طلال سلمان

هوامش

ملء الهواء بالهواء وبيع الكلمات بالدولارات!
كعادة العرب في »هباتهم« التي يحاولون باللجوء إليها فجأة وبلا استعداد، تعويض ما فاتهم واللحاق بمن سبقهم، امتلأ الفضاء بمجموعة من الشبكات التلفزيونية العربية التي لا تجد دائما ما تقوله، والتي لا تتحكم غالبا في نوع »المادة« التي تقدمها… ومع ذلك فهي »تقول« و»تقول« و»تقول« ما يقال وما لا يقال!
وبغير إحصاءات دقيقة او معلومات موثقة يمكن الجزم بأن العديد من الدول العربية قد »أطلق« تلفزيونه الى الفضاء بغير إعداد يتناسب مع خطورة هذا الإنجاز، وبغير انتاج يغطي فترة البث، وبغير تخطيط او معرفة مسبقة بمصادر الانتاج او نوعيته. كان يكفي الاطمئنان الى ان السوق »متخم« بالمسلسلات والبرامج المسماة الثقافية او تلك التي تقدم لك العجائب والغرائب ومخلوقات اعماق البحار، فضلا عن مخازن المسلسلات الدينية المعززة للبرامج الدينية اليومية، وهي متيسرة وإنتاجها غزير ولا تكلف اكثر من طرح اسئلة على »شيخ« معروف وإخلاء المساحة له للإجابة عن المعقول من الاسئلة بما تيسر من معارفه وأحيانا تكون مما يمكن تصنيفه ضمن »غير المعقول«.
نشأت مهن جديدة، وازدهرت تجارات قديمة، وأنشئت »استديوات« على وجه السرعة، وباشر اولئك القادرون على صنع المال من الهواء انتاج المسلسلات والبرامج المختلفة.
وانتبه المديرون المسؤولون عن المحطات الى بدعة »التوك شو« او المحاورات على الهواء، لملء الهواء بالهواء، فإذا لكل محطة مجموعة من برامج المواجهات والاستنطاقات بعضها مع اتجاه الريح وبعضها الآخر يعاكسها، بغير ان يكون مطلوبا منها غير خدمة جليلة وحيدة هي: ملء الوقت!
»الوقت سيف، إذا لم تقطعه يقطعك..«.
والفضاء مساحة من الفراغ غير المحدود، وهو وحش نهم لا يشبع.. كلما حاولت ان تملأه بالثرثرة اتسع هاتفا بك: هل من مزيد؟!
صار المهم، إذاً، ملء الوقت الفائض عن البرامج المقررة.
والحل؟! إنه أبسط من أي توقع: هاتوا ضيوفا وليملأوا الفضاء كلاما!
وهكذا صار مألوفا لمن ظهر اسمه أكثر من مرة في صحيفة، ولو في زاوية بريد القراء، ان يرن جرس هاتفه ليفاجئه محدثه المجهول المعروف بأنه إنما يطلب »رأيه« بوصفه صاحب رأي في »دلالات التحول في المجتمع الاسرائيلي بعد وصول شارون الى السلطة«، مثلا، او في منتدى دافوس ومقررات اغنيائه حول فقراء الارض وموقعهم في العولمة، او في مستقبل »اليورو«، او في مدى التزوير في انتخابات جورج. و. بوش؟!
اما بالنسبة الى الكتّاب المحترفين او »المناضلين« الحزبيين السابقين، او السياسيين المتقاعدين، او للعسكريين ممن شهدوا بعض المواقع الحربية أيام شبابهم الاولى، فعليهم ان يتوقعوا في أية لحظة وكما في الحرب الخاطفة ان تصل واحدهم دعوة مشفوعة بتذكرة سفر وبتأشيرة مع استعداد لاستضافته ليلة او أكثر في واحد من فنادق الدرجة الاولى.
… وكل ذلك مقابل ان يتفضل فيحضر لتسفيه رأي »زميل« له او »رفيق سلاح« او من كان ذات يوم في موقع »القيادة« السياسية او العسكرية هنا او هناك، في هذه الارض العربية الواسعة.
بعشرة برامج ومحاورات فقط يمكن ان تشوّه تاريخ مرحلة بأكملها، سقط فيها الشهداء بالآلاف، وتم تشييد قلاع صناعية راسخة، وأنتجت خلالها إبداعات ثقافية وفنية عظيمة.
وعلى مدار الساعة تسمع من يحاول إقناعك بأن هذه الأمة لم تكن في اي يوم »شيئا مذكورا«، لا هي أمسكت بقرارها في أي يوم، ولا هي قادرة على صنع مستقبلها بإرادتها… ومن حاول هو دكتاتور سفاح، او حالم صدق انه قادر على مواجهة الجبروت الاسرائيلي، فضلاً عن الارادة الاميركية التي لا ترد.
* * *
في لبنان، حلت الفضائيات العديدة المشكلة باستضافة »الشخصيات« و»النجوم« و»رجالات البلاد« ونسائها، احيانا، لساعات من الجدل والاستذكار والدردشة المفتوحة على كل المواضيع بحيث تغدو بلا موضوع.
هات من وقتك وخذ مجداً، إذ بعد المقابلة ستصير نجما يشير إليك العابرون او يحيّونك بمجاملة خلاصتها: سهرنا معك أمس على التلفزيون.
أما في الفضائيات العربية الاغنى من دول فلكل كلمة ثمنها… وفي بعض الحالات يصير الكلام من ذهب ويصير الصمت من تراب!
وأمس، قال لي صديقي و»شريكي« في الندوة التي ملأت الفضاء حتى ضاق عنها:
لم أكن أعرف ان لكلماتي مثل هذه القيمة الذهبية! بحسبة بسيطة تبيّن لي ان كل كلمة قلتها »ثمنها« أكثر من عشرة دولارات أميركية. فلقد جاؤوا بي من واشنطن بتذكرة في الدرجة الاولى من طائرة جمبو هائلة الفخامة، وأنزلوني في فندق تضيع بين نجومه العديدة، وفي جناح خاص مفتوح لكل رغباتي ولكل ضيوفي، ولمدة يومين، وكانت تحت تصرفي سيارة بسائق ومرافق…
اضاف الصديق الشريك وكأنما كان ينطق بلساني: طبعا انا شاكر وسعيد لأن رحلتي هذه كانت فرصة للقاء العديد من الاصدقاء، والتعرف الى بعض من كنت أرغب في لقائهم من أهل هذه البلاد.
واستفضنا نتحدث عن »الايجابيات« في دور الفضائيات العربية: فهي في حالات عدة، أعادت وصل ما انقطع بين المهاجر والمقيم، وأيضا بين المقيم والمقيم، وبين المهاجر والمهاجر، فضلاً عن تجديد الصلة وإنعاش الوجدان المشترك بين المغرب والمشرق، وبين العرب وقضاياهم الأساسية، وإشاعة مناخ من المعرفة والثقافة العامة.
ثم توقفنا عند شخصية بعض مقدمي البرامج السياسية او شبه السياسية والمستندة أساسا الى إعلاميين وكتّاب وأهل الثقافة بعامة.
بين هؤلاء »جهلة« لا يعرفون ما يكفي عن الموضوعات التي يتولون تقديمها.
وبعضهم الآخر محدودو المعرفة بالناس، تقترح عليهم إداراتهم أسماء بعض الكتّاب المعروفين فيسارعون الى الاتصال بهم ودعوتهم من دون التكرم بقراءة الحد الأدنى من السير الذاتية لهؤلاء فضلا عن نتاجهم.
وبعض ثالث، وهو الاكثرية، يعتبر نفسه نجم النجوم، ويتعامل مع ضيوفه وكأنهم مجرد »برواز« لصورته المشرقة، يحيط نفسه بهم ليؤكد أهميته، ولكنه متى »استلم« الهواء وانطلق يتقدم بلسانه الذرب نسيهم واحتل بوسامته الشاشة الصغيرة، ومارس نرجسيته حتى الثمالة، فإذا ما نبهوه الى وجودهم وزع عليهم ما يفيض عنه من وقت وهو بالكاد يكفي للنحنحة والبسملة وإطلاق الجملة الاولى.
حرام هذا الإفساد المتعمد للبيئة.
حرام هذه التعبئة العبثية المتلفة للهواء بفارغ الكلام!
لقد أضعنا الارض… وها نحن نكاد نضيع الهواء والفضاء وآخر الرجاء!

وطن بلا مستقبل أم مستقبل بلا وطن؟!
(إلى ذكرى ي.ب وف. أ)
فجيعة الموت في المهجر أسرع من الطائرة الخارقة لجدار الصوت.
تدفع ريح الفجيعة غيوم الحزن من أقصى المنفى الى سماء البيوت القائمة على تخم الفراق، ثم يهمي الوجع مطراً أسود.
يتواصل المفجوعون عبر القارات، فإذا ديربورن في قضاء بنت جبيل العاملية وإذا شمسطار البعلبكية من أعمال ديترويت ميتشغن الاميركية، وإذا الحزن لا يحتاج الى مترجمين، وتتساقط بهجة »الفرصة« التي انفتحت أبوابها في البعيد لتنهض تلك الاسئلة المتوحشة التي تلخص مأساة الهجرة، أمس واليوم وغداً: الى متى يتحتم علينا ان ننخلع من نفوسنا، من أرضنا وتاريخنا وهويتنا، لكي نعيش؟!
لكأن علينا ان نخرج من »الوطن« لنكون فيه!
لكأن علينا ان نحمل جنسية غريبة، وأن نسقي بعرقنا أرض الآخرين، لنحظى باعتراف بلادنا بنا…
لكأن أرضنا لا تتسع لنا إلا إذا عدنا في توابيت!
يضيع منك يومك فتهيم على وجهك محاولا استنقاذ غد لأبنائك في أي أرض.
الأرض أم الغد؟! الوطن بلا مستقبل أم مستقبل ما بلا وطن؟! أم مستقبل طيب في أوطان الآخرين الذين لا يحبون »وطنك«، والذين عليك ان تداريهم دائما فتؤكد قطيعتك معه ليتم تواصلك معهم… تنكره لكي يعترفوا بك فتكون لك فرصة عمل وشقة في غابة الفقراء المنسيين مثلك؟!
… ولقد ظللنا نفتقدكم حتى »عدتم«، وعندها افتقدنا أنفسنا!

»سميا« في أعلى سلّم.. السهل الممتنع
سقط الغياب فانحطم على أرض المفاجأة المبهجة التي أعدتها ليلى عسيران، تلك المبدعة التي استنزفت بقلبها جسدها، ثم أعطت روحها لقلمها فإذا كلماتها فراشات ترف في دنيا ربيع دائم تبتدعه من ناسها المختارين ومن تلاوين الفن وإبداعات الجمال الحزين.
تقدمت سميا بعلبكي بخطوات واثقة مخترقة ليل الصمت بينما استأنف نبيه الخطيب هجومه المفتوح على تدني المستوى في التلحين والغناء وعلى الاضطهاد الرسمي لأصحاب المواهب المتمسكين بأن يقبضوا على حجر الاصالة بأيديهم العارية.
ثنائي الارض المحررة معنا الليلة، فلنحتفل ببنت العديسة، على مشارف »بوابة فاطمة« وابن شبعا على مشارف »بوابة حسن« و»المزارع« التي قد تقرر مصير المنطقة!
اتسع المجال لتأمل التحولات بعيني الأم التي افترقت عن أطفالها لسنوات، والتي تريد ان تستوثق مجددا من أن ملامحهم الاصلية لم تختلف كثيرا عما ألفته فيهم، وأنهم لم يغادروا لغتهم ولم يبدلوا لسانهم.
تهامست العيون على البعد، وتغامزت الظنون، حتى إذا ما سرى النغم العفي انتفت الحاجة الى الامتحانات وثرثرت النشوة قطرة قطرة حتى فاض المجلس بحشد الخالدين الذين تقاطروا ليحتفوا بالذين يحفظونهم في وجدانهم من الاندثار تحت طوف الركاكة وبذاءة اللحن والمعنى.
الليل مساحة نشوة لصوت »الست« التي صنعت منه جنة للمتعبين والمعذبين، الهاجرين والمهجورين، وإطارا لحلم الوحدة التي يمنعها القائلون بها!
وها هي سميا بعلبكي تخطر في تلك المساحة موشحة بأنغام عود نبيه الخطيب المنهمك منذ دهور في حوار متصل مع الخالدين الذين أحسنوا تنشئته: محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد ومحمد عثمان وعبده الحامولي ورياض السنباطي، ولم يصل القصبجي إلا بعدما رق الحبيب ورق العود ورق الليل ورقت وشوشات النجوم.
تسامقت »الهاوية« المجتهدة، وأضافت الى صوتها الجميل ثقافة النغم، واجتهدت وتعبت وهي تسعى الى مزيد من العلم والمعرفة، حتى صار الصوت فرقة كاملة او مسرحا كبيرا، وإذا سميا بعلبكي قد ارتقت السلّم الموسيقي كله وباتت مؤهلة لأن تطل من أعلاه ممتلئة بالثقة وبالنغم العذب والقدرة على أن تضيف الى السهل الممتنع نشوة عارمة تستولدها المساحة العريضة والقدرة على التحكم بصوتها المثقف والعالي التدريب.
سميا بعلبكي تنتظر فرصة خارج استديوات الركاكة والطقطقة ومستولدي »الاورغ« من الملحنين، لكي تعطي ما لا يستطيعه جمهور مطربي النصف الأسفل من جمهور السكارى الساهرين في المطاعم التي صارت علب ليل.

Exit mobile version