اللبنانيون والتيه بين العنصرية والتقسيم وهجرة الذات
»لبنان على حافة حرب أهلية جديدة…«
»لم تعد الحياة تطاق في هذا البلد الذي كان آية في الجمال…«
»… أما نحن فقد عاش جيلنا عمره بالحلوة والمرة، ولكن ماذا عن أبنائنا.. أين يعيشون، وكيف يعيشون؟ إن أحداً منهم لا يفكر بمستقبله هنا. كلهم يريد السفر إلى أي مكان في الدنيا، ولو بلا ضمانات من أي نوع، لم يعد التفكير بمستقبل أفضل هو الدافع، صار الهرب من القرف، من الخوف، من شبح الحرب المقبلة إضافة إلى البطالة وانعدام فرص العمل، من ضيق الرزق، من بوار الزراعة، من ركود التجارة، من فساد الإدارة، من تهافت صورة الدولة…«.
مثل هذه التعابير الخائفة والمخيفة تكاد تسمعها حيث حللت: في منتدى عام، أو في سهرة بيتية، في لقاء مع مسؤولين رسميين أو مع خبراء اقتصاديين، أو مع دبلوماسيين أجانب.
ما لنا و»للعامة« من الناس الطبيعيين والمتهمين دائماً بأنهم يطلقون الكلام جزافاً، أو أنهم لا يختارون كلماتهم بدقة فيصيرون أقرب إلى »الغوغاء« منهم إلى أصحاب الرأي، الذين يعبّرون نظرياً عن اتجاهات الرأي العام في البلاد، أي بلاد.
لنحصر اهتمامنا في ما يقوله أصحاب الحق في القول، أولئك الذين لا ينطقون عن الهوى، ولا يدارون فيطلقون آراءهم صريحة وإن حرصوا على عدم التجريح أو الإساءة إلى المختلفين عنهم ومعهم في التشخيص أو في الاستنتاج ومن ثم في وصف العلاج الشافي:
إنه مناخ حرب! ولا أريد أن يكون أبنائي ضحايا حرب أهلية جديدة. إننا نربي أولادنا ونعلّمهم ونهيّئهم لبناء المستقبل الأفضل، ثم نعمل على ترحيلهم إلى بلاد الآخرين. نحن هنا نعيش في انتظار الموت من دونهم، وهم هناك يبنون بلاداً ليست لهم!
إن الجيل الجديد أكثر تطرفاً لأنه أقل تسيّساً. لقد نشأ في عراء الصقيع الطائفي والمذهبي. ليست له أية علاقة بالعمل السياسي، ولا يعرف شيئاً عن الأحزاب أو عن النقابات. حتى في جامعته لم تكن ثمة هيئة نقابية تدرّبه على شيء من العمل الجماعي. أما الماضي فمقابر وخيبات وفواجع. لقد نمت ذاكرته في الملاجئ، وما حفظته هو القليل مما رآه بعينيه والكثير مما سمعه منا من حكايات الخطف والقتل على الهوية والحواجز الطيارة. خلفه جهنم، وحاضره بلا أمل، ومستقبله خارج أمانيه.
كنا قد افترضنا أن حروبنا قد حسمت موضوع الهوية والخلاف الأبدي على انتمائنا وهل نحن عرب أم فينيقيون أم من كوكب آخر غير الأرض. لعل الحل الذي ابتدع من أجل إسرائيل يلائمنا فنحسب »شرق أوسطيين«، مع أن بعضنا يتمنى، لو أمكنه، إنكار علاقته بالشرق كله!
إن المناخ السائد يأخذ الناس إلى العنصرية. فحملات الكراهية والتحريض تتواصل على مدار الساعة وتشمل مختلف الشرائح الاجتماعية. ذكريات الأهل عن »الفلسطيني« الذي هيمن فطغى، وحديث الساعة عن »السوري« الذي تحكّم فتجبّر. كان الفلسطينيون مصدر كل شر وأي شر. كسروا التوازن، حرّضوا وفتنوا وخرّبوا علاقات الأخوّة. اشتروا النفوس والنفوذ. أفسدوا الإدارة وهدموا الدولة وشوّهوا نفسية اللبنانيين الأبرياء والسذج كما الأطفال! الآن الدور على السوري. وبين الإثنين يتهم كل لبناني اللبناني الآخر بالعنصرية!
دائماً يأتينا العيب، نحن الملائكة، من خارجنا. ويفسدنا بينما نحن نجاهد للحفاظ على طهارتنا. نحن كمثل الفتاة الريفية الساذجة في الأفلام المصرية، يغويها الشيطان فيسقيها »حاجة صفرا« ويقضي منها وطره ثم يتركها للفضيحة!
نحن الأطهار، الأبرار، الأخيار وغيرنا الأشرار… والشر ينتصر دائماً!
* * *
هذه نماذج من مسامرات اللبنانيين هذه الأيام.
لا شيء يمنع أن يرددوا مثلها وهم يساومون وكيل السيارات الفخمة على سعر سيارة جديدة، أو في مطعم فخم افتتح حديثاً، أو في سهرة يتشاكى السامرون فيها سوء الحال وضيق ذات اليد.
أما الدولة فلا شيء فيها صالح، ولا أحد من رجالها موضع أمل!
لا بد من التشهير بالدولة، المؤسسة الجامعة، ليمكن تبرير المنطق الطائفي الموصل إلى تزكية الانقسام فالتقسيم.
لا بد من الطعن بكل ما يجمع لكي يبرّر الانفصال.
أما السياسيون فيدعون ويتداعون إلى الحوار بينما يحتمي كل منهم برايته الطائفية، تحت ذريعة أن المصارحة هي الطريق إلى المصالحة، وأن إسقاط الطائفية لا يكون إلا بعد التشبّع بالطائفية حتى الثمالة!
ومتى انحدر الحوار من »السياسي« إلى »الطائفي« صار أشبه بخُطب الفخر التي يتبادلها المتبارزون قبيل الانخراط في المعركة التي يهدف كل منهم فيها إلى »شطب« الآخر من المعادلة والانفراد بالقرار بوصفه »الأوحد« والذي لا يقهر.
ومن يتابع »الحوار« الدائر بين الطوائفيين في لبنان بشعارات سياسية يأخذه العجب بل قد يفجع بمواطني هذا البلد الجميل والصغير الذين عرفهم أخوانهم العرب في صورتهم الأزهى والأبهى كطلائع لمثقفي الأمة في تاريخها الحديث ورواد في مجال توكيد هويتها القومية، ثم كأبطال لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، يقدمون أرواحهم رخيصة وبلا تبجح أو مباهاة في زمن اتفاقات الإذعان وقمم التواطؤ على الانتفاضة الفلسطينية.
خطر الحرب الأهلية في لبنان دليل على اعتلال الأمة العربية.
أخطر عوارض المرض في الأمة تتبدى على وجه »بنيامين«، الأصلب بين أبنائها.
بين الندم وخيبة الأمل!
قريبة على مرمى اللهاث، بعيدة حتى لا يطالها التمني.
هادئة كاليقين، بينما هو يتلعثم بكلمات الترحيب التي لا تحتاج إلى جهد ليقولها، والتي يحرص الآن على أن يختار أكثرها إيحاء فلا يكاد يخرج صوته إلا بأكثرها عادية وابتذالاً، والتي تستعين بالله أكثر مما ينبغي وأكثر مما يحتاج موقف الزائرة التي ليس في موعدها وعد ولا في غيابها هجران.
لعله اللقاء الأول، وقد باغتته طلتها فيه فأخرجته من وقاره.
يتأملها حين تتشاغل ببعض ما تحمله من ذرائع الزيارة، ثم يتشاغل عنها بالانهماك في قراءة البطاقة التي جاءت تدعوه بها إلى حفل لتكريم بعض الخالدين، حتى لا تفضحه عيناه.
كلما رفع إليها بصره وجد نفسه يبحر في عينيها الواسعتين الناعستين الواعدتين بأكثر مما يتشهى، ثم ينتبه إلى أن عليه أن يبقى حاضراً وألا تأخذه الغفلة، وألا تأخذها فيه الظنون فيكاد يتوه عن طريق العودة منها إليها.
كاد يسألها أن تغض بصرها لكي ينتظم الحوار.
وكادت تسأله عن فصاحته وقدرته على التعبير عن أفكار الآخرين هو الذي تفلت منه الكلمات مقطعة الآن فيضيع معناها.
أين الشعر؟! أين بيادر الورد التي طالما نثرها على الطرقات فصارت دليله وعنوانه؟!
ذبل الكلام بعد حين، إلا في عينيها. كانت تقول الكثير ولكن ما من مستمع. كان مشغولاً عنها بالتوهم، وكانت مشغولة عنه بخيبة الأمل.
وحين قامت لتنصرف كان الندم لغة مشتركة لكليهما.
متى انعدم اللون!
أجال عينيه في القاعة بشيء من التوجس، فلما اطمأن إلى كثافة الحشد خالط زهوَّه شيء من الحزن: كلهم رجال؟! أين المعجبات؟ أين أهل العيد؟ أين الصبايا اللواتي يطل من عيونهن الفجر بلون الورد؟!
انهمك في استقبال الوافدين والخيبة تتكاثف في صدره وتستقر في حلقه فتجعله يتلعثم ويخطئ في أسماء الخطباء الذين كانوا يتبارون في امتداحه فتتخطى عباراتهم الحدود إلى ما يقارب الرثاء!
قال في نفسه: إذا غابت المرأة انعدم اللون!
قالت له نفسه: تنهيدة واحدة من زمن العشق تملأ هذا الفراغ البارد.
أما صدى الكلمات التي كانت تقال فيه فكان أشبه بإعلان عن خواء السياسة طالما ظلت المرأة خارجها: كيف يمكن أن يصدق في خدمة الناس هذا الذي لا يعترف إلا ببعضهم، ومعظم هذا البعض من خصومه أو مخاصميه، والذي بعد كل »معركة« يذهب إلى »زوجته« مزهوّاً برجولته التي لا تتأكد إلا في غيابها؟!
المرأة في الخارج
قال بشيء من الحنق: قتلوا المرأة، أبادوها، بعدما عملوا فيها تشويهاً، وما أسهل بعد ذلك أن يشوّهوا الرجال!
لم يفهم الصديق قصده فعاد ينفث غضبه متقطعاً: صارت المرأة كلها في الخارج. لم يعد للمرأة داخل. لا أقصد الأزياء الكاشفة أو الفاضحة التي باتت تتعامل مع جسد المرأة بالقطعة، فتكشف كل الظهر وبعض الصدر، مرة، أو كل الصدر وبعض الظهر مرة أخرى، بل أقصد نمط الكلام السائد، نمط الحركة، نمط التصرفات. صارت المرأة تقوم وتجلس وتتصرف وتتكلم مثل الرجال.
مرت بهما صبية »طبيعية« في ملبسها ومشيتها ونظراتها، فقال له صديقه: أترانا نريدهن مختلفات لكي تظل قائمة بيننا مسافة التحدي، أم نخاف من التشابه لأنه يلغينا بقدر ما يلغيهن.
ورد الصديق بأسى: ليست الثياب، بل هو الزمان، لقد خرجنا منه فاتسعت بيننا مسافة الغربة، فإذا كل شيء مختلف. إنه عالم ليس لنا. فلنقنع بنعمة التأمل!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يأخذك الحب إليه بغير طلب. يجيئك الحب بغير منّة. لا تعشق نفسك فتغنيك عن غيرك، ولا تكره ذاتك فلا تستطيع أن تحب غيرك. لا تسجن الإنسان فيك بالخوف من الآخرين، ولا تدَّعِ القداسة في عالم من الشياطين. يأتيك الحب حيثما كنت. يأخذك الحب إليه في أقصى الأرض. أخرج نفسك من سجنك فتجد الحب في انتظارك.