عن مفارقات الابن الشرعي للغلط والفراغ: أسامة بن لادن!
لا نهاية للمفارقات التي يجسدها اسامة بن لادن في شخصه وفي تجربته الفريدة!
انه مزيج نادر المثال من الاسطورة والواقعة، من الحلم المبتور والكابوس، من النبي الدجّال ووهم البطل المرتجى، من صوفي الايمان الى حد البله وسفاح الجماعات بذريعة ملتبسة لا تقوى على الصمود امام العاطفة والعقل والمنطق فضلاً عن التحليل السياسي.
انه خلاصة مكثفة لكل معطيات الواقع الأشوه الذي يعيشه العرب (والمسلمون) داخل قوقعة يأسهم من انفسهم، وهو واقع يجعلهم يهربون بأوهامهم الى مخلص مجهول ما سيتنزل عليهم من عالم الغيب وبيده سيفه البتار فيقضي على الشر والأشرار، في الداخل والخارج، بضربة واحدة، ثم يفتح لهم باب النعيم ويحملهم إليه وهم متكئون على آرائكهم يبسملون ويحوقلون وينظمون قصائد المديح والشكر ثم يطربون فيزيدون ويستزيدون!
انه يكاد يختصر، بشخصه ثم بتجربته، التشوهات التي مسخت المجتمعات العربية (والاسلامية)، وهي قيد التكوين، فجعلتها هجينة، يغلب عليها طابع التلفيق والاستعارة: تعجز عن الانتساب الفعلي الى ماضي الايمان بالسماء، كما تعجز عن مغادرة الماضي للولوج الى حاضر مختلف كلياً أوله وآخره في الأرض…
… والسماء مدى مفتوح ليس لها صاحب او مالك الا المطلق، بينما الأرض مصالح وكنوز وثروات وجيوش ومخابرات وقوى تصطرع على كل شبر منها، والمُلك فيها للاقوى.
انه يبشر بمستقبل مستخرج من وهدة الماضي الذي تقطعت صلته بالحاضر، بينما الناس يحاولون شراء حاضرهم بمستقبلهم الذي بات ميؤوساً من قدرتهم على تخيله، ولو في احلامهم…
انه ابن شرعي للغلط السائد في علاقة العرب (والمسلمين) بالدين والدنيا،
انه المسخ الذي ولده الضياع وافتقاد النموذج، الجهل والقمع والتنصل من هوية شبه مندثرة طلباً للانتساب الى »عصر ليس لنا«.
انه ابن الفراغ الموحش في مواقع القيادة على المستويين العربي والاسلامي. لا قائد ولا قيادة. وموقع »البطولة« فارغ يغري كل طموح بأن يجرب حظه، واثقاً من ان احداً لن يحاسبه على الغلو في ادعائه، فكل امثاله اطراف في اللعبة ذاتها.
منذ ثلاثين عاماً، على الاقل، والموقع شاغر: رحل جمال عبد الناصر، فجأة، فخلا المسرح الهائل الامتداد للكومبارس من المعاونين والخصوم، وكلهم كان يستمد من الراحل »قيمة« ليست له بذاته. ولما التهمت المساحة تجارب الطامحين، لجأ كل منهم الى الحل الاسهل: اقتطع من هذا المدى ما يناسبه، ورفع الاسوار لحماية ادعاء الزعامة المطلقة في مداه المحصور. وهكذا صار لكل مشيخة »قائدها المفدّى«، وتحول كل واحد من حكام المصادفات والعسف والتآمر في ليل الى »بطل خالد« تتوّج الصحف والنشرات الاخبارية المتلفزة بأقواله المأثورة، ويمسح تاريخ ما قبله ليمكن اختزال »البلاد«، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، بشخصه الكريم!
الجماهير؟! أمرها هين… فالمخابرات تأتي بها من منازلها، ويمكن سد النقص بالموظفين والأجراء والعسكر (بلباس مدني)… والتلفزيون ساحر مدهش يحول الزور والتزوير الى صور مرئية تدحض اي اتهام بنقص الشعبية وبالتالي بنقص الالهام والقدرة على تحقيق المعجزات في شخص البطل الذي جاء بعد طول انتظار.
ثم ان نموذجاً جديداً وفريداً في بابه جاءت به ثورة ايران الاسلامية قبل 22 عاماً… وبهذا انفتح الباب المرصود امام رجال الدين، هؤلاء الذين يستطيعون ان يهزموا القوة بالآيات القرآنية، وان ينتصروا على الطواغيت بالايمان مجرداً ومطهراً.
القومية قيد للمطلق اما الدين فلا حدود لتأثيره في أتباعه المخلصين او في من تمكن هدايتهم من الضالين والمشركين وعبدة الأوثان.
قبل ذلك وبعده فأسامة بن لادن هو ابن الثراء الفاحش، لا يحتاج ان يمد يده الى غيره، بل هو قادر ان يعطي من يشاء بلا حساب.
انه نموذج للبطل الضد، كما يفترض المنطق. انه الآتي من الدين لدحض القومية والوطنية، وانه الآتي من الثراء لدحض الشيوعية والاشتراكية باسم الواهب، المانح، الرزاق، الكريم، الرحمن، الرحيم، المعطي، الهادي والجبار على الجبابرة وماحق الطواغيت والأبالسة الذين يستكبرون.
من رحم الاصولية القاسية ولد، وفي ظل تعاليمها التي تحاول ان تستعيد طهارة الايام الاولى للدعوة، نشأ محاصراً بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن، والعالم عالمان: ابيض يفيض منه الخير على كل الناس، وأسود تعيث فيه الشياطين فساداً، ولا بد من صراع طويل ودموي (قد يتخذ من شعائر الجهاد سلاحا) للانتصار وإقامة النعيم الارضي للملائكة المطهرين بعد القضاء على المفسدين في الأرض.
وها هي القدرة الالهية قد سخّرت لنا هذه المبتكرات والاكتشافات العلمية وهذه الثورة في عالم الاتصالات والمواصلات، فأسقطت المسافات، وحجّمت الدنيا بحيث يمكن نشر الدعوة والتبشير بها، والاقتصاص من الظالمين بغير تعب، وقبل ان يرتد إليك طرفك.
فضلاً عن ان هذا العالم يحفل بأنواع من الرفاه والمتع والمباذل ما لم يبلغه خيال ابي نواس ولم يتنعم بمثله هارون الرشيد.
ان اسامة بن لادن هو النسخة المعدلة من »جهيمان«.
جهيمان اراد تدمير العصر للخلاص من الكفر، اما اسامة فقد حاول توظيف العصر لتدمير اهل الكفر وديارهم التي ملأها الشر.
ربما لهذا، وفي محاولة للانسجام مع أفكاره، اختار هذا المليونير ابن الملياردير واحداً من افقر بلاد الدنيا، وذهب للعيش في كنف شعب لم يذق طعم الشبع منذ دهور، وكان آخر عهده بالعلم والدين وتطورات الحياة ما وصله عبر جيش الفتح قبل ألف وأربعمئة سنة.
لكن لهذه المفارقة وجهها الآخر: فأسامة بن لادن هو ابن العداء المطلق للشيوعية باعتبارها الكفر المطلق… وهو عداء قاده الى العمل تحت راية »عدو العدو«، اي المخابرات المركزية الاميركية.
ولقد احتاج اسامة بن لادن بضع سنوات من التجارب القاسية ليكتشف ان الكفر الرأسمالي ليس أقل ظلما للناس من الكفر الشيوعي، وليس أقل بعدا عن الاسلام المتطهر الذي ولد هو من رحمه.
ليس هو تشي غيفارا بالتأكيد، ولا هو تشيه مينه، لا هو ماوتسي تونغ ولا جمال عبد الناصر. لا هو من القرامطة ولا هو من حملة شهادة الحسين بن علي. لا هو عبد الكريم الخطابي ولا هو عبد القادر الجزائري. لا هو روبسبيير ولا هو نابليون. لا هو كرومويل ولا هو كالفن او غيره من ابطال الاصلاح الديني في المسيحية.
قبل ذلك وبعد ذلك فإن أسامة بن لادن الحضرمي الأصل، عربي حتى العظم، ولكنه »تجاوز« عروبته إلى الإسلام مباشرة، وربما لهذا لا يعنيه من فلسطين هويتها القومية، ولا حقوق شعبها في تقرير مصيره فوق أرضها، بل يعنيه أولاً وأخيراً المسجد الأقصى.
ولعله في غمرة هذا الانشغال بمصير أولى القبلتين وثالث الحرمين قد نسي أو أُنسي اسم المحتل: إسرائيل.
ربما لهذا فإن استذكاره المتأخر لفلسطين، التي لم تكن بين همومه، قد جاء خلواً من تحديد طبيعة الجريمة وهوية الجاني… الملك المتوَّج لإرهاب الدولة في العالم أجمع!
إنه نموذج للثائر التائه: الثائر البلا أرض! فلا في »جزيرة محمد« تبقّى له مكان، ولا في بلاد الكفر يريد الحياة لنفسه أو لغيره، والسماء بعيدة جداً… ثم إنها مشغولة كلياً بطائرات الموت الأميركية التي »تغطي« المساعدات الغذائية التي ترسل للموتى الأفغان!
انه مزيج أشوه من سلسلة عجيبة من التناقضات، فضحت عالم القرن الاول من الألفية الثالثة، اذ كشفت ان الانسان يعيش خارجه لا داخله الذي تحكمه القوة.
وفي امتحان القوة سقط القسم الالهي وضاع وسط هدير الطائرات القلاع والصواريخ التي لا يوقفها الايمان…
وانتصر مخلوق مشوه آخر، ليست له ملامح البطل ولو بشكل كاوبوي اسمه جورج بوش!
محمود كامل والدربند
برغم ان الموت لا يستأذن ولا يبلغ مسبقا بمواعيده، الا انه غالبا ما يفاجئك ويصدمك، لا سيما متى قاربك باقتحامه بيت صديق او مكتب رفيق عزيز عرفته ممتلئا حيوية، يضخ الامل في محيطه، وينثر البهجة بين معارفه، ويخوض معارك منتصرة ضد موجات اليأس والاحباط التي تداهم احيانا المقبلين على الحياة فتخيّب حسن ظنهم بها.
محمود كامل؟!
المفاجأة صاعقة، ولا معنى لان تردد، اخيرا، وقد وصلك الخبر: كيف، ومتى، وأين؟! ثم ان تستدرك معاتبا نفسك لانك لم تنتبه الى »غيابه« في الشهور القليلة الماضية، وان هذا »الغياب« لم يشغلك كثيرا لانك اعتدت من »محمود« ان يغيّب نفسه عنك وعن الآخرين لفترات، ثم يظهر فجأة ليصحّح او يعدّل آخر تعليق ساخر كنت سمعته منه في آخر لقاء، قبل ان تشرق على وجهه الطفولي تلك الابتسامة الملخّصة لمجمل مواقفه الاعتراضية التي يعرف جيدا انها لن تنفع في اكثر من تفريج كربته… ولو الى حين!
محمود كامل، والبيت الدافئ في دمشق، حيث يمنع دخول النفاق والمنافقين وثقلاء الدم والكتبة والفريسيين، ليحل ذلك الجو الوادع من الانس والقلق المشروع والمناقشات الصاخبة التي تجمع الاضداد من المهمومين بالغد، فيعلو الصياح ويضيع كثير من المعنى عبر مقاطعة الكل للكل، فاذا الحوار مبتور تارة بالخوف (من الافكار!!)، وتارة بالتعصب، وتارة بالعبثية التي ترى ان ما كتب قد كتب، وأن ليس الكلام في ما هو قائم الا لغو لا طائل تحته.
لماذا يلح عليّ طيف سعد الله ونوس وانا احاول استجماع صورة محمود كامل وأيام كانت لنا احلام نراها قريبة حتى لنكاد نلامسها بأطراف الاصابع؟!
محمود كامل ولقاءات متقطعة ولكنها سرعان ما تنتظم في سياقها والقاهرة هي الامة، والصحافي النبيه محاصر بقائمة الممنوعات وضرورة التنبه الى ان عليه ان يعرف، اما الكتابة فأمر آخر، لان الموقف الرسمي لا يعبر عنه بالوقائع والحقائق، وبالتالي فعليه الا يذهب بعيدا في القول، ويا حبذا لو انه سأل ولم يجب على اسئلة غيره، فان كان لا بد من الاجابة فهو »حريص« لا يحتاج الى من يوصيه خيرا… هذا اذا كان لا مفر من الكلام!
محمود كامل طهران حيث كان الصحافي قد تلاشى كمهني، وان استمر يسأل ويسأل ولا يتعب، لانه يريد ان يعرف وليس لانه يريد ان »ينشر« ولما رأى ان عدم إلمامه باللغة يقيم حواجز بينه وبين المعرفة أكب على اللغة الفارسية يدرسها لكي يلغي دور الوسيط بين عقله وعاطفته، بين واجبه المهني ووعيه السياسي ودوره القومي.
وحين التقينا بالمصادفة بادرني قبل ان اسأل: لا عتاب. قم بنا الى الدربند. انه احد اظرف الاماكن وأغربها… مثل واقعنا السياسي ارتفاع ولا سمو، مياه كثيرة والعطش يقتل الناس، منظر جميل مغلق بالشادور. الماء والخضراء ولا وجوه حسنة إلا عبر شبابيك الشادورات التي كثيرا ما تكون خادعة!
على امتداد اربعين سنة من العمل والوظيفة »شبه الرسمية«، رفض محمود كامل ان يكون موظفاً.
ولقد ظل محمود يبتلع ألمه، سواء في حياته الشخصية، او في حياته المهنية، حتى عجزت روحه عن تحمل المزيد، فقرر بهدوء واختار موعد رحيله المبكر.
تهويمات
اتنزه بين عينيك حتى يجيء موسم المطر.
ويأخذني إليك الشعر والنغم والليل فتكتبين على وجهي بشعاع الشمس، وأعشى فلا أراك ولا أرى الطريق.
بعيدة على قرب، قريبة على بعد، ورائحة الحريق تلغي المسافة.
أكتب بالرماد على الزجاج قصائد تمحوها التنهدات،
وبلفتة واحدة تطلقين قطيعاً من الأفراس البرية فتحطم الزجاج وتنثر الرماد حكاية مبتورة الخاتمة.
وتكتبينني بصمت ما بين الصوتين، فتنغلق الدائرة على عينيك وهما تهمسان بذلك الذي لا يقال الا لواحد.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا معايير في الحب، وليست تهمه الوسامة او الخشونة. متى احببت غدوت رقيقاً. الحب ينزع عن لغتك الجلافة او الحيرة الباردة. مرة قال لي حبيبي: انه لا يحب صوته الا عندما يتحدث إليّ. يحس ان الحب قد منحه الطلاوة والندى فيغدو رقيقاً.
الحب يُصلح من شكلك ما فسد، ويمنحك لغة جديدة بحروف لم تكن تحسن تهجئتها!.