طلال سلمان

نقمة النساء

“أتسمي ما يقع بين المرأة والرجل في هذا العصر، عصر ما بعد العولمة، أتسميه خلافات وسوء فهم؟. إنها شرارات حرب عاشت البشرية قرونا تؤجل اشتعالها. غرسنا، نحن النساء، على مر السنين بذورها. عشنا نرويها بدموع شقائنا ويرويها الرجال بعنادهم، ولا أقول غباءهم أو أنانيتهم المفرطة كما تقول بعض زميلاتي هنا في هذا اللقاء. دعوني أولا أعرب عن سعادتي بعقد هذا اللقاء، لقاء التصارح والمواجهة مختلفا عن لقاءات الفضفضة والمسايرة التي تعودنا عليها”.


قبلت الدعوتين لإدارة حوار عن قضايا المرأة في عصر ما بعد العولمة متخيلا أنني سوف أنجح في الابتعاد بالحاضرين وأغلبهم من النساء عن عرض ومناقشة قضايا العلاقة مع الرجل. لم أنجح.


“خدعنا الرجال. ابتكروا أساطير ثم أبدعوا في صنع أدوات تقديسها فقدسناها. لم يكتفوا بالتقديس. خافوا منا على قدسية ما ابتكروا فأحالوها إلى مشرعين لتخرج الأساطير من تحت أيديهم قوانين حاكمة. قدمونا إلى الآلهة قرابين. حرموا علينا الصلاة في المعابد وغرسوا الشكوك في صدق إيماننا وعبادتنا فصارت وقيعة بيننا وآلهتنا. لم تشفع لنا عندها جروحنا وعذاباتنا وسوء المعاملة فانضم أكثرها، أقصد الآلهة، إلى صف الرجال. كنا دائما في الصف الثاني. كبير الآلهة رجل. الكاهن الأعظم رجل. حماة المعبد والعقيدة رجال. تمردنا فكنا نكسب وقتا ونخسر قلوبا. حاولوا كسر إرادتنا واعتزازنا بكرامتنا. اجتهدوا لنتصور منذ مطلع عصور الرسم على الصخر في هيئة جسد نحيل يجره من شعره رجل عريض المنكبيين منتفخ العضلات متوحش القسمات يحمل في اليد الأخرى عصاة عرفناها مع مرور الزمن أداة تهذيب وتصحيح، أو لنتصور عراة حتى من ورقة توت كان الظن السائد بيننا أنها تحمينا من شر نظراته وقسوة نواياه”.


سمعت قبل أيام عن دورية تصدرها في ولاية كاليفورنيا كاتبة من المثقفات المعروفات في الساحل الغربي. تحاول الدورية تهدئة التوتر الناشب في العلاقة بين الجنسين في الولايات المتحدة، ومن هناك انتقل إلى أرجاء العالم. التوتر بهذه المناسبة ليس جديدا ولا العلاقة المشدودة حينا والمرتخية حينا آخر. أذكر، وكنت في طفولتي منصتا جيدا، أذكر أحاديث النساء في عائلتي الممتدة عندما يجتمعن بعيدا عن الرجال. الآن أظن أن قضاء نهاية الأسبوع في البيت الكبير كان لخدمة وظيفة محددة أكثر من وظائف أخرى. كانت كل منهن تحضر وفي جعبتها مظالم وشكاوى وتعود إلى بيتها مع مطلع أسبوع جديد وقد هدأت نفسها فتسكن إلى رجلها، الذي هو في البداية وفي النهاية قدرها ومصيرها. لا أذكر أن طلاقا واحدا وقع في هذه العائلة على امتداد سنوات إنصاتي ثم سنوات تنصتي. أتصور أن الفضل في هذا السلام العائلي يعود إلى تلك اللقاءات ومثيلاتها حيث تسري النساء عن بعضهن البعض ويفضفضن ويتبادلن الحلول والتوصيات ويعدن للتقييم والتزود بالجديد.


“سيدي، لم يكن سلاما. لا سلام يتحقق وطرف من الطرفين منزوع أسباب القوة وطرف مسلح بكل أسباب القوة حتى قمة رأسه. هي لا تعمل ولا تتعلم ولا تناقش غرباء ولا تعاشر غير قومها فمحصلة معارفها ومعرفتها تبقى قاصرة. علاقة غير متكافئة فبالله عليك كيف تطلق عليها صفة السلام. أسمح لي أن أستعير منك بعض مفاهيمك. هل قام سلام في عالم علاقاتكم الدولية بين طرفين ميزان القوى بينهما مختل. تستطيع أن تفرض عليهما الامتناع عن استخدام القوة ولكنك لن تفلح في نزع كل أدوات ممارسة الصراع. الآن يا سيدي نعيش ظروفا مختلفة. لدينا نحن النساء أسلحة ونسعى للحصول على المزيد. وبهذه الأسلحة القليلة مثل الخروج إلى العمل وتحصيل درجة عليا من التعليم والمعرفة والتوسع في إقامة شبكات من المعارف ننوي شن معركة بعد أخرى لنصنع توازنا حقيقيا للقوة. عدئذ يمكن للسلام بيننا أن يتحقق”.


تدخلت سيدة أخرى أصغر سنا. لفت نظري وربما نظر غيري من المشاركين عدم اعتنائها بمظهرها الخارجي. حسبتها تقلد متمردات العالم الغربي فوجدتها أكثر تطرفا منهن. قالت “سمعت زميلتي تدعونا لانتظار توازن في القوى حتى نحقق السلام. لا يا أعزائي. اسمعوها مني. لن نحقق شيئا قبل أن ننتقم لكل النساء اللائي تعذبن عبر القرون. يجب أن نكون أوفياء للجنس الذي ننتمي إليه. جئت لهذه الدنيا كما جاء الرجل، جئنا شريكين لأداء وظيفة محددة. لن يؤديها منفردا ولن أؤديها بدونه. حاجتي إليه هي نفس حاجته لي. لا سببا واحدا يمنحه الحق في الهيمنة. تصور خطأ أن ضعف بنيتي يعوضه قوته الجسدية. لم يعرف بعد أن لضعفي وظيفة سخرتها الطبيعة لخدمة أهداف لها وأن لقوته وظائف تخدم أهدافا لست أنا بينها. هذا الشريك الذي اختار مسالك العداء في علاقته بي أو في فهمي لشراكتنا ارتكب في حقي أخطاء ترقى قانونا إلى مستوى الجريمة فهو بذلك يستحق من المجتمع العقاب، ومنا يستحق الانتقام. وسننتقم. وما نفعله الآن تحت اسم حملات ضد التحرش وحملات “أنا أيضا” ما هو سوى عمليات تسخين لنساء العالم استعدادا لحملات انتقام من الرجل أشد قسوة وعنفا”.


“دعونا لا نذهب بعيدا في التعبير عن الضيق أو حتى الغضب”. قالت إحدى المشاركات بصوت يكاد لا يسمع. “ما فعلناه حتى الآن بالرجل يكفي ويجب التوقف هنا. لقد تدهورت أجواء العمل في كثير من المنشآت والشركات ودور الحكومة بسبب الحملات التي قمنا بشنها لترهيب المتحرشين. كان انتقامنا رهيبا. بالغنا فيه وتسببنا في ضرر جسيم لرجال عديدين وبعضهم أكد براءته ولكن بعد أن حطمنا مستقبله وشوهنا سمعته. لا أدعو لوقف مساعينا لتعويض ما فاتنا ولكني أتمنى أن نجعل عنوان حملاتنا استرداد ما سلبه الرجل من حقوقنا مستخدما احتكاره للسلطة وأدواتها”.


هذه ليست ثورة الكعب العالي حسب تعبير رجل مستهتر أو متخلف، وليست مرحلة عابرة وبعدها تعود الأمور إلى ما كانت عليه. هذه ليست مجرد محاولة من جانب المرأة للحصول على مزيد من الحرية ومزيد من مشاركة الرجل في امتيازات انتزعها لنفسه بدون وجه حق. هذه أكثر من نتيجة تضاف إلى قائمة سلبيات العولمة وليست خدعة باسم تمكين المرأة لإسكاتها عن حقوقها الأهم والأكبر. هي الخطوات الأولي في مرحلة جديدة من مراحل تطور الحضارة، مرحلة معقدة لأنها المرحلة التي سوف تشهد العواقب السياسية والاجتماعية للانتقال إلى عصر الذكاء الاصطناعي واحتلال الإنسان الآلي الجديد مكانه جنسا ثالثا إلى جانب المرأة والرجل. تعالوا نفكر في واقع جديد لن نكون وحدنا على مسرحه.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version