طلال سلمان

هوامش عن شاعرة التاريخ وقيتارة بيروت زاهية قدورة

طلال سلمان
*****
هوامش
*****
عن شاعرة الشتاريخ وقيثارة بيروت زاهية قدورة
أمس، في بيروت، نوارة الزمن العربي، التقينا بعد افتراق، وحيث يشرفنا التلاقي: من حول المعنى، لنكرم الصح فينا، فكرا ومنهجا وممارسة، ونحن نستظل أفياء شاعرة التاريخ وقيثارة بيروت، الدكتورة زاهية قدورة، هذه التي تكبر ولا تشيخ، وتكتب بمداد قلبها ولا ينضب علمها، وتغدق من حبها على الناس جميعا فإذا هم أكثر وعياً وأعمق إيمانا.. يغادرون الخطأ مستغفرين ويلوذون بها مثلاً وقدوة صالحة، بغير ادعاء احتكار المعرفة، أو ضرورة التسليم بالمطلقات ومنع النقاش حتى لا ينهار التعيين.
لكأن بينها وبين الحقيقة العلمية عشقاً، هذه المتصوفة حتى لتكاد تكون شفافة كفكرة، ولقوتها فهي خافتة الإشعاع.
لم يسعدني حظي بأن أكون طالباً ينهل من علم الدكتورة زاهية قدورة، التي من موقع الأستاذة، أسهمت في تخريج أجيال من الطلبة بعدما أنارت عقولهم بالثقافة وعرّفتهم بأنفسهم ودلّتهم على طريقهم إلى الغد بحسّ التاريخ ودروسه الباقية لمن يُحسن القراءة.
لكن زمني أسعدني بأن آخذ الكثير عن زاهية قدورة، وبأن أسترشد بإيمانها الثابت، وبأن أتعلّم منها حب الناس في هذه المدينة العظيمة بيروت، التي تنثر عشقها على طرقاتها وفي فضائها، وتحرّض بالحب الناس على التمرد على الواقع والسعي الى التغيير بحرية التفكير وحرية التعبير وحرية العمل من أجل غد يليق بهذا الإنسان الذي هُدرت حقوقه وكرامته في وطنه طوال قرون.
لقد تأنسن التاريخ على يدي زاهية قدورة: حارسة التاريخ بل شاعرته التي أعادت صوغه بلغة الناس، فصار مرهفاً ورقيقاً ومضيئاً مثلها.. ومثلها صار شفافاً لا يقبل التأويل المغلوط أو التفسير المدسوس لاغتيال ثقة العربي بنفسه وإضعاف ارتباطه بأرضه واعتزازه بهويته، وضرب شعوره بالقدرة والأهلية بتحقير أسلافه جميعاً، وموروثه الثقافي كله، أو بإظهار صغارته مرة بالقياس الى أهله الأقدمين ومرة ثانية بمقارنته تعسفاً بمعاصريه المتقدمين عليه والسابقين إلى العلم والمعرفة والتوغل داخل الاكتشافات وثورة الاتصالات والمواصلات المذهلة بوتيرة تقدمها واتساع آفاقها بما يتجاوز الكرة الأرضية إلى الفضاء الفسيح وكواكبه العوالم البعيدة.
كثيرون، غيري، يمكنهم الحديث عن زاهية قدورة الأستاذة والدارسة والباحثة والمصحِّحة لما تمّ تزييفه أو اجتزاؤه من صفحات تاريخنا، بكشف المخبوء أو المطموس وإعادة ضبط السياق ليستعيد المعنى نصابه.
يكفيني أن أقدم شهادتي، من موقعي، عن الدور الذي لعبته زاهية قدورة في ترشيد قلمي، وفي تزخيم إيماني بأمتي كلما اضطربتْ أحوالها وما أكثر ما اضطربتْ وتضطرب بعد وتهددها الضياع نتيجة انحراف الحكّام بسياساتهم وراء مصالحهم الشخصية، أو انجرافهم بالضعف الى الخطأ بل إلى الخطيئة المميتة، أو نتيجة انتعاش حمى الغرائز والحساسيات المذهبية أو الطائفية، أو حين كان يَحدث بل يُحدَث تداخل في الشعارات نتيجة التقلّب في المواقف وتسخير الهدف السامي للغرض الرخيص.
لم تدرّسني زاهية قدورة، ولكنني أخذت عنها وتعلّمت منها الكثير.
تعلمت منها أن المجد للأمة التي تنجب أبطالها ولا ينجبونها، فهي مصدر شرعيتهم وهي القائمة قبلهم والباقية بعدهم، منها يستمدون قوتهم وقد يضيفون إلى أسباب منعتها، ولكنهم لا يغنون عنها في شيء. ترفعهم بقدر إخلاصهم وتعزّهم بقدر إنجازهم، فهي مصدر الإلهام وهي المرجع الأسمى. لا أحد يختزلها حتى إذا ما شرفته بالتعبير عن إرادتها، في لحظة، ولا أحد يكبر عليها وإلا صار خارجها بل وخارجاً عليها.
في صباحات كثيرة، خلال دهر المحنة التي تفجرت حربا أهلية هائلة البشاعات، كان يأتيني صوت حارسة التاريخ، والقيّمة على شرف بيروت كعاصمة للنضال القومي وكمنتدى للفكر العربي وكمركز أول للثقافة العربية، تنبهني الى خطر ظاهرة جديدة من ظواهر الانقسام، أو تحذرني من الانسياق بالغضب أو بردّ الفعل وراء الدعاوى ذات الطابع العنصري، التي حاولت في فترات أن تباعد بين أهل بيروت فتوزعها بين أبنائها الأصليين وبين مَن وُصفوا بأنهم من الطارئين عليها، مهمّشة روحها الجامعة، مجرّحة أحضانها الدافئة التي اتسعت وتتسع للجميع، فهي قبلتهم حصيلة جهدهم وعرق زنودهم، هي مدرستهم وجامعتهم وكتابهم ومشفاهم، بين حناياها تنبض أحلامهم وتزهر بيوتهم بالأمل بغد أفضل، وعبر فجرها تجيئهم صحفها لتنشر بعض النور كاشحة دياجير الظلام عن دنيا العرب، حاملة إليهم صورة عاصمتهم الأميرة النبيلة، حتى في حزنها؛ بيروت.
كان هاتفها، غالباً، نذيراً، ينبّه إلى أمر جلل.
لكنها ولا مرة أظهرت يأساً أو قنوطاً، أو طالبتني بالصمت خوفا.
وأعترف بأنها قد دلّتني، مراراً، إلى الطريق الصح، بينما تتآكلني الحيرة وأنا أنزف كرامتي وسط معمعة اقتتال الأخوة، وسقوط القيم وارتفاع صوت الغلط ملعلعاً قذائف مدفعية ورصاصا يقتل الوطن قبل المواطنين.
أعترف بأن زاهية قدورة قد علّمتني، مرارا، وأرشدتني إلى طريق الصح، وأنها كثيرا ما شدت إيماني ونبهتني إلى أن وهن الإيمان هو أقصر السبل إلى الخطأ، وأنها كانت تضيف الى عزيمتي كلما تهددني ضعف الجريح.
لهذا كله رأينا في تكريم زاهية قدورة تكريما للمعنى، للفكرة، للجهد الإنساني الممتاز والمتميز.
وهو تكريم لا مكان فيه لشبهة النفاق.
فهو ليس تكريما لسلطان ولا هي حفاوة بصاحب مال أو جاه أو نفوذ، بل انه تكريم للإنسان في كل منا، وتكريم للعلم في إنساننا، وتكريم للالتزام بقضية الإنسان في العمل، تكريم لمن أعطى عمره للحقيقة، تكريم لروح بيروت ووجهها الطيب، وللعربية التي كادت تكون صورة للأمة، فهي التي جمعت فاجتمعت فيها القاهرة ودمشق، بغداد وصنعاء، الرباط وتونس، طرابلس والخرطوم، وسائر العواصم وكل الناس.
وهي التي اجتمعت فيها فلسطين بقدسها وناصرتها وسائر المدن والقرى ذات القداسة.
وهي التي حفظت جمال عبد الناصر في حناياها واتخذت من إنجازه نبراساً للهداية وتأكيد القدرة على تغيير ما لا بد من تغييره.
وهي التي أعطت، مع نخبة من اخوانها من رجالات بيروت، جمال عبد الناصر الفرصة لكي يرد لبيروت بعض عطائها المفتوح للعروبة، فكان قراره العظيم بالمساعدة على إنشاء جامعة بيروت العربية صرحا جديدا للعلم، مفتوح الأبواب للفقراء الذين كان الضيق في الرزق يحرمهم من فرصة التحصيل العالي، لا سيما قبل انتعاش الجامعة اللبنانية وتمكينها من القيام بدورها الوطني الذي لا يمكن ولا يجوز شطبه أو الاستغناء عنه بالجامعات الأجنبية أو تلك المستجدة تحت أعلام الطوائف.

عن الكبار بالكلمة واللحن ثم صوتنا فيهم!
سقى الله تراب مقبرة نزار قباني: لقد أعاد الشعر إلى حناجر المغنين.
بعيداً عن التقييم الموسيقي لمستوى الألحان المغناة من شعر نزار، فمجرد الالتفات الى الشعر فضل نحفظه لبعض المطربين والمطربات، وبالذات ماجدة الرومي وكاظم الساهر، إذ أسهموا من حيث يدركون أو بالمصادفة في إعادة الاعتبار الى الكلمة والصورة المطرّزة بالنغم والموشومة بالمعنى، في ما يذاع هذه الأيام من طوفان الأغاني المبتذلة الكلمات والمعاني والملحنة للرقص أساسا، ووفقا للمزاج الخليجي الذي اكتُشف حديثا فسادَ أو سُوِّد بالنفاق أو بالارتزاق غالبا، أو بالاعتداد الجهدي من طرف المطربين المتباهين الآن »بقوميتهم« المستجدة.
قبل أيام، بالمصادفة، استمعت الى »ظلامة« محقة كان يعرضها الشاعر الشعبي المصري المعروف أحمد فؤاد نجم، على هامش الاحتفال بذكرى عبد الحليم حافظ.
ولفتتني المسألة المهمة التي أثارها الشاعر الذي عرفه الجمهور العربي من خلال قصائد الاعتراض الممتازة التي غناها »قرينه« الراحل »الشيخ إمام«، والتي عبّرت عن ضمير الأمة في حقبة كاملة، فتجاوزت الهزيمة لتدين القادة المهزومين، ومجّدت الوطن بأرضه وناسه، بدلاً من تمجيد الحكام، وتوجهت الى الشباب بالتنوير والتحريض فأعادت وصلهم بقضايا بلادهم.
قال أحمد فؤاد نجم: إن مجد عبد الحليم حافظ لم يصنعه فرد، بصوته، بل صنعته مجموعة من كبار الملحنين ومن الشعراء المجيدين، فالصوت الجميل وحده لا يصنع طرباً. كما ان سنونو واحدة لا تصنع ربيعا.
وقال إن حالة النهوض الوطني والقومي التي استولدتها الثورة في مصر بقيادة جمال عبد الناصر قد جمعت في أحضانها الناس وأمدتهم بالأمل وفجرت مواهبهم وأسقطت الحواجز في ما بينهم، فكان ان تقاربوا فتكاملوا وأبدعوا.
وانتبهت إلى حقيقة ما زالت تنبض في الذاكرة حتى بعد رحيل الكبار، فلم تكن الأغنية صوتاً جميلاً فحسب، لا مع عبد الحليم حافظ ولا مع سابقيه العظماء كأم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد الخ..
مع أم كلثوم، مثلاً، نتذكر على الفور أحمد رامي وبيرم التونسي وإبراهيم ناجي وأمير الشعراء أحمد شوقي، وبالمقابل زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي.
ومع عبد الحليم حافظ، لا بد من أن نتذكر صلاح جاهين ومحمد حمزة وعبد الرحمن الأبنودي وفؤاد حداد (من الشعراء)، وكمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي إضافة الى محمد عبد الوهاب من الملحنين.
وفي لبنان، لا يمكن الحديث عن العظيمة فيروز بمعزل عن الكبار: عاصي ومنصور الرحباني، سعيد عقل، طلال حيدر، ميشال طراد، ونبع الطرب الأصيل فيلمون وهبي.
للأغنية علاقة وثيقة بالروح.
إنها لا تجيء من الفراغ، ولا من بلادة الكلام المرصوف، أو دوي الطبول وتراتبية النغمات المرصوفة في الأورغ.
الأغنية هي التواصل في الوجدان، هي رسائل من القلب الى القلب، يتماهى فيها السامع مع المطرب عبر الكلمات التي يحس أنها تعنيه بل انها صادرة عنه، وعبر اللحن الذي يحسه صادرا منه محمولاً على أرق مشاعره ليصل الى كل من يحب ويشركه في أنبل مشاعره وأرقها.
في الفن، أيضاً، كثيراً ما نستعيد ثياب غيرنا، نتحدث عنهم وكأننا هم، ونتأخر في اكتشاف اننا إنما نغترب عن ذواتنا ولا نذهب إلى الحب.

الموت في الغربتين
لم تنتظم الكلمات وأنا أشد على يدي الصديق خير الدين حسيب معزياً بوفاة شقيقه في »الداخل«… داخل العراق.
الغربة القسرية حياة أقسى من الموت، فكيف إذا ما تكثف بؤسها بالموت على حافة القرب المستحيل.
بمدى الذراع وأنت لا تستطيع الوصول،
بمدى العين ولا تملك ان تلقي النظرة الاخيرة على من احببت.
في قلب الوطن والوطن الذي يسكنك ويسري مع الدم في وريدك يبتعد متوغلاً في غياب الوحشة، يفتقدك وتفتقده ويعز التواصل ويتعذر الوصول.
الموت يتربص بك في الداخل، والخروج يجعلك خارج دائرة الأمل ويقطع اوصالك.
والغربة آكلة الاحلام والاماني، تخرج منها إليها وكأنك حقيبة ملقاة على رصيف مهجور،
تعمل، تنتج، تفكر، تبدع، مفترضاً ان تلك هي طريق العودة، فإذا الطريق تطول ملتهمة الرجاء، وتغرق في لجة الاحساس بالعبث.
لا أمان في الوطن، لا أمل خارج الوطن.
الوطن هو الامان والأمل وهو المقصد والهدف من العمل والانتاج والفكر والابداع والتعب وسهر الليالي من أجل ان يكون فتكون.
إن تهاوى الوطن لم يبق لحياة المواطن طعم الفرح.
نموت ليحيا الوطن، لكن الوطن لا يحيا إلا بنا.
تعزي العائش في غربة تداني في قسوتها الموت، ام الميت في غربة داخل الوطن المهجر عن ذاته، المقتول شعبه ألف مرة في اليوم؟.
أم تعزي كل المنذورين للموت بين الغربتين، وهم الاكثرية الساحقة في هذا الوطن الكبير الذي يحاول فلا ينجح في ان يعرف الباب الى إلحاق الهزيمة بقتلة شعوبه والانتصار بالعودة واستعادة الوطن والعلاقة بالحياة؟
التعزية مرجأة حتى يعود العراق. لا عزاء للمنفيين إلا بسقوط المنفى.

من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
تعلّمت من تاريخ العشق ألا أحاصر حبيبي وأضيّق عليه حريته ومجال التنفس. الحب اطمئنان. الحب ثقة. الحب يقين. وأنا أصدق حبيبي حين داعب غروري فقال: أنا شهادة لذوقك وتقديرك للجمال. إن وجدت الأفضل فأنت حر!

Exit mobile version