طلال سلمان

نوستالجيا

عدنا. ما زلنا، نحن وغيرنا فيما أعلم، نناقش حالة القلق التي نعيش فيها، حتى الأطفال. الشكاوي في ازدياد. سيدات يصرحن بأن العلاقات الزوجية ليست على ما يرام. الشباب يعلنون أنهم في حيرة مزعجة واضطراب شديد. النساء، بوجه عام، يشعرن بأنهن منساقات بقوة إعلامية عالمية وضغوط سياسية هائلة نحو المجهول. كثيرات متحمسات للانسياق باعتبار أن أي تغيير أفضل من الوضع البائس والمهين الذي عاشوا فيه منذ يوم أخرجت حواء من الجنة. كثيرات في الوقت نفسه مترددات في خوف، فما يحدث من حولهن وبشأنهن يبدو مصطنعا بشدة، يبدو مبالغا فيه عن عمد أو عن جهل، جهات تريد مساواتهن فورا بالرجال قبل أن تعدهن لمهام بعضها احتكره الرجال عبر القرون وبعض آخر من هذه المهام لاستكمال الشكل وأغراض العلاقة مع الخارج.


التغيير يحدث في كل مناحي حياتنا ولكن بسرعة تزداد سرعة، سرعة لا تراعي استعداد مختلف الكائنات لمجاراتها. كلنا وحاجاتنا وتوابعنا في حال انتقال. ننتقل ولكن ليس كما انتقل أجدادنا. ننتقل نحو حال أغلبنا لم يسع إليه أو يفكر فيه ولم يسعفه الوقت ليتدبر فيه لنفسه ولأولاده وأحفاده مواقع. درجنا على أن نرى مستقبلنا يصنعه الأنبياء والعلماء. إلا أن علماء هذا العصر لا يفكرون كما كان يفكر علماء أزمنة ولت. اكتشفنا مؤخرا أن علماءنا تغيرت أولوياتهم، المستقبل الذي ينشغلون الآن بصنعه لن يكون للبشر ولكن لكائنات أذكى مصممة لتعيش أطول وتنتج أكثر وأكفأ وتتطور و”تتقدم” ذاتيا، أي بدون تدخل بشري.


اكتمل عددنا فامتنعت عن التأمل منفردا واقترحت على مجموعتنا فتح النقاش مجددا حول موضوع النوستالجيا باعتبارها إحدى أهم الظواهر الاجتماعية في حياتنا المعاصرة. بدأت محذرا من الوقوع في شباك المبالغة. فالحنين ليس هو الظاهرة الأهم، إنه ظاهرة هامة بين ظواهر غير قليلة، ولكن كما لاحظنا في السنوات الأخيرة صار الحنين عنصرا مؤثرا في كثير من تصرفاتنا. عرضت نماذج. نموذج منها هذه التصرفات التي يمارسها عدد متزايد من الحكام والسياسيين عامة في كثير من الدول. البعض يتصرف متأثرا بحنينه إلى عصر كانت السلطة فيه مطلقة. بعض آخر يحن إلى دولة كانت أصغر بمسؤوليات أقل. بعض ثالث يعيش ويتصرف مع حكومات وشعوب دول أخرى متأثرا بنوستالجيا إلى عصر الاستعمار التقليدي، حتى راح يشتري موانئ وجزرا وصحراوات بمن يعيش عليها. هناك بالفعل من يعتقد أن السكان الأصليين ونسلهم في أمريكا اللاتينية والأفارقة سكان جنوب الصحراء لا يصلحون لمهنة المواطنة أو ليكونوا رعايا. عشنا لنرى عجبا.


قالت الصديقة الهادئة معظم الوقت “صدقوني أيها الأعزاء فأنا لا أريد أكثر من أن أتحرر من سيطرة هذه الشبكة الخبيثة من أدوات الاتصال. تلاحقني في كل مكان، أو بالأحرى استولت على حياتي. أغوتني في لحظة انبهار فسلمتها أهم حواسي. صرت لا أرى ولا أسمع إلا من خلالها ولا أمشي إلا على خيوطها. لا خروج منها ولا فعل أمارسه إلا في حضورها. إنها الرقيب على ما يقال وما لا يقال. تعرفني أكثر من أمي وأختي وزوجي أو حبيبي، أكثر من كل بناتي وأصدقائي. أتوقف هنا، ولكن قبل أن أتوقف أود أن يعلم الجميع إنني أقف أمامكم امرأة منزوعة الأسرار بعد أن مزقت الشبكة الالكترونية كل ملابسي ثم أزاحت أستاري. لا أشعر بالخجل الذي كنت أشعر به عندما التقي ببشر أناقشهم في أمور تخصني وحدي. نعم نزعوا الخجل عندما انتهكوا بالصوت والصورة خصوصيتي. أنا امرأة بدون خصوصية. كيف سمحت بأن يحدث هذا؟ إنها معجزة العصر حققتها هذه الشبكة اللعينة، معجزة امرأة تخضع لكل من يقتحم حياتها. يحرم عليها أن تحتفظ لنفسها بشيء من نفسها. أعذروني إن كنت منفعلة. اسمحوا لي أن أكره في وجودكم الفيسبوك والانستجرام والواتس آب والتويتر. أحن الآن وأكثر من أي وقت مضى إلى الهاتف الأرضي ودفتر رسائلي الورقية. أريدهما وسيلتي للاتصال ولا أريد وسيلة أخرى معهما”.


طلبت التعليق صديقتها القريبة من عالم الأكاديميا. قالت “أقدر تماما حجم القلق الذي تسرب بالفعل إلى بيوتنا ومكاتبنا وشوارعنا وقصور تصنع فيها سياستنا الداخلية والخارجية وتتخذ فيها القرارات المصيرية. هذا القلق أسبابه متعددة، ومن أهمها بالتأكيد ما أشارت له وعانت منه صديقتي التي سبقتني في الحديث، وهو، وبصياغة أخرى إن سمحتم، انحدار قيمة الإنسان في الثقافة الصاعدة في زمننا وبخاصة في جوانبها السياسية والاجتماعية. من ظواهر هذا الانحدار بل وفي صدارته فقدان الخصوصية حتى كاد الإنسان ألا يخجل، كالحيوان، من انكشاف أدق خصوصياته أمام الأغيار. أقدر حجم القلق ولكني في الوقت نفسه أحذر من الانغماس في حديث النوستالجيا وأحذر أكثر من ممارسته.

أحيلكم معي إلى ما كتبه أستاذ علوم سياسية أمريكي واسمه جون موللر. كتب يدعو للحذر من هؤلاء الذين ما زالوا يعتقدون أن الماضي كان ناعما وبسيطا وبريئا إلى درجات أكثر كثيرا من حقيقته. الحاضر بالنسبة لهؤلاء سيكون بلا شك أصعب وأشد تعقيدا مما هو عليه فعلا. أصبحنا عندما نتحدث عن الماضي يتهموننا بانتقاد أوضاع الحاضر. إن نحن تحدثنا عن الأسعار في الماضي فنحن بالتالي نلمح إلى الارتفاع الباهظ في تكاليف المعيشة في الحاضر. إذا عرض أحدنا صورا لشوارع وسط القاهرة في الثلاثينات وكورنيش الإسكندرية حتى السبعينات فهو يقصد بالمقارنة قلة النظافة وشدة الإهمال وفوضى المرور وتدهور الأخلاق العامة، أي المقارنة بحالها الراهنة. المقارنة في هذه الحالة وهي تكاد تتكرر يوميا لا تحكي القصة كاملة وهي بذلك تزيد الأمر تعقيدا، وترسم الحاضر، كل الحاضر، في صورة بائسة وتجعل الأمل في المستقبل مهمة ميؤوس منها. يتحدث موللر عن العصر الذهبي وكيف أن لكل شعب عصره الافتراضي الذهبي. حقيقة الأمر، وهي حقيقة لا تخفى، أن لا شعب من الشعوب المعاصرة على الإطلاق كان شاهدا بنفسه على عصر ذهبي أو مشاركا في صنعه. العصر الذهبي حلم لا أكثر، أو لعله وهم أو خرافة ابتكرها مؤرخ يؤرخ للأمم من وجهة نظر حكامها وليس كما ترويه “حكاوي المقاهي” وسرديات كبار السن.

نقرأ كثيرا عن ماضي جرت أحداثه بانسيابية مدهشة، سلبياته تكاد لا تظهر فوق السطور أو بينها، مراحله مرتبة بعناية ومنتقاة بهدف. يطل علينا الحاضر أثناء قراءتنا لهذا الماضي الجميل، يطل علينا كئيبا وفوضويا وغير واثق من نفسه أو مؤكد استمراره. أخاف جدا أن يأتي إلينا قادة وحكام وسياسيون متأثرون بصورة هذا الحاضر الذي يطل عليهم وهم يقرأون عن هذا الماضي المرتب والأنيق والبريء فيخطئون. يخطئون إن ظنوا أن هذا الماضي “الافتراضي” قابل للاستنساخ. يخطئون أيضا إن استخلصوا دروسا ظالمة لشعوبهم أو بالغوا في تقدير دورهم وانتقصوا من قيمة أعمال من سبقوهم. أتذكر الآن كيف أن معظم جنرالات أمريكا صرحوا التصريح ذاته يوم تولوا أعلى مناصب القيادة، قال كل منهم ما معناه “أعيش أخطر أيام حياتي. الماضي لم يمثل لي أكثر من رحلة ظريفة. العالم اليوم مهدد بانفجار. نحن أقرب اليوم من حرب عالمية ثالثة. الأزمة الراهنة خانقة ولم نشهد مثلها من قبل. الحاضر كئيب وثقيل ومحشو بالمخاطر”.


تدخلت للتوقف عند هذا الحد ولأقترح موعدا لجلسة أخرى حول الموضوع نفسه، وبخاصة حول ما أثير بالتلميح وليس بالتفصيل عن آثار الانغماس في النوستالجيا على الحياة الزوجية وعلى العلاقات العاطفية بشكل عام. كثيرا ما نسمع هذه الأيام تصريحا من زوجة تشكو فتقول “لم تكن حياتي الزوجية في الماضي على أي درجة من درجات التوتر والقلق كما هي في الأيام الراهنة”. نسمع أيضا لأزواج عصبيي المزاج يقولون “كأطفال لم نكن مزعجين لأهالينا كأطفال هذه الأيام”. وزوجات متأففات يكررن القول إنهن لم يعدن يتحملن انتقادات الأزواج لسلوك أطفالهن. قالت إحداهن “هذا الرجل يجب أن يعرف أن والدي كان يقضي جل وقته معنا كأطفال. كنا أطفالا سعداء وكان الزمن بالفعل جميلا”. جاء رد الرجل عنيفا، “ولكني أدفع كمصروفات مدارس ما لم يدفع مثله أو نصفه أو حتى ربعه أباؤكم”. وبصوت خافت همست أحد الزوجات قائلة “لكنكم تدفعون المصروفات تعويضا عن إهمالكم الأطفال وتكفيرا عن ذنوبكم تجاه عائلاتكم. أهالينا لم يهملوا في تربيتنا ولم يرتكبوا ذنوبا”.


هكذا تتدهور العلاقة بسبب حالة نوستالجيا، حنين إلى ماضٍ “جميل”.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version