طلال سلمان

هوامش

مشروع حوار بين جيلين لا يتحاوران
حين التقاهم خارج القاعة تبادلوا نظرات الاستكشاف والتفحص بشيء من الاسترابة: كان يسائل نفسه عما اذا كان سيستطيع »الوصول« اليهم، بحيث ينتظم »الحوار« فلا يكون »شجاراً« أو يكون على طريقة »التجنيد الإجباري«، فالمستمع بالأمر لا يحاور لأنه في الاصل لم يسمع.
المسافة شاسعة بينه وبينهم كما تدل »المظاهر«. ولا بد من جهد كبير لردم الهوة لكي يصل الصوت ويصل المعنى، في الاتجاهين: ابناؤنا ليسوا لنا، أم اننا لسنا لأبنائنا؟!
مشى في قلب علامات الاستفهام المتقافزة من عيون الفتية، والتي يشك في انه يملك الاجوبة المطلوبة عنها، خصوصا أنه لطالما هرب من مثلها، او بالأحرى من الاجوبة الحقيقية عنها، لأنها تفتح المزيد من الجراح ومصادر القلق.
أين اللقاء بين جيل آباء الحرب وجيل المولودين فيها المدموغين بعارها، الممسوخة مفاهيمهم لاختلال نظام القيم وتناقض التفاسير والحيثيات حول الأسباب والنتائج؟! هل الآباء سفاحون والابناء ضحاياهم ام الكل ضحايا؟ وهل أبطال الحرب »مستوردون« من الخارج ام انهم من أبناء هذا الشعب اجتاحهم الهوس فأخذهم الى الغلط، او ضربتهم حمى الطائفية المموهة للمصالح فأخذتهم الى تحقيق أهداف خصومهم؟!
* * *
دخل القاعة التي احتشد فيها الفتية متهيباً، تحفّ به عيونهم، وقد غلب الفضول فيها على الضيق الذي يستولده »الأمر بالاحتشاد« للاستماع الى »أستاذ« اضافي يحاضر فيهم فيزيد على وعظ وعّاظهم إرشادا، ويرشقهم بسلسلة من النصائح المضجرة التي يهربون منها في البيت فيجدونها تتربص بهم في المدرسة.
عندما ارتقى الدرجات القليلة الى المنصة، وجلس من خلف مكبر الصوت، استشعر فرحا داخليا عميقا لتوفر مثل هذه الفرصة لمناقشة الذات، لكن الفرح سرعان ما أخلي المكان لغصة تمسك بعنقه: ماذا يملك فعلا لهؤلاء المسدودة عليهم الطريق الى المستقبل بعلامات الاستفهام او بسدود اليأس من جدوى الدراسة والاستعداد لمباشرة حياتهم العملية؟!
التهذيب لا يلغي المصارحة، وللمجاملة حدود يذهب بها القلق، والاجوبة الناقصة تستفز هؤلاء الذين يشعرون بأن الأرض تهرب من تحت أقدامهم، فيصبحون معلقين في فضاء السؤال المفتوح على المجهول.
يزعجه، بداية، ان يكون »فوق«، خلف منصة الخطابة، وان يكونوا »تحت«، وبينه وبينهم اضافة الى فارق العمر فاصل اختلاف المنظور والمنطق، والأحكام المسبقة. يتلجلج لسانه بالكلمات الحذرة فكيف يطمئنهم وهم يعرفون مثله، حتى بغير أرقام، أن لا حل قريبا وناجعا لهذه الظروف الصعبة اقتصاديا، والمبلبلة سياسيا، والملتبسة فكريا وثقافيا. اذ نودّعهم بعيون دامعة وهم يهجرون بلادهم التي هي بأمسّ الحاجة إليهم لكي يذهبوا فيسهموا في بناء بلاد ليست لهم ولن تكون، او نسعى بكل جهد لكي نوفر لهم جنسيات اجنبية كبوليصة تأمين ضد الحرب الاهلية، وضد الفقر والعوز، وضد الموت على أبواب المستشفيات التي لا تعالج المريض إلا إذا استوفت الأجر الباهظ مقدَّما، وبالدولار؟!
كيف نلومهم وهم يفرون من جحيم الانقسام الطائفي والتصادم المذهبي، سعيا وراء فرصة التحصيل الجامعي بتكلفة مقبولة ان لم يكن مجانا، بينما هم يشهدون الجامعة الوطنية تنشق على نفسها وتتحول فروعها الى معسكرات متواجهة، بدلا من ان تكون اداة توحيد وصهر لشباب الفقر الواحد والأمل الواحد، اضافة الى كونها حاضنة طموحاتهم جميعا الى التحصيل العالي واقتحام عوالم الثورات العلمية الهائلة التي تعيد صوغ الكون؟!
* * *
تقف الصبية ذات الستة عشر ربيعا لتسأل بنبرة التحدي: هل تجرؤون على قول الحقيقة؟! هل كل ما تنشره الصحافة صحيح، ام انكم تخافون فتخفون الصح ولا تنشرون إلا ما هو رسمي، اي غير دقيق وغير أمين؟ ان الإعلام في لبنان يسمم عقولنا. الأخبار للطوائف والطوائفيين، الاهتمام بالتفاصيل التي لا تعنينا، بل هي تزوّر علينا الحقائق، اذ تعظّم التافه وتتفّه المهم. انه يغرقنا في ما يفرّق بيننا. انه يكرس الزعامات والاقطاعات الطائفية والمذهبية ويلغي الشعب. انه يغطي على الفضائح والموبقات التي يرتكبها اصحاب النفوذ!
ويقف الفتى المهدَّد في مستقبله ليسأل: ماذا أبقيتم لنا؟! ان جيلكم لم يورثنا إلا مآسي الحرب الاهلية، وهو لا يفتأ الآن ينفخ في نارها، كأنه لا يستطيع العيش خارجها!
يصرخ فتى من الصفوف الخلفية: كلهم منافقون!
يُسكته استاذه، لكن »انشراح« رفاقه بهتافه يؤكد انه يعبّر عنهم. لنا فسحة للحب؟! تقولون ان الاغاني التي تقتحم آذاننا هابطة المستوى، وان ثيابنا مجافية للذوق، وان ما نرغب فيه من الاطعمة ضد الصحة وضد البيت. فهل انتبهتم الى ان هذه نتائج »لإنجازاتكم« الباهرة. لم نسمع غير دوي القذائف وتفجير السيارات المفخخة وانهيارات العمارات وعويل الثكالى وصراخ الاطفال المتروكين، وأوامركم بأن نخرس حتى لا يُفتضح أمر وجودنا ولو في الملجأ؟! متى اعتنيتم بذائقتنا الموسيقية؟ متى تيسر لنا ان نستمتع بلون الورد والزنبق والياسمين؟! تشوهوننا ثم تلوموننا على ما فعلتم بنا؟!
ران الصمت لفترة، قبل ان يتدخل »الأستاذ« محاولا تخفيف الاتهامات بدفاع واهٍ عن الذات وهجوم شرس على الظروف، معلنا اختتام الحوار الذي لمّا يبدأ!

جوزيف عون: تواطؤ الشريك!
تكمن الفجيعة في ورقة بيضاء، عليها بضعة سطور على الآلة الكاتب، ومشبوكة معها صورة بحجم البطاقة البريدية.
ابتسمْ لصورة الصديق القديم الذي بقي على تباعد مواعيد اللقاء مقيما على وده، يهتف بين حين وآخر »للاطمئنان فقط«، ثم يعود الى صمت البعد ودوامة المشاغل، او بالدقة: دوامة البحث عما يشغل الفنان المسافر دائما في طلب الأجمل.
همّ بالقراءة متوهما انها رسالة من »الشريك«: ألم تأخذهما المغامرة مع ثالثهما »شارل« الى إنشاء »شركة« تجارية، هم الثلاثة الذين يقفون على باب الرقم ويخافون من اقتحامه، فما ان تم تسجيلها واحتفلوا بافتتاح مكاتبها حتى سُدت الطريق اليها بالموت: كان ميلادها في لحظة تفجر لبنان بأزماته المحلية والمستوردة.
سقط على كرسيه كحجر: جوزف عون!
طاردت الذكريات الخبر الأسود حتى طردته، وأحلت صورة جوزف عون المخرج الصحافي والفنان وهو يبدع أغلفة مميزة لمجلة »الصياد« موفرا لها فرصة الانتقال الى العصر، و»يتواطأ« معه على أفكار الموضوعات وتصاميم الأغلفة »لتهريبها« في غفلة من التقليديين.
ها هو جوزف عون يتواطأ عليه الآن، فيرحل بغير وداع…
مع كل شمس جديدة يغيب شريك صبا او رفيق سلاح، فتوحش الطريق ويشحب الأمل، ويثقل عليك عبء التعويض عن الذين منحوك أجمل ما فيهم ثم مضوا الى البعيد.
هيا أكملْ ما بدأتَ فيه: الكل ينتظر. أنت الآن »هم«. أما الحزن فليكن حبرك وأنت تكتب الاناشيد لفرح الحياة.

قصص مبتورة
قال لصديقه: تتملكني الحسرة وأنا أتأمل أفواج النساء، صبايا غريرات او سيدات مكتملات النضوج، يخطرن من حولي ويزحمن طريقي ويزغن بصري، ثم لا أستطيع الوصول الى اي منهن!
رد صديقه بلا غرور: أما أنا فأشفق عليهن جميعا، لأن معظمهن ان لم يكن كلهن لن يستطعن الوصول إليّ!
* * *
قال متباهيا: كم تعرف من مذيعات التلفزة، الفضائيات منها والارضية؟! أما أنا فأعرف معظمهن، وأعرف عنهن ما لا يعرفه أحد!
وحين أبدى الصديق شيئا من العجب او الاستغراب، عاد يقول: قد تستغرب، ولكنني أقرأ السيرة الجنسية لكل مذيعة من خلال حركة شفتيها. البعض يذهب الى العيون، اما أنا فأعتبر الشفتين مكمن السر.
وبينما كان الصديق يفغر فمه دهشة، كان صاحبه يضيف بكثير من الزهو: صدِّقْ او لا تصدق، ولكن عندي عشرات العشيقات.
* * *
قالت: تتحدث إليّ ولا تراني! لم أسمع منك مرة كلمة إعجاب بجسدي. بالكاد تشير الى أناقتي، ثم تباشر حديثا عن خارجي… وتنسى المرأة.
غمره الخجل، إذ انتبه الى انه، ايضا، ينسى الرجل!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
كيف لإنسان تحيطه الطبيعة بكل مصادر جمالها البهي، وتزغرد في أذنيه ضحكات الأطفال، وتسكب عليه عينا أمه قطر ندى حنانها، ان يعرف الكراهية.. كيف يتوه عن حبيبه فيضلَّ الطريق؟! لو كان حبيبي في آخر الارض لوصلتُ إليه بلا دليل. روحي دليلي وأنفاسه مرشدي، أما الجمال فآية الوصول.

Exit mobile version