طلال سلمان

هوامش

عن أحزاب الطرب وتعصّبها.. العنصري!
ليس جديدا ان يتحزّب الناس في الغناء والموسيقى كما يتحزّبون في السياسة وفي الرياضة وهي ثالثة الأثافي كما يقولون!
المنطقي ان يتحزبوا فينقسموا حسب تلاوين الذائقة والمزاج، وحسب مستوى الثقافة والمعرفة والمتابعة… بل وأن يصل بهم التحزّب إلى حد الخصومة والتنابز بالألقاب، والتشهير المتبادل، والتشاتم احيانا والتخريب المتعمد للحفلات، لا سيما الخاصة والحميمة منها.
من قبل كان هناك حزب الكلثوميين نسبة لأم كلثوم او الست، وحزب الاسمهانيين نسبة لاسمهان، وحزب ليلى مراد، ثم حزب شادية مقابل حزب نجاة الصغيرة، وكانت هناك معسكرات متواجهة بين الوهابيين اي متذوقي محمد عبد الوهاب والفريديين من أتباع فريد الاطرش ثم جاء عبد الحليم حافظ فنشأ الحزب الثالث من داخل الحزبين ومن خارجهما الخ.
وفي لبنان كان هناك حزب صباح وحزب وديع الصافي وحزب نجاح سلام والحزب »السري« لفيلمون وهبي ونصري شمس الدين.
اما الحزب الاكبر فقد كان عنوانه الرحابنة وتميمته فيروز.
وجرياً على تقاليد الانقسامات اللبنانية التي تتدرج ما بين الطائفية والسياسية والكيانية صار حزب الرحابنة الفيروزي هو جبهة المقاومة للاجتياح الفني المصري… فنصبت فيروز المعادل الضد لأم كلثوم، ولسائر المطربات المصريات بمن فيهن أسمهان وفايزة أحمد وكلتاهما سوريتا الأصل، وفي بعض الاحاديث ان فايزة لبنانية ومن صيدا.
من طرائف الصراعات الحزبية أكتفي بواقعة كنت شاهدا عليها في مدينة الرباط في المغرب (الاقصى).
كنا مجموعة من الصحافيين والاصدقاء نسهر في مطعم يقدم برنامجا غنائيا. وكانت الى جانبنا طاولة تضم عشر نساء ورجلين اثنين.
وصعدت الى المسرح مطربة مغربية، فأدّت بعض الفولكلور المغربي، ثم توجهت الى الجمهور تسأله ماذا يحب ان يسمع، وتعالت الاصوات بأسماء شتى: الست، فيروز، عبد الوهاب، فريد، حليم، حليم حليم.
وسط الضوضاء ارتفع الصراخ قريبا جدا منا، والتفتنا الى الطاولة المجاورة فاذا الساهرات قد اشتبكن في معركة عنيفة استخدمت فيها كل الاسلحة النسائية من الشعر وحتى أخمص القدم، وكان السبب فيها اختلاف الذوق وبالتالي اختلاف الطلبات… ثم تبيّن ان بين الساهرات جزائريتين فاتخذ الصدام منحى عقائديا أشرس إذ صار الكيان معلقا على الانتصار، ومعه استعادة الصحراء الغربية وتدمير جبهة البوليزاريو التي رعتها وحمتها وسلحتها وموّلتها الجزائر!
نعود الى لبنان وأحزابه الفنية فنقول: انها هنا ايضا كانت تتضمن الكثير من السياسة. وفي فترة »الانفصال« الذي أطاح بدولة الوحدة (بين مصر وسوريا) حارب الانفصاليون السوريون عبد الناصر بالأغاني اللبنانية، وقدموا المطربين والمطربات اللبنانيين بديلا من اهل الطرب المصريين، وكانت لفيروز (وما تزال) الطليعة، وليس سرا ان دمشق كانت الحاضنة الاولى للرحابنة وأعمالهم.
لماذا هذه المقدمة الطويلة الى حد الإملال؟!
.. لأعترف انني أخطأت فخسرت فرصة الاستمتاع والانسجام والسفر مع صوت فيروز الدافئ ومع موسيقى زياد الرحباني المتدفقة طربا ونشوة وهي تؤرجحك بين السيمفونية وهيصات الغجر.
ربما لأنني توقفت بعيني، دون عقلي، أمام صحف الصباح، ذلك السبت، وتهت في اصقاعها وأنا أتابع »تغطيتها« لحفلة زياد الفيروزية في بيت الدين. حاولت ان اقرأ فتهاطلت عليّ سيول الكلمات الفخمة، المطرزة، المنمنمة، المتدفقة بغير سياق، المثقلة بإسقاطات تتجاوز المعنى والزمان والمكان والمناسبة، والمندفعة مع التحدي المتوهم »للخوارج« الذين قد يأبون او يستكبرون مثل هذا »التأليه« لمخلوقات من لحم ودم، الى حد التسفيه المسبق لكل رأي مخالف في الغناء والموسيقى وشروط الإطراب!
ربما لأنني لو ما قرأت لكنت استمتعت بتلك الحفلة التي انتظرها الناس بلهفة فرحين باللقاء المتجدد مع فيروز 2 المستجيبة لشبابية نجلها زياد، والمقتحمة بكلماته وموسيقاه صفوف اجيال جديدة لم تكن لتصل اليها لو انها ظلت تغني لجيلنا نحن العواجيز!
ما هذا »التصنيم«؟!
ما هذا التوافق العجيب في أذواق هؤلاء الآتين من مصادر ثقافية متعددة ومتباينة الى حد التناقض؟
ما هذه التوصيفات السماوية التي تُخرج فيروز من البشر لتدخلها في صنف ثالث يكاد ينكر عليها انسانيتها؟
ما هذا الهذر الذي لا علاقة له بالموسيقى او بالغناء او بالمسرح او بالفن عموما، والذي ينضح تعصبا يكاد يصل الى حد العنصرية، بينما موضوع الحديث حفلة في مهرجانات الصيف، ليست بالتأكيد افضل ما قدمته فيروز ولا أكمل ما يمكن ان تقدمه، وليست ذروة الابداع عند الموهبة التي تفاجئك دائما بالأجمل والاطرف والاغنى من الكلمات والالحان، زياد الرحباني؟!
هل تكبر فيروز اذا أخرجناها من الناس ونسبناها الى الملائكة، واذا بعثنا بها سفيرة الى النجوم وبقينا نحن تحت بلا طرب وبلا مطربة متميزة وذات صوت دافئ وتراث أغنى وجداننا وأمتع جيلين او ثلاثة منا مثل فيروز؟!

بهجاتوس الشهابي
ما علينا… كنت أقصد ان أقول شيئا آخر، فلاختم طالما انني تهت في بيداء العصبيات.. الغنائية!
لم أكن، عند نهاية الحفل الموسيقي، متوازنا بما يكفي للحكم على ما سمعت من غناء السيدة فيروز وألحان زياد الرحباني، وما رأيت من تشكيلات فنية للمايسترو الظريف… الذي ظل »قائدا« ورفض ان يتحول الى كورس يقوده الجمهور برغباته او بنزواته.
كنت في حالة اضطراب عاطفي يشدني الشجن الى الغائبين اللذين كان لا بد ان تستحضرهما فيروز، ومعهما دفء البيت الصغير كمتحف والفسيح كحاضنة للحب والفنون والابداع رسما ونحتا وموسيقى وغناء وروايات ودواوين شعر وعواطف منثورة وعرائس ناطقة في صمتها، فضلا عن القفشات والنكات والتوريات والمفارقات التي تستولد ضحكا كالبكاء.
ما اقرب المسافة بين بيت الدين في الشوف والمنيل في القاهرة اذا اعتمدت طريق بهجت بدر الممتد رقيقا كالروح، وفسيحا ومتسامحا مثلهما!
فجأة تبدى لي، قبل المسرح وفوقه وخلفه وأمامه، »بهجاتوس« في لباس الامير بشير الثاني الكبير، وقد ارتدى لحيته الطويلة وقفطانه وعينيه القاسيتين وطربوشه النمساوي ذا الشرابة… لا، ليس الامر بهذا الوضوح: لعله المير بشير وقد استعار بعض ملامح بهجاتوس القائد المعلم، المدني العسكري، العامل الفلاح، الغالب القاهر، المنتج المهلك، الجبار الواهب المانع، المبدع المروِّع والد كل ابنائنا، وزوج كل نسائنا، ظل الله على الأرض وفي السموات والى دهر الداهرين.
وضعت بين الفيروزي الاول، عميد الحزب الرحباني في أرض الكنانة وكل ارض، وبين مزيج الوهم والحقيقة في شخصية بهجاتوس الشهابي الاول، او بشير البهجاتوسي الثاني، الذي اكتشفت ان نسبيهما الاصلي واحد يرقى الى اول دكتاتورية في التاريخ ويمتد الى رحم الغد عبر ذريتهما الصالحة التي تتولانا برعاية الاب الصالح في مختلف ديارنا التي تنعم بأعلى درجات الحرية والديموقراطية والعدالة وحقوق الانسان.
كان الصوت يسافر جنوباً، وكان القمر الذي سيغدو بدراً يتجه غربا، وكانت فيروز تحملنا الى كل الجهات وتجمعنا بكل من احببنا ونحب.
وسمعت بهجت يهتف: اسمع يا بني آدم، كده يكون المغنى والا بلاش!!

السباحة خارج البحر
حين خرج من الباب الى شرفة الرمل سقطت منه عيناه قبل ان تبلغا البحر: كانت الجميلة قد تمددت بطولها عند آخر مساحة الظل، منشغلة بنفسها عن ثرثرة امها وصديقتها الاربعينية التي كانت تطاردها بالملاحظات بينما هي تناقش امها وتحادث ثالثة على الهاتف الخلوي، من دون ان تترك واحداً من رواد الشط يفلت من عينيها الفاحصتين.
تجمد عند العتبة، ثم تهاوى فوق الكرسي المحروس جيداً بسوء الظن مرتضياً ان يكتفي بمتعة النظر، مع تجنب الجدل حول اي موضوع ولو اتصل بحركة الموج.
من خلف نظارتيه السوداوين لمح طيف ابتسامة خفيفة على ثغر الجميلة: »انها تسخر مني قطعا. تدرك انني تحت حصار شديد، وانها تملك مساحة حرة للعبث ولا من يحاسب«.
وبالفعل كان الوضع مثالياً بالنسبة إليها: تستطيع ان تستعرض جسدها العاري الا من قطعتي قماش مزركشتين، تحت بصره، مستمتعة بعجزه عن الحركة بل عن التنفس، هي في القلعة والحرس شاكي السلاح من حولها ومن حوله، ولا مجال لاختراق طوق الامان.
رفع نظارتيه ودعك عينيه قبل ان ينتبه الى ان ابتسامتها قد اتسعت: البحر من امامكم والأعداء يحاصرونكم من كل ناحية والباب مفتوح للهزيمة.
مدت يدها الى الصدر، لم يكن الخيط الرفيع لثوب البحر الا ذريعة، كانت انفراجة ما بين النهدين تتسع وتضيق مع حركتها مستدرجة المزيد من العيون الى مسرح الاستعراض… وبعد حين مدت يدها الى اسفل البطن تصلح انطباق الثوب على اللحم.
جاءت صبيتان صديقتان فتمددتا الى جانبها على الرمل الذي كان قد عب من حرارة الشمس ما يكفي. فجأة وفي لحظة واحدة وبغير تخطيط او استعداد مسبق، اشتدت المنافسة بين الامهات والصبايا. لم يكن ثمة اكثر من نظرة عين. لكن عين الرجل بألف، وها قد تم الانفراد برجل محاصر، لا هو يملك ان يتقدم ولا هن يردن اكثر من الاستمتاع بانبهاره بجمالهن وبحرجه الذي غطى وجهه بالماء البارد!
كانت السيدتان جميلتين ورشيقتين، لكن الصبايا كن ساحرات.
وحتى لا يزوغ البصر، او يسقط الحجاب فينكشف السر الذي لا سر فيه، ادار الرجل عينيه في محجريهما، ثم ارسلهما نحو البحر ليستحما بالزبد فتنطفئ الرغبة وتنسحب مخلية المساحة للفضول.
واما الموج فقد انكسر عند الشاطئ بحدة، ناثراً شلالات من رذاذه على الاماني والحسرات والثرثرات المكتومة.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
لا حب من خارج العقل. والحكم من الخارج هو في الغالب الاعم غير صحيح وظالم. يقول لي حبيبي: كما ان للآخرين عيونا غير عينيك فلهم عقولهم المختلفة عن عقلك. اسأل المحب فتسمع منه ما لم يخطر لك ببال… والقلب يسكن في العقل، وهو على قياسه لا اصغر ولا اكبر.

Exit mobile version