لم يعد ما تشهده سوريا من أهوال بين تعبيراتها الدموية المباشرة جرائم القتل الجماعي الوحشية في أحياء سكنية أو قرب دور العبادة والمدارس، صداماً بين نظام حديدي لا يقبل الاعتراض ومعارضة «تقاتل» من أجل الحرية والديموقراطية والتعددية السياسية.
ولم تعد الوقائع اليومية المفجعة في دمشق وحلب وغيرهما مجرد تعبير بالسلاح عبر قتل أكبر عدد من الناس، نساءً وأطفالاً وعابري سبيل ومكافحين خرجوا في طلب اللقمة، عن تعاظم حركة الاعتراض على الإصلاح الذي تعهّد النظام تنفيذه وباشره عبر خطوات بطيئة وقاصرة عمّا يطمح إليه الشعب في سوريا ممّا يعتبره حقوقه الطبيعية في وطنه.
لقد تدهور «الوضع الميداني» عبر لجوء «قوى مجهولة» إلى التفجيرات التي تتسبب بمذابح جماعية يذهب ضحيتها العشرات من المواطنين الأبرياء، وتنشر الذعر في كل مكان.. والأخطر أنها تلغي «السياسة» وتخرج القوى «المجهولة» التي تنفذها من خانة الاعتراض لتصنفها في خانة «السفاحين» ممّن يتقصدون تدمير سوريا جميعاً، بدولتها وشعبها ومراكز الإنتاج فيها، وبمعزل عن المواقف السياسية لهيئاته وتنظيماته المعارضة إلى حد المطالبة بإسقاط النظام.
وترتكب المعارضة، لا سيما الخارجية منها، بأشتاتها وفرقها المتنازعة على مشروع «سلطة المستقبل»، خطأً سياسياً قائلاً بتبني هذه العمليات الوحشية وتوهم الإفادة منها عبر الصمت عن طبيعتها الإجرامية، لاغية السياسة، والهادفة إلى ضرب أي مشروع أو أية محاولة لتوفير حل سياسي لهذه الأزمة السياسية الخطيرة التي تعصف بسوريا ويفتح تأخير حسمها أبواب الحرب الأهلية على مصراعيها.
لقد أسقطت مواجهة النظام معارضاته الداخلية بالسلاح الكثير من فرص الحل السياسي لهذه الأزمة الدموية الخطيرة التي تتهدد وحدة الشعب ودولته، من دون أن تلغي احتمال ابتداع مثل ذلك الحل المطلوب، الذي تتولى روسيا حالياً (معها الصين) صدارة الجهد المبذول من أجل إنجازه.
صار النظام أكثر وعياً بأن الحل الأمني يأخذ إلى تفتيت سوريا، خصوصاً في ظل «الجهد الأخوي» الذي يبذله أهل النفط أساساً لتعقيد الأزمة ودفعها إلى ذروة الخطر، بتعطيل دور الجامعة العربية، بل وباستخدام هذه المؤسسة العريقة والتي كانت سوريا من مؤسسيها لشرعنة «التدخل الدولي» عبر نقل المسألة إلى مجلس الأمن… ولقد وفر الفيتو الروسي ـ الصيني الفرصة لإفشال هذه الخطة بشرط تسريع الإصلاح وتعميق ركائزه العتيدة وعدم الاكتفاء بعمليات تجميل المظهر، مع إبقاء الطبيعة القمعية للنظام على حالها من القسوة التي بين عناوينها اتهام أي معارض بالعمالة للأجنبي.
وبدافع الحرص على سوريا، دولة وشعباً، انتقلت قيادة «حزب الله» من مرحلة تقديم النصح إلى النظام ورئيسه سراً ومن دون إعلان، إلى إطلاق الدعوة علناً وبلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله.
يوم الخميس الماضي توجه «السيد» علناً ومباشرة إلى الرئيس السوري بشار الأسد وإلى المعارضة أيضاً داعياً إلى اعتماد الحل السياسي، مؤكداً أن ليس هناك إلا الحل السياسي للخروج من المأزق الدموي التي حوصرت فيه سوريا…
وبعد أن مهّد لاقتراحه بعرض المخاوف على سوريا، وبالتالي على المنطقة، من التقسيم، إلى الحرب الأهلية والفوضى، ومن إضعاف سوريا بما تمثل من موقع قومي في الصراع العربي الإسرائيلي، دعا «السيد» السلطة والمعارضة إلى مراجعة تؤدي إلى حل سياسي: «يعني إلقاء السلاح بشكل متزامن وضمن آلية متفق عليها للدخول في حل سياسي واضح وممنهج، وغير ذلك سيكون المزيد من النزف… ومن يريد أن يسقط سوريا أو أن يسقط النظام بأي ثمن لم يستطع أن يفعل ذلك..».
يفترض أن ليس للرئيس السوري بشار الأسد من الأصدقاء مَن هو أحرص عليه شخصياً، وأعظم تقديراً لدور سوريا في مساندة المقاومة في لبنان، من «السيد»… ومن باب الحرص على سوريا نراه يشدد على «أن هناك شعباً في سوريا يريد الإصلاح ولا يريد التقسيم ولا يريد حرباً أهلية ولا حرباً طائفية ولا يريد مطحنة ولا يريد أن يكون عرب خيانة ولا يريد أن يكون عرب اعتدال ويريد أن يبقى مقاوماً وممانعاً ووفياً لفلسطين».
بالمقابل، يمكن التأكيد أن التفجيرات الوحشية التي ضربت دمشق في قلبها ثم ضربت كنيسة ومدرسة في بعض ضواحي حلب، تتجاوز قدرات «المعارضة السياحية» التي تجول بين العواصم متوسلة التدخل الخارجي عسكرياً وليس سياسياً فحسب، فضلاً عن أنها تؤذيها إذ تشطبها من المعادلة السياسية اللاحقة..
لقد دخل «الإرهاب» الذي تتقنه جماعات أصولية وافدة أو كانت كامنة في بعض أنحاء سوريا، في توقيت مفضوح القصد ومزدوج الغاية: إذ أنه قد يدفع النظام إلى مزيد من التورط في الدم، بما يقفل الباب على أي حل سياسي، أو يلغي وجود المعارضة السياسية أو يكشف عجزها، وفي الحالين فإن ذلك كله قد يلغي دور «السياسة» في توفير الحل الضروري لإخراج سوريا، بشعبها ودولتها من الدوامة الدموية التي تطحن حاضرها وتهدد مستقبلها.
إن النظام الذي استعرض قوته بما يكفي، والذي عجز ـ برغم ذلك ـ عن حسم الأزمة، وتوفير المناخ اللازم للتسوية السياسية، مطالب الآن وأكثر من أي وقت مضى بوقف آلة القتل، والتصدي للمهمة الصعبة التي تتطلب قوة الإيمان بالوطن وشعبه، أكثر مما بقوته العسكرية، وهي: المبادرة إلى الدخول في حوار جدي وفوري مع المعارضة الوطنية التي يعرف رموزها الذين بقوا في الداخل برغم كل الإغراءات التي قدمت إليهم، ويعرف ـ ويعرف السوريون ـ أولئك المعارضين الذين شاءت لهم مقاديرهم أن يكونوا في الخارج أو أن يبقوا فيه، إما بدافع الخوف من التصفية، أو نتيجة فقدان الأمل في أن يتصرف النظام بعقله لا بمدافعه.
وأن يتحرك النظام متأخراً يظل خيراً من ألا يتحرك في اتجاه التسوية السياسية التي من شأنها أن تحفظ سوريا وهو فيها…
وماذا ينفع النظام أن تذهب سوريا إلى الحرب الأهلية أو إلى خطر التقسيم الذي حذر منه رئيسها، وكأن القرار في منع وقوعه بتسريع التسوية السياسية، هو في يد غيره.
إنها الفرصة الأخيرة لاستنقاذ سوريا من خطر التمزق بالفتنة التي توسع الباب أمام التدخل الخارجي الذي «يطمح» إلى ضرب الوحدة الوطنية في سوريا بما يفتح أبواب جهنم على المنطقة جميعاً، بدءاً بلبنان وصولاً إلى العراق (ومعه الأردن)، وربما تجاوزها جميعاً إلى اليمن مروراً بالبحرين… من دون أن يعني هذا أن أهل النفط سيكونون بمنجاة من أهوال الكارثة القومية المقبلة وسط تواطؤ دولي وغفلة «إسلامية» نتيجة حالة النشوة التي تعيشها بعض التنظيمات الإسلامية التي يأخذها قصور الوعي إلى الافتراض أنها لا تصل إلى السلطة إلا عبر الكوارث الوطنية التي تلغي «مناضلي الأمس» ولا تستبقي غيرها.