الدين الذي أساسه الإيمان هو علاقة مع الله. علاقة بين الفرد والله. الدين الذي أساسه العقيدة والطقوس والممارسات هو علاقة بين البشر.
يستطيع الملالي وعموم المشايخ وبقية من يعتبرون أنفسهم ممثلي الله على الأرض السيطرة على الدين بمظاهره الخارجية بما في ذلك العبادات المنصوص عليها في الكتاب العزيز، والعبادات الأخرى التي تضاف إليها بقرارات من المؤسسات الدينية. تتخذ الطقوس (والعقائد المفروضة) وسيلة للبرهان على الإيمان، وتستخدمها السلطة لفرض سيطرتها، أما الإيمان فهو ما يتعلّق بالضمير الفردي. وهذا لا تستطيع السلطة النفاذ إليه. تفرض السلطة قيوداً إضافية على الناس بداعي التحقق من إيمانهم. تريد السلطة براهين على الإيمان ولا تستطيع ذلك إلا من خلال مظاهر خارجية ولو تعلّق ذلك بالعبادات.
يبدو أن الدين الطقوسي ما عاد بإمكانه السيطرة على الدين الإيماني، وأن برانية النفس لا تسطيع احتواء جوانية الروح، وأن الدين بشكل عام بدأ يضعف في سيطرته على المجتمع ككل، وأن شعار الإسلام هو الحل بدأ يتراجع؛ وهذا الشعار، كما في أمور ايديولوجية أخرى، أخذته الثورة الإسلامية في إيران والأحزاب الدينية التي تتبعها عن الإخوان المسلمين.
ما يحدث في إيران هو ثورة ثقافية ضد نمط حياة فرضته المؤسسات الدينية منذ جاء الإمام الخميني الى السلطة. فهل يشير ذلك الى بداية تحوّل المجتمعات الإسلامية كلها، وإلى وهن هذه السلطة في فرض قبضتها على المجتمع كله؟
الدولة الدينية لم تعد ممكنة، وهي تشبه في قبضتها ورفضها السياسة والتعبير عن الناس ووجودهم، وإصرارها على قضايا تفرضها، بحيث تجعل المجتمع صدى لما يعتقد الملالي والمشايخ، ما كانت عليه الكوادر العليا في الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه. التحوّل عن الدولة الدينية يحدث في إيران بوسائل العنف، وفي السعودية بالانفتاح وإرخاء القبضة. هل يعني ذلك تحوّل في مزاج المسلمين بشكل عام، بعد أن مضت عقود والوعي مشدود الى السلطة الدينية أو خاضع لها، عن طيب خاطر أو خوفاً من عنفها؟ وهل تفوّق التوق للحرية على الخوف؟ وهل تحرر المجتمع من مزاج كان راضياً به، مطمئناً إليه؟
إذا كان الدين هو الإيمان وحسب، فإن تغيّر المزاج العام ورفض إملاءات السلطة الدينية والشروع في ثورة ثقافية لا يعني إلغاء الدين بل السعي لإحداث تغيّر في الدين الاجتماعي بما لا تشتهيه السلطة. إيمان الناس هو دينهم، أما الدين الاجتماعي، بما فيه الطقوس، فهو مسألة سياسية تتعلّق بالسلطة. الثورة الثقافية التي عبّر عنها مطلب رفع الحجاب هي في نهاية الأمر ثورة سياسية. تحوّل مزاج المجتمع، بالأحرى وعيه، فصار ضرورياً تغيير شكل السلطة وصولا الى إلغاء القبضة الدينية الطقوسية، قبضة الملالي والمشايخ، وإلا يصل الأمر الى العنف؛ وقد وصل.
لا يتعلّم من نصّبوا أنفسهم وكلاء الله على الأرض وناسها أن وجود الناس، وحياتهم اليومية، وتلبية حاجاتهم، أهم من القضايا التي يطرحونها ويجبرون الناس عليها، وينغصون الوجود البشري بها.
لا يتعلّم هؤلاء الوكلاء أنهم هم الذين يجب أن يستجيبوا للناس لا العكس بفرض استجابة الناس لهم. على القضايا أن تُعبّر عن الوجود، وأن لا يكون الوجود كمّاً مُهملاً. كل أنظمة الاستبداد تستعلي على الناس، وتغلق المجتمع، وتلغي السياسة، وتفرض أن لا يكون الحوار في المجال العام إلا استجابة للزعماء، وهم في هذه الحالة من نصّبوا أنفسهم وكلاء، يطلبون سمعاً وطاعة لهم.
تدعي هذه السلطات أن فهمها للدين يفوق وعي المجتمع وأن على الناس الطاعة بسبب قصورهم في الاطلاع على ما في كتب الفتاوى الموروثة من أجل تبيان ما يجب أن يكون عليه سلوكهم. وقد ورد في الحديث الشريف، “الناس أعلم بشؤون دنياهم”. وهذه الدنيا أوسع بكثير مما يتصوّر وكلاء الله على الأرض. لقد صار فصل الدين عن العلم (الحديث) ضرورة من أجل تطوّر سوي للمجتمع، وما الثورة الثقافية في المجتمعات الإسلامية إلا خير تعبير عن هذه الضرورة. الأمر لا يقتصر على المجتمع الإيراني وحده.
المزاج الديني الذي ساد المجتمعات الإسلامية في العقود الأخيرة أدى الى انغلاقها، بل عزلتها عن العالم الخارجي. وكل مجتمع مغلق يحكم على نفسه بالعزلة. الأنظمة الدينية، التي عبّرت عن هذا المزاج، ادعت أن ذلك ضرورة لمواجهة الغزو الثقافي. وهذا هو السبيل الوحيد بنظرها لمواجهة الامبريالية، وبالتالي فإن ما يحدث في الداخل من كوارث إنسانية، بما في ذلك ما يتعلّق بالإناث، هو من فعل العدو الامبراطوري. وكأن المجتمع في الداخل لا يعاني من تناقضات وتراجعات وانهيارات، سببها السلطة الدينية. لسنا بخير كي نرمي كل أسباب عللنا على الخارج. ليس الخارج بريئاً. لكن الإغفال عن التناقضات الداخلية، التي منها ما هو كارثي، يصب في ما يريده الخارج، عن قصد أو غير قصد. استخدام العنف ضد الناس الذين يطالبون بالحق أن يكون لهم القرار في ما يتعلّق بشؤون دنياهم هو سلوك يُشتّت المجتمع، ويُضعفه في مواجهة أعدائه.
تعليم النساء أو عدم تعليمهن، ولباس زي معيّن أو عدم لباسه، جزء من نمط العيش. وما يحدث في أفغانستان لا يختلف كثيراً عما يحدث في إيران على يد أصحاب السلطة، وهي سلطة دينية تصادر لنفسها ثقافة المجتمع بما يتنافى مع تاريخه، وتاريخ الهضبة الإيرانية بما فيها أفغانستان. تاريخ هذه الهضبة هو تاريخ مجتمع مفتوح يسعى من نصّبوا أنفسهم وكلاء الله الى إغلاقه. وما تسعى إليه الثورة الثقافية هو إعادة التاريخ الى نصابه، أو ما يمكن أن يسميه البعض تصحيح مجرى التاريخ.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق