طلال سلمان

نَقـشٌ في جِـداريـة دَرويْـش: في الذّكْرَى التاسِعـَةِ لِلرحيْـلِ..

هذا البحرُ لِـي
هذا الهـواءُ الرّطـبُ لِـي
واســمِي ـ
وإن أخطأت لفـظَ اسمي على التـابـوتِ-
لِــي.
أمّـا أنــا فقـد امتـلأتُ
بكلِّ أسـباب الرّحيــل ـ
فلست لِـي.
محمود درويش

كتبتُ ردّاً على رسالة وصلتني من الصديقة الأديبة الجزائرية “جمبلة طلباوي”، وقد أرفقت معها ملفاً صوتياً بإنشادها قصيدة، كنت قد نظمتها في وداع الشاعر الكبير محمود درويش، في ليلة رحيله في أغسطس من عام 2008 م.

طرِبتُ لإنشاد الأستاذة “جميلة”، وبكيتُ معها قصيدتي في رثاء الرّاحل درويش، وقد بثتها عبر إذاعة بشّار الجهوية في الجمهورية الجزائرية، ولمّا ينقضي شهر على رحيله الفاجع في عام 2008 م.

يوم ستر جثمانه في الأرض الطاهرة وكنت في بيروت، رأيت أن ألوذ بحزني إلى صديقٍ مشتركٍ، يعزّ محموداً، مثلما أعزّه أنا. لم تكن مكاتب صحيفة “السـفير”، تبعد عن مكتبي ومكاتب سفارة السودان، بأكثر من بضعة أمتار، على “شارع الحمرا”. جلستُ إلى صديقنا “طلال سلمان”، نتابع معاً على التلفاز بمكتبه، مراسم ستر جثمان ذلك الشاعر العظيم، وقد حواه نعشٌ غاية في التواضع. أحاط بالنعش بعضُ أناسٍ، بينهم من قال لي عنهم طلال: إنّ الراحل لو رآهم لأبعدهم ركلاً عن نعشه..! لا أعلم بالطبع ما يعلمه طلال عن أولئك النفر..

بلغتْ قصيدتي طلالاً، كما بلغته قصيدة صديقنا السفير الشاعر عبد العزيز خوجة، سفير المملكة السعودية في لبنان وقتذاك، فنشر القصيدتين في صفحة واحدة من صحيفته “السـفير”. كانت الأديبة الإعلامية “جميلة” الجزائرية تنقب في الإنترنت، حين صادفت قصيدتي في تلك الصحيفة، فقامت بتسجيلها بصوتٍ شجيّ عبر إذاعتها الجهوية تلك:

مَا بَالَ قلبُكَ لاَ يُجيْبْ وَهَـا رتْلُ الجَميْلاتِ،

انتظَمْنَ قُبالةَ الجَسَدِ المُسَجّى، فوقَ رامَ الله

وَيسْألنَ القصَائدَ أينَ غَابْ..؟

فِي أيّ نَرْجسَةٍ ذَوَىَ..

أيّ البُحُـورِ طوَتْ زوَارقَ شِعرهِ وسبَتْ قوَافيهِ

فصَارَ اللّوْزُ أبْعَدَ مِن أزَاهِرهِ وأقرَبَ مَن ذُرَاه..؟

كُنتَ الشِــعرَ..

مُبتدأَ الحداثةِ وانْفجَارِ الذَّرةِ الشِّعريةِ الأُوْلَى

وَأوْتارَ المُغَنيَ فـي صِباه..

قُلْ لنَا: مَا بَالَ قلبُكَ والكمَنْجَاتُ الحميمةُ قطّعتْ أنفاسَهُ

أيضيعَ لحنُ الأرْضِ، والوَترُ المُعذّبُ فِي وَريْدِكَ مُنتهاه؟

أغدقتْ “جميلة” على حرفي من بهاءِ صوتها البديع ما ارتفع بالقصيدة إلى سمـوات، ما ظننت حزني بقادرٍ أن يصل إليها، وأنا أبكي الصديق الشاعر الفخم محمود درويش. كان حزنها صِنو حزني وحزن صديقنا طلال سلمان، فالخسارة واحدة، و”الجدارية” واحدة، والدمعة واحدة، لكنها فاضت في بحر الحزن..

تراكم الدّمع عليّ تلك الليلة التي رحل فيها في أغسطس من عام 2008، وأنا في بيروت التي جمعتني به في لحيظات دفيئة، لكنها لا تقاس بمواقيت الناس.. تراكمتْ عليَّ لغةُ الشاعر التي أحببناها، واحتشدتْ حروفه بحروفي في حزنها العميق. تشكّلت القصيدة التي نظمتُ من فيض حزنٍ نبيل، وحسرة خبيئة في النفس، إذ لم تتح لي السانحة لأقترب كثيراً كثيراً، من شاعر سكن الشعر وتدثّر بحروف اللغة، فلانت له ولان قلبه لها، حتى استقوتْ اللغة على القلب الحزين، فأنكسر النبض، وغادر محمود إلى سفره الأخير..

بالطبع كنتُ مُتيّماً بشعره. مُرتهناً كنتُ، بل أسيراً في قوافيه، وتشكيلاته اللغوية الخلابة. لكن تعود صلتي به حين عرفته مباشرة، وأنا أساعده في الحصول على تأشيرة الدخول لزيارة الخرطوم. صديقي الدكتور حيدر ابراهيم، طلب عوني وخشيَ من تعقيدات قد تعترض سفر الرّجل إلينا. درويش كما هو معروف فلسطيني، وله قصص تحكى عن هويته الفلسطينية، وجواز سفره الإسرائيلي القديم، وقد تركه بعد خروجه أواخر الستينات من القرن الماضي، خروجاً داوياً، وقت أن كان في زيارةٍ لموسكو، ثم لاذَ من هناك بالقاهرة..

إتصل بي صديقي د. حيدر إبراهيم، وقد توسّـم فيا خيراً، وقد كنتُ مسئولاً عن دائرة الإعلام والنطق الرسمي في وزارة خارجية السودان، وقتذاك. تصوّر د. حيدر أن علاقاتي المتواضعة ستعينه في تقديم يد المساعدة لشاعر ينبض قلبه بشجن القضية الفلسطينية. طلبتُ صديقنا السفير في لبنان وقتذاك، وأيضاً سفارتنا في الأردن، لتيسير أمر تأشيرة دخول الشاعر الكبير إلى السودان. كنتُ أعلم أنه يقيم في الأردن، ولم تكن زيارته للخرطوم هي الأولى، وأنه سيجد طريقه إليها مُعبّداً ميسورا.

حينَ وصل الخرطوم، وعلى سبيل الإحتفاء بحضوره، أعِدتُ نشرَ مقالٍ لي، كتبته عن مجموعته الشعرية الأخيرة التي صدرت في 2005 م، وقتذاك وعنوانها: “كزهر اللوز أو أبعد..”، عن رياض الريس للكتب والنشر، في صحيفة خرطومية مرموقة. وفي أمسيته الشعرية بقاعة الشارقة، وهي من القاعات الخرطومية التي استضافت أمسيات أدبية مهمّة، أنشد درويش القصيدة التي حدثته عنها، وأشرتُ إليها في مقالي ذلك اليوم، وأنّي معجب بها كلّ الإعجاب، وهيَ قصيدة “الجميلات”، التي حين يقرأها من يقرأها، يحسب أنه بقادرٍ أن يجاريها، لسهولة اللغة والنظم والصور التي حوتها، غير أنها أعمق أثراً، وأبلغ معنىً:

الجميلاتُ هُـنّ الجميلات،
(نقـشُ الكمنجات في الخاصِرة)

الجميلاتُ هـنّ الضعيفات
(عـرشٌ طفيـفٌ بلا ذاكـرة)

الجميلاتُ هُـنّ القـويّات
(يأسٌ يضيء ولا يحتـرقْ)

الجميلاتُ هُـنّ الأميرات
(ربّـــات وَحـيٍ قـلـِـــق)

الجميلاتُ هُـنّ القريبات
(جــارات قــــوسِ قُــــزحْ)

الجميلاتُ هـنّ البعيـدات
(مثــل أغـــانــي الفـــرحْ)

الجميلاتُ هُـن الفقيرات
(كالوردِ في ساحة المعركـة)

الجميلاتُ هُـنّ الوحيـدات
(مثل الوصيفات في حضرة الملـكـة)

الجميلاتُ هُـن الطويلات
(خـــالات نَخـْــلِ السّــماءْ)

الجميلات هـنّ القصيرات
(يشــربنَ فـي كــأس مــاءْ)

الجميلاتُ هنّ الكبيرات
(مانجو مقشرة ونبيذ معتّـقْ)

الجميلاتُ هُـنّ الصغيرات
(وَعـدُ غَــدٍ وبراعم زنبـقْ)

الجميلاتُ كلّ الجميلاتِ، أنتِ
إذا ما اجتمعنَ ليخترنَ لي أنبلَ القاتلات!

هي القصيدة التي في خفة لغتها وصورها، سكنتْ قلب تلك المجموعة الشعرية الجميلة. كان حديث درويش عن أبي حيّان التوحيدي، عميقاً وهو يقارب بين الشعر والنثر. الشعر أمَة مأمورة والنثر أميرة آمِرة، مثلما ألمح التوحيدي. ولقد كانت أمسيته الشعرية في القاعة الخرطومية تلك، من أجمل الأمسيات الشعرية، وستعلق بذاكرة كلّ من حضرها، لسنين طوال. كان يلقي قصائده والحضور السوداني يردّد معه أبياته، وهو سعيد ببعض ما أنشد من قصيدة “الجدارية” الحزينة، فتذكرت كيف سعِدَ نزار حين زار الخرطوم وحدّث عن الشباب السوداني الذي تسلق الأشجار كما العصافير لينصتوا لإنشاده.

في بيروت الحَفيّة بالثقافة والابداع، التقينا مجدّداً في عام 2007 م: أنا سفير فيها وشاعر قليل الشهرة، وهو شاعر ضخم، رقيق الحضور. ها هو جالس لتوقيع مجموعته الأخيرة.. “أثر الفراشة”، في جناح ناشر شعره، الأستاذ رياض نجيب الريّس.

كأنه كان يعرف أن أمسيته الشعرية تلك، هي الأخيرة في بيروت. هي أمسية بعدها الرحلة السرمدية، فقد ارتأى أن ينتقي من “الجدارية” أجمل المقاطع. هي “الجدارية” كما سمّاها، لأنها “معلقته” التي حمّلها أجمل البكاء. أجمل الأحزان. أجمل رثاء لميتٍ حيّ، فأنشد منها:

هذا البحر لي

هذا الهواء الرّطب لي

هذا الرصيف وما عليهِ

من خطاي وسائلي المنويّ… لي

ومحطة الباص القديمةُ لي. ولي

شبحي وصاحبه. وآنية النحاس

وآية الكرسيّ، والمفتاح ُ لي

والباب والحراّس والأجراس لي…

***

جدار البيت لي…

واسمي، وإن أخطأت لفظَ اسمي

بخمسة أحرف أفقية التكوين لي:

ميمُ/المتيم والمتمم ما مضَى

حاء/ الحديقة والحبيبة حيرتانِ وحسرتان

ميم/ المغامر والمعدّ المستعدُّ لموته…

نحتَ اسمه: محمود درويش، على حجر القبــر، وسمّاه قصيدة. كان فرحاً بما اختار من “الجدارية” الحزينة.

في تلك الأمسية البيروتية، وبعد أن أنهى إلقاء شعره، خطونا معاً نحو البوابة المفضية إلى جناح صديقنا رياض الريّس، ولكن جمهور المعرض المتزاحم، يتدافع من حولنا وسدّ علينا الطريق إلى داخل قاعات عرض الكتب. لا هُم رأوا الشاعر ولا لمحوا السفير بجانبه، فيفسحوا لهما. قلت لدرويش مداعباً لكسر ضيقه بالزّحام: ليتك تصيح فيهم: هذا الباب لي، فيفسحوا لنا الطريق! كنت أداعبه بمقاطع “الجدارية” التي أنشدها للتوّ. ضحك من قلبه، وتمنّى لو يسمعوه..

كان حفل توقيع درويش لمجموعته الجديدة : “أثر الفراشة”، قبل حفل توقيع مجموعتي الشعرية الأولى: “امرأة البحر أنتِ…” بيومٍ واحد، وفي ذات جناح صديقنا الناشر، رياض نجيب الريّس. رافقتني كريمتي الكبرى هبة، صافحها درويش بابتسامته العصيّة تلك، وأصرّ أن يلتقط المصور صورة له معها. وقفنا ثلاثتنا للمصور (وظهرت الصورة لاحقا في كاتلوج معرض بيروت للكتاب لعام 2007). شدّ على يدها مبتسماً: “هيا.. كوني مثل والدك شاعرة..!”، ثم وقع لها بقلمه على ديوانه “كزهر اللوز أو أبعد..” كم حزنتْ عليه ابنتي هبة، حين بلغها النبأ الحزين برحيله في أغسطس من عام 2008، وهي في لندن.

كان شاعراً بلا شبيه. أيقونة للمقاومة وللشعر العربي. كان رحيله بقرار شعري، وفرمانٍ كتبه بنبضِ قلبه الرّهيف… صدر عنه قبل رحيله بتسعة أعوام: إنها “جدارية” محمود درويش، مرثية صاغها لشاعر إسمه محمود درويش.. لكأنه امتلك رؤىً الأنبياء. سنواته الأخيرة محض أيام إضافية، كأنه غير مُحتفٍ بحياته بعد “الجدارية”. قهر الموت وامتلك الخلود..

ها نحن نبكي رحيله في ذكراه التاسعة، لكأنه في أساه لا يزال، على الوطن الذي ضاع منه…

Exit mobile version