هشا، تكاد تكسرك همسة او لمسة او لفتة من عينين ماطرتين… هل عرف الانسان في تاريخه أسلحة أقوى من هذه؟!

Exit mobile version