طلال سلمان

هوامش

سعد الله ونوس وابن خلدون: المثقف نبي أو شهيد!
اختار سعد الله ونوس لنفسه الموقع الذي لا يُسقطه الموت، ولا يذهب بأحكامه مرور الزمن: انه ضمير القلم وقاضي النوايا وميزان المواقف.
قد »يتساهل« مع الحاكم، لأنه خارج نطاق الأمل والتمني… وقد يخفف أحكامه على »المحكوم« فيجد له العذر في ضيق رزقه، او نقص علمه، او قلة حيلته، ما دام وحده.
أما مع المثقف فلا عذر ولا شفاعة مع الخطأ ولا أسباب تخفيفية كالحاجة او الضعف الانساني او افتقاد النصير.
وفي معظم أعماله التي اتخذت من التاريخ وبعض »نجومه« شخصياتها، طارد سعد الله ونوس »مثقفي السلطان« فحاسبهم وحاكمهم بتهم »معاصرة«، لأن الخطأ في تقديره لا تاريخ له، خصوصا أنه قابل للتكرار، بل هو يغدو متى ارتكبه كاتب كبير او مؤرخ جليل سابقة تعتمد، وقدوة يأخذ بها اللاحقون.
المثقف، في نظر سعد الله ونوس، نبي او شهيد.
ولقد عاش سعد الله حياته موزعا بين هذين الحدين، حتى إذا جاءه أجله لم يكن قد تبقى منه غير مضبطة اتهام بحق مثقفي السلطان الذين تتبدل أسماؤهم ولا يتبدلون فإذا هم هم في كل زمان ومكان.
والمثقف، عند سعد الله ونوس، ليس »الكاتب« او »المؤرخ« او »الشاعر« فحسب، بل إنه يشمل كل من يفترض ان يكون »مستنيرا« بحكم تجربته ووضعه الاجتماعي. على هذا فالقاضي، ورجل الدين عموما، في طليعة من تسري عليهم أحكام »المثقفين«، سلبا وإيجابا، وكذلك التجار و»الأشراف« بوصفهم من »المستنيرين« بحكم انتماءاتهم الطبقية و»معارفهم« التي تشكل »عدة الشغل« والتي تجعلهم يعرفون ما لا تعرفه »العامة«، كما ان مواقفهم قد تسهم في فضح »السلطان« او في التغطية على موبقاته وعسفه، وهي بين أسس التحرك الشعبي تأييدا أو اعتراضا.
… ولقد أخذت نضال الأشقر على عاتقها دور »الجلاد« او منفذ الأحكام الونوسية، في حضور ما قبل الانطفاء، ثم بعد غياب هذا المسرحي العربي الرائد في محاكمة الحاضر عبر استحضار أخطاء الماضي التي أسست لنهج الانحراف بنفاق السلطان ومداراته وغوايته بتزيين خطاياه وانحرافاته.
وهكذا من »طقوس الإشارات والتحولات« الى »المنمنمات التاريخية« نصبت نضال الأشقر منصة الإعدام في »مسرح المدينة«، وباشرت تنفيذ الأحكام التي كان أصدرها سعد الله ونوس وعللها بمطالعات سياسية ممتازة تستند في سياقها الى تحليل للواقع الاجتماعي الاقتصادي، والى التسخير المباشر والفظ لموقع رجل الدين في خدمة الحاكم او المتحكم.
وفي التحليل النهائي فإن حكم التسلط والطغيان والعسف بلا هوية، إذ تتضاءل الفروق حتى تكاد تمّحي بين الدكتاتور »الوطني« وبين القاهر »الاجنبي«، فكلاهما يعتمد القمع سياسة لإخضاع الناس، وكلاهما يرفض أي اعتراض او معارضة، بل أي نقاش او مراجعة لأحكامه، ويسبغ على نفسه »العصمة« وأسماء الله الحسنى والكثير من صفات الجلالة والحق الشرعي المطلق في ان يقرر منفردا للناس مصائرهم.
والمثقف الخانع في مواجهة المتسلط الداخلي لا يختلف كثيرا عن ذلك المتملق للقاهر الخارجي: كلاهما يخون أمانته تجاه أهله ووطنه، وكلاهما يبرر الخطأ والجريمة، وكلاهما ينحاز الى صاحب السلطان ضد صاحب الحق.
* * *
هل ظلم سعد الله ونوس »ابن خلدون« حين مسخه فجعله يتملق تيمورلنك ويسعى إليه، عند اجتياحه دمشق، بذريعة خدمة العلم، وضرورة التعرف الى الحاكم وتحليل نفسيته واستقراء النوازع في أحكامه، ثم محاولة تبيّن أسباب تفوق الممالك الجديدة على الممالك القديمة، وبالإجمال: انهيار الحضارة لعجز المجتمعات الراكدة او المستكينة عن تطوير ذاتها ومواجهة المتغيرات التي تنشأ من حولها او في البعيد، والتي ستجتاحها قطعا، حتى لو كانت »متخلفة« عنها ولكنها تملك اضافة الى »القوة« زخم الرغبة بتأكيد الذات.
إذا صارت القوة هي المعيار تتهاوى الفروق بين المتخلي عن رسالته الحضارية والمتخذة من الدين منطلقها، وبين صاحب الطموح الذي يغريه الفراغ الى التقدم ووراثة العاجز عن تبرير استمراره في موقع القيادة.
السماء لا تنزل الى الارض للنزهة، والارض لا ترتفع الى السماء على صهوة حصان.
إذا غابت الرسالة انقطع التواصل، وصارت السلطة للأقوى بسيوفه.
وإذا غابت »القضية« انعدم تأثير العدد، فغلبت القلة القليلة المؤمنة بالسماء او بالارض الكثرة الكثيرة الناقصة الإيمان بذاتها، وبالتالي بالسماء وبالارض معاً.
* * *
مع تعاظم الاتهامات لابن خلدون، التي أطلقها بالأساس تلميذه وتابعه الذي نذر نفسه لخدمة العالم الجليل، سرى التململ في قاعة المسرح.
فابن خلدون اسم عزيز على قلوب العرب، بوصفه المؤسس لعلم الاجتماع، والسابق الى تحليل العلاقة بين العمران وبين طبيعة السلطة، والى اثر »العصبية« في إقامة السلطة وحمايتها.
لكن سعد الله ونوس حاكم مسلك ابن خلدون، كإنسان، وتقربه من تيمورلنك، ولو بذريعة دراسته، بقسوة جعلت »العالِم« يسقط تحت سنابك خيل الحكم التاريخي بانحرافه.
مرة اخرى يطرح السؤال نفسه: هل يجوز الفصل بين النص والمسلك؟!
وهل يُدان »النص« او يلقى عليه الحرم، حتى لو كان ممتازا وموقظا للوعي، ومنبها للإرادة، ورائدا يفتح الطريق لعلم انساني جديد، إذا ما كان مسلك الكاتب مشبوهاً او ينم عن ضعف في مواجهة السلطان؟
لقد فهمت نضال الأشقر ما قصد إليه سعد الله ونوس.
وفي النص كما في العمل المسرحي: يكفي بعض التبديل في الاسماء والقيافة، لكي تدخل دنيانا قفص الاتهام، وتخضع لمحاكمة شرسة، الأحكام فيها جاهزة بغض النظر عن مطالعات الدفاع والاسباب التخفيفية.
الكاتب، العالِم، القاضي، ورجل الدين عموماً: مسؤول، ولا تجوز الرأفة به.
انهم الطليعة. انهم المستنيرون. انهم الموجهون. انهم القيادة الفكرية، ولا يجوز ان يضعفوا أمام إغراء السلطة او أمام إرهابها.
سعد الله ونوس أطلق أحكامه ومضى مطمئنا الى انه لن يستطيع أحد ان يأخذ عليه انه سلك غير ما كتب، او حكم على غيره بما لم يحكم به على نفسه.
أما الجمهور في مسرح المدينة فقد خرج من المسرحية مضطربا وموزعا بين وقائع مجتمعه الذي حاول ابن خلدون فهمه عبر تشريحه، وبين وقائع المحاكمة التي شهدها لابن خلدون والتي انتهت بإعدامه من دون كتبه.
وفي الكتب يستعيد ابن خلدون اعتباره من غير ان يعترض سعد الله ونوس.

زهرة بيضاء لليل الشعر
تجيء بك العاصفة ويذهب بك السكون.
تهمي رقاع الثلج بهدوء كخطواتك وأنت تتوغلين داخل مسام الجسد المحترق بلوعة الانتظار. تتراقص في الجو طرباً قبل ان تهبط بجلال من حفظ وعده فاخترق الصعب ووصل مستبقا الشمس، مستأخرا مواعيد يقظة العصافير ونوم الفراش.
أتأملك في الرقعة المتوهج بياضها. أزرع في صفحتها ملامحك الدقيقة، بينما تكتبني نار يديك على الصفحة الفارغة.
الرقاع الخافتة الوقع، والتي يذهب وقارها بسوء الظن من دون ان يلغي بهجة التوقع، تترامى شطورا للقصيدة التي تنتظر شاعرها الصيفي.
يطرق البرد زجاج النافذة بنزق المحروم من المشاركة في مولد الديوان الجديد. هي سورة غضب عارضة، لن تكون اكثر من فاصل موسيقي بين موجتين من تلك الرقاع الناعمة التي ستسد دروب الواشين، مفسحة لليل الابيض ان يمتد مستولدا فجره من ذاته، بينما تتلفع الشمس بعباءة ليلكية وهي تسمر بقراءة الديوان الجديد للعشق القديم الذي ينسج من حرارة الثلج المذاب بالوجد ازهار ربيعه الجديد.
في صباح ما بعد النوم تطالعنا الجبال التي ارتدت كوفياتها البيضاء، تمشي الهوينا وقد جاءتنا بالحطب المخبوء لليالي الشعر والحب متبعة طريق العشاق التي رسمتها رقاعها الصغيرة التي تشبه دموع ما قبل البكاء.

تهويمات
} بعض الكلام لا يقوى على كسر الصمت.
بعض التذكر لا ينفع في استئناف الحوار.
بعض الصور لا تجدد حبا طوته أيام المفاضلة بين عشاق المصادفات.
} قالت: لم أعرف الرابط بين أغاني الحب والحركات الرياضية التي تواكبها إلا إذا اعتبرنا الكلمات تمارين للسان، بقدر ما هو اللحن تمرين للسيقان!
} كان الحب عاطفة حميمة تنطوي عليها الصدور، وتنطق بها العيون، وبالكاد يعبر عنها الشعر.
صار الحب استعراضا مزركشا بالألوان والحركات التي تجعله مشاعا ليس له صاحب وليست له حصانة.
لكم ابتعدت صور الحب عن أصله.
لكم ابتعد الغناء عن الشعر.
} حين التقيا استوقفه ان سمنتها قد تعاظمت، واستوقفها ان قد تزايد نحوله.
قالت: لعله الهجر، قرأت انه قد يُحدث ردي فعل، متناقضين، البعض يهرب الى الأكل، وبعض آخر ينفر من الطعام كله.
قال: بل لقد التهمتِ الحب كله، فلم يتبق لي ما أقيم به أودي.
} سألها: هل سمعتني امس؟! كل الناس عرفوا انني كنت أغني لك.
لم ترد، بل تأوّهت عبر سماعة الهاتف، فقال متعجلا:
هذا أجمل من كل ما غنيت، انا على طريق الآه.. لا تقفلي الخط!

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
يخطئ من يتهم الحب بالعمى. لا تحب إلا من تراه بقلبك قبل عينيك. والحب أحدّ بصراً من العين، وأصدق رؤية وتقديرا. عين الغيرة عمياء، أما عين المحب فمثل زرقاء اليمامة تقرأ كتاب العمر ولا تخطئ في سطر فيه.

Exit mobile version