طلال سلمان

هوامش

عزمي بشارة: »الفدائي« الذي أسقط دولة الإرهاب!
رفع الكنيست الاسرائيلي الحصانة عن نفسه فتهاوت »واحة الديمقراطية« وتناثرت هباء في صحراء العنصرية الصهيونية.
شكرا لعزمي بشارة الذي أنهى الالتباس.
كان لا بد من »فدائي« يتصدى بشجاعة للمشي فوق حد السكين، متحملا جراح الشبهة وسهام التشكيك في وطنيته، من اجل إسقاط القناع عن وجه »العدو« وفضح الاكاذيب التي غلف نفسه بها فكادت تجوز على »القريب« بعدما جازت ولأسباب عديدة على البعيد.
كان لا بد من التوغل داخل الوحش، في تلك الدهاليز المظلمة من الاحقاد والعدائية والكراهية الشديدة للشمس والاطفال والشعر والفراشات والارض المنبتة للورد والياسمين، حافظة أحلام الصبايا، المنتشية بحداء الفرسان وأغاني الوجد المتدفق بالجوى في صدور العاشقين.
كان لا بد من نور كاشف يعري الكذبة التي طمست كل الحقائق الاصلية لهذه المنطقة وأهلها فصورتها وكأنها أرض الخراب واليباب والعقم، وصورتهم وكأنهم نفر من البدو الرحل او من الغجر يعيشون ليومهم حيثما ينتهي بهم نهارهم، لا علاقة لأي منهم بالآخر ولا علاقة لمجموعهم بأرض، وبينهم وبين معالم الحضارة »غربة« سرعان ما تتحول الى عداء لأنها تفضحهم وتعري غربتهم عن العصر وقيمه الجديدة التي لا تتسق مع جاهليتهم المتأصلة وغير القابلة للتحول.
ولقد ارتضى عزمي بشارة ان يقدم نفسه قربانا فداء لهذه المهمة المقدسة، قرر ان يدخل »اللعبة« متحملا المخاطر غير المحدودة، والمتعددة المصادر، إذ قد يبدو لأهله وكأنه »مرتد« يخادعهم ليأخذهم الى »الخطيئة« بذريعة العمل من »داخل المؤسسة«، في حين سيكون عُرضة لان يستخدمه العدو شهادة لديمقراطيته ونفيا لعنصريته ودليلا لا يُدحض على »شرعية« كيانه فوق هذه الارض التي ما صارت له الا لأنه قتل أهلها او طردهم بالسيف منها.
أكمل عزمي بشارة ما كان بدأه جيل كامل من المناضلين داخل الارض المحتلة، ممن حاولوا ان يفيدوا من الهامش الذي ابتدعته اسرائيل لكي تموه حقيقتها على العالم، ولكي تخادع فتروض وتستقطب من تبقى من الفلسطينيين داخل كيانها عن طريق إيهامهم انهم سيكونون »مواطنين« فيها، ولو من الدرجة الثانية، مع باب موارب نحو »الدرجة الاولى« عبر الاندماج في »الدولة« بمؤسساتها من النقابات الى الاحزاب وصولا الى الكنيست، والادارة وربما الوزارة…
… وكان لمثل هذا »الخيار« ما يزكيه بالمقارنة مع التشرد في ديار الشتات او مع الخضوع لإذلال الانظمة العربية لمن يحاول الخروج من قوقعة اللجوء الى رحاب الكفاح من أجل العودة برص الصفوف والتنظيم والتدريب تمهيدا للكفاح المسلح.
لم يكن الخروج من الارض حلا.
فليس كل فلسطيني هو محمود درويش، يستطيع ان يجعل الكون مساحة »فلسطينية« بموهبته التي تمنح الشعر نكهة ارض البرتقال وشميم الحقوق المحروقة لإنسانها وترتقي به فوق الرد على العنصرية بمثلها وعلى الخرافة الدينية بادعاء القداسة المضادة.
كان الحل الذي اختاره عزمي بشارة أعظم كلفة لأنه تحد مكشوف ومفتوح على مدار الساعة، ثم ان مداه بلا حدود: من الثقافة، الى العمل المنظم، الى الدقة في استخدام سلاح الكلمة، الى المعرفة المعمقة بالقوانين الموضوعة لعدوه وحدود الافادة منها بغير ان تصير شهادة له، فيضيع الحق الاصيل عبر دهليز الشكليات القانونية الموضوعة أصلا لتمويه إلغائه هو وتزوير »الحق« النقيض للمزور الاصلي.
على ان الايمان بالانسان والارض والمعرفة بطبيعة شعبه وبهول الفجيعة التي حطمت آماله وجعلته يخضع مكرها للغلط، وبفداحة الخذلان الذي استشعره، من نفسه كما من أهله، كل ذلك مكن عزمي بشارة ومئات ثم آلاف المناضلين من ان يشقوا الطريق وسط الاستحالة.
كان الالتباس شرطا عبقريا: ان تقول »البلد« او »البلاد« فيفهم الناس »فلسطين« وليس إسرائيل، وان تقول »الشعب« فيكون المعنى »الفلسطينيين« وان تقول »الاهل« فيفهم نصفك الآخر في الضفة والقطاع وديار الشتات انهم هم المقصودون، وان تقول »الامة« فتكون عربية بلا عنصرية ولا تمييز في العرق او في الدين، لا فوقية ولا دونية بل بشر متساوون في الحقوق والواجبات لأنهم في الانتماء الى أرضهم واحد.
فهم عزمي بشارة »اللعبة« فقلبها على أصحابها ومضى بها الى النهاية: أفاد من الحرص على الشكليات »الدستورية«، وأفاد من محاولة تقديم اتفاقات الاذعان مع بعض الدول العربية كإنجازات فنفذ عبر »مخارجها« للتواصل مع الاخوان العرب… البداية مصر، ثم عبر التفهم لموقفه الى سوريا، حيث كان الخرق التاريخي، إذ فتح عزمي طريق دمشق أمام اخوانه من »عرب 1948« لزيارة ذويهم الذين لم يتصلوا بهم منذ »النكبة« قبل نصف قرن.
كان الاحساس ان الطريق الى »الوطن« قد انفتحت…
ومن دمشق وعبر بيروت انطلقت »بشارة« عزمي مجلجلة بالفرح: لقد انهار السور الذي بنته العزلة المفروضة على المليون فلسطيني المنكورة عليهم هويتهم.
انهم فلسطينيون، لكنهم ممنوعون من اعلان فلسطينيتهم حتى لاهلهم،
وهم »عرب 1948« لكن العرب لا يحتسبونهم منهم تماماً، والفلسطينيون لا يجرؤون على توطيد العلاقة بهم… وكان على »الشطرين« ان ينتظرا اكتمال دائرة الاحتلال ليتواصلا، مع الحذر الشديد على حبل السرة: فإن شده احد الطرفين اكثر مما يحتمل انقطع.
وهم، في نظر السلطة المحتلة، »اسرائيليون«… لكنهم تحت الحجر، وتحت المجهر، وتحت القمع، وتحت الخدمة العسكرية، وتحت الريبة دائماً.
عزمي بشارة عرف كيف يكون طليعة.
وليست الخسارة ان يطرد من »الكنيست«، فهو ما دخله الا لكي يكشف الكذبة التي اصنطعت فيها احدى الغلالات المموِّهة للاحتلال وقهر اصحاب الارض.
لقد فضح عزمي بشارة ومعه كوكبة من المناضلين معظمهم مجهول الاسم، هذه الدولة العنصرية التي قامت بالارهاب وعليه وتستمر بالارهاب وعليه، وقامت على نفي »الاخر« الذي ينفي شرعيتها…
المهم الآن ان تتوفر الحماية لحياة عزمي بشارة.
فالديمقراطية الاسرائيلية قاتل محترف بشهادة الاربعة ملايين شهيد فلسطيني الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
عزمي بشارة: لا تدعهم يقتلونك. الامة بحاجة إليك.

بول شاوول: النشيد النشيج!
نفد الصبر، نفد الكلام، نفد الصمت، نفد الأمل، نفد التمني، نفد الوجع، نفد الحب، نفد حتى اليأس، فأطلق بول شاوول صيحته تحذيره اعترافه نبوءته ليفرغ صدره فكره عقله قلمه مما تكدس فيه مما لا يقال لأنه قيل أكثر مما يجب فلم يُسمع أو أن من سمع لم يعِ، او انه وعى ولم يقدر فذهب القول هباء في فضاء مزدحم بالهباء!
تعودنا من بول ان يتكلم بغير ان يقول. ينظر فحسب، وتفور في عينيه الواسعتين أمواج المعنى، فيقفل عينيه، او يرفع رأسه ليتأمل السقف، او يتشاغل، بإشعال نصف »السيجار« الرخيص الذي اختاره لكي لا يدخن، او يترك كلامك يغرق في غابات شعره المنكوش في فوضى منظمة. تحمل في طياتها التجربة الثقافية السياسية العريضة من »حركة الوعي« الى الشعر والمسرحية والنقد الذي يتجاوز الأدب الى السياسة بمعناها العميق.
في »أثره« الجديد، »نفاد الاحوال« لا يترك لك بول شاوول فرصة للتنفس وهو يطلق نشيده نشيجه في جملة واحدة تستغرق كتابا كاملا، عمرا كاملا، جيلا كاملا او ربما أكثر من جيل.
انها جملة معترضة، في أي حال… لعله أراد ان يفرغ منها كل أحزانه، أفراحه، شبقه وطربه، إيمانه وكفره، حبه للحياة وخوفه منها وعليها، في قصيدة واحدة، ثم يعود الى التأمل في الصمت والاستغراق فيه لكي يعرف اكثر ويقول أقل.
يمسك بك منذ الكلمة الاولى وكأنك آخر قارئ، آخر مستمع، آخر من يتلقى لا يهمه ان تتعاطف او ترمي الكتاب متبرما متضجرا من هذا الذي يريدك ان تتفرغ له بكليتك بينما أنت تبحث عمن يستمع الى شكواك بكلمات قليلة جدا، فلا يسعدك الحظ غالبا بالعثور عليه او »اصطياده«.
يتدفق سيلا، تتفجر عواطفه، آماله وانكساراته براكين من شهوة ومرارة وعشق للحياة.
ينبجس الألم حارا كالطين الذي يصنع منه الشعر والمرأة والطيش والمغامرة واختراق الصحارى برمح مكسور، مطاردا فيها السراب والبقر الوحشي والظباء التي تتهاطل من عيونها قصائد الغزل أيوبية الاحزان.
لا بداية ولا ختام. لا مستهل ولا وسط ولا استنتاج. السرد سرد نفسه. يتنفس. ينطق. يقول. ليس للوصف وصف.
يفعل الفعل فعله متجاوزا كل الكلمات، نطارده كما المحقق والشرطي لنعيد تمثيل الجريمة، لكن الاصل يتجاوز الممثلين والمسرحية، يقول البطل كلمته وهو يمشي في قلب الحكاية التي لا بداية لها ولا انتهاء.
لا نقاط. النقاط ختام، ولم يحن أوان إنزال الستارة بعد.

حكاية المرأة المزورة
قال وهو يتأمل مواكب الفتيات العابرات امام المقهى:
انتهى زمن الجمال، انتهى زمن الغزل. انتهى زمن الحب. انتهى زمن النساء!
قلت: فاما الرجال…
اكمل وكأنه لم يسمع مقاطعتي: لم يعد للمرأة وجود. النساء الآن صور. الصورة لا تصير امرأة، وما حاجتك الى المرأة ان هي كانت مجرد صورة، ومزورة… فكل ما في امرأة هذه الايام »طارئ« او »مضاف« او »محذوف«، وبالتالي فهي نموذج للتزوير المطلق! والتزوير مكلف دائماً، اما مع النساء فيكاد يكون اكثر كلفة منهن! احسب معي: التسريحة أغلى من الشعر، خصوصاً اذا ما تضمنت شعراً مستعاراً! الماكياج اجمل من الوجه… ولو كُرّست هذه الالوان البهيجة على ركبتي لنظم شعراء هذه الايام فيها قصائد غزل! العدسات اللاصقة مخادعة، اذ تعطي العينين لونا ليس لهما… الصدر مغشوش، تارة يجعلنه ضخما كدرة البقرة، وتارة يقرر ملك »الموضة« جعله ممسوحاً فتغدو الصبية غلاماً!
حاولتُ ان اقاطعه مرة جديدة، لكنه قمعني واضاف يقول:
ضبطت قبل أيام زوجة صديق وهي ترتكب فعل التزوير الفاضح. كنا عندهم في زيارة، ورأيتها في حالتها الطبيعية، ثم توافقنا على الغداء في مطعم، فاستأذنت لكي تعد نفسها للخروج… وبعد حوالى الساعة عادت إلينا في قاعة الاستقبال فكدت لا اعرفها. كانت كأنما استبدلت ذاتها بأخرى. وفي الطريق الى الباب، وقفت امام مرآة المدخل تطمئن الى ان التزوير متقن بحيث باتت على الصورة التي تريدها، او بالاحرى، التي ارادها لها مصممو نساء هذا الجيل!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تهمل حبيبك بداعي الدلال، او بذريعة امتحان حبه. ان المحب لا يغفر لحبيبه ان يمتحنه. الامتحان شك، والشك انتحار. والحب أغلى من ان يضيَّع بالشك او بالانتحار. من خسر حبه خسر حياته، فالعب مع حبيبك، ولكن لا تقامر به،

Exit mobile version