طلال سلمان

نخطئ كثيرا وقلما نعتذر

أخطأ في حقي ولم يعتذر، رجل كالرجال يتخيل أنه لو اعتذر مرة واحدة فقد هيبته في بيته إلى الأبد، يريدني أن أغفر له فعلته دون أن يعتذر. يقول عن صديقتنا وعن جارتنا إنهما لا تلحّان في طلب اعتذار من زوجيهما عن أخطائهما والأمور في بيتيهما تسير على ما يرام، أرد عليه بأن الأحوال في البيتين ليست على ما يرام كما يعتقد. أنا أدرى منه بما في الصدور وفي النوايا وبأعمال لا تراها إلا عين الريبة أو الفضول.. شرحت له أكثر من مرة أن رجلا يعيش حاملا وزر خطأ إنما يمشي بين الناس كما يمشي شخص يرتدي حذاء دخلت إليه حصى أو يرتدي قميصا لطخت صدره بقعة حبر أو تأنق بربطة عنق سقطت عليها قهوة من فطور الصباح، لن يهدأ باله ويتصرف على طبيعته إلا إذا تخلص من الحصى في حذائه والبقعة من على قميصه وربطة عنقه.

***

تدخل أصدقاء الخير ليعتذر الزوج فاعتذر، ولكن لم تقبل الزوجة اعتذاره. قالت له أمام حشد حريص عليهما، سمعتك تعتذر ولم أشعر بك تعتذر. كلماتك لم تتجاوز طرف لسانك لتعبر عن حقيقة ما يدور في صدرك. أقبل اعتذارك في حالة واحدة، أن يأتي ومعه ضمانات ألا يتكرر الخطأ. هذه الضمانات لا تكون بالكلمات. أقبل اعتذارك إذا صمدت عيناك أمام عيناي، ولم ترجف يداك وهما بين يداي، وإذا ارتاح قلبي. أستطيع أن أفعل ما تفعله صديقتنا وجارتنا وما تفعله شقيقتي وربما فعلته أمي على مدارات السنين. أتظاهر بقبول اعتذار أعلم حق العلم أنه لم يصدر من قلب ولا يرافقه ضمان واحد بعدم تكراره، أقبله فقط لزوم «الاستقرار العائلي» والمظاهر الاجتماعية وما في القلب يبقى في القلب.

***

ستطردت في الحديث بعد أن انتشر معظم الحشد في أنحاء متفرقة من المكان. أرادتني شاهدا على صدق ما تقول. قالت، سمعتهن وهن يطالبنني همسا بأن «أفوت»، أن لا أعند وأتصلب وأزيد الأمور تعقيدا. قالت احداهن، في همس أكثر خفوتا، الرجال يخطئون ونحن أيضا نخطئ. لا تطلبي المكاشفة وتصري عليها فالمكاشفة ليست دائما في صالحنا. أخطاؤهم إن اعترفوا بها سوف يعتذرون عنها وسنغفرها، أما أخطاؤنا فلن يغفروها لنا وإن اعتذرنا.
أنت خير من يعرف موقفي. لا يقوم طويلا حب على كذب. أشباه الحب كثيرة وتقوم عليها بيوت أيضا كثيرة، بعضها يعيش طويلا وأكثرها لا يعيش إلا قليلا، والإحصاءات الأخيرة للأسف تؤكد ما أقول. لم أفترض حين تزوجت أننا سوف نلتزم بالأمانة الواجبة والدقة المتناهية بعهد المصارحة. كنت تعلمت من تجارب ما قبل الزواج ضرورة أن احتفظ في صدري بشيء لنفسي. لم أطلع عليه أمي ولا شقيقتي، حتى أنت أبقيته عنك سرا بين أسراري التي لا تعرفها إلى يومنا هذا. لم أطالب زوجى بسيرة حياة في طول وتفاصيل سير الحياة التي يتقدمون بها هذه الأيام إلى جهات التوظيف. لم أطالبه ولم أتطوع بواحدة من عندي.

***

تعلمت أيضا أن في الاعتذار فوائد عديدة. كلنا نخطئ وقليل من يعتذر. عودت نفسي ألا آوي إلى فراشي إلا بعد أن أكون قد اعتذرت لكل من أخطأت في حقه خلال اليوم. أقضى ساعات ما بعد ارتكابي الخطأ قلقة ومتوترة حتى اعتذر فأعود إلى بشاشتي المعهودة وإلى سلامي العقلي والقلبي. آمنت، وكثيرا ما ناقشت الأمر فلسفيا معك، آمنت بأن العيش مع وزر خطأ كفيل بأن يقطع الحبل الذي يربط الماضى بالمستقبل. عشت واثقة من أننى لن أحصل على المستقبل الذي أحلم به طالما ظلت معلقة بإزاري أوزار أخطاء من الماضى. أمشى فيخيل إليّ أننى، لو كنت استسلمت لها وعشت عبدا لها، لمشت هذه الأوزار في ركابي كالغربان تطارد بأصواتها أحلامي وآمالي في مستقبل أفضل من الماضي.

***

صديقي الأكبر سنا وخبرة، لن أطيل عليك فلعلك سئمت أحاديث النساء وشكاواهن بعد أن كثرت وتشعبت في السنوات الأخيرة. لن أعمم، كما يعممن، فأتهم كل الرجال بخاصية أو أخرى، هي لدى البعض منهم وليس الكل. أخشى أن يجرفنا التيار الذي سبق أن جرف جماعات شعرت بالغبن وجاءتها فرصة الشكوى ثم فرصة لاسترداد الحق، استعذبت الحق الذي استعادته فراحت تكيل الاتهامات للجماعة التي كانت ظالمة. تحولت، أو هى تتحول بلذة المتحرر وطاقة النصر، من مقهور إلى قاهر. أخشى علينا، نحن النساء، من هذا المصير.

***

لست من أنصار الاعتذار الجماعي لاستعادة السلام الاجتماعي أو الدولي. اعتذر الشعب الأبيض للشعب الأسود في أمريكا عن أفعاله الوحشية عبر القرون، ولم يهدأ الخصام بل يستعر أشد مما كان. اعتذر بابا الفاتيكان عن أعمال دنيئة ارتكبها رجال دين من أتباع كنيسته في بعض المجتمعات، ومع ذلك لا يبدو أن هناك قبولا في هذه المجتمعات لهذا الاعتذار. في نظر الناس هو غير كاف وسيبقى غير كاف طالما لم يغير رجال الدين أنماط سلوكهم وصيغ خطابهم التي لم تتغير خلال قرون هيمنتهم واستمتاعهم بمميزات استثنائية. صحيح أن الاسلام، كما يشاع عنه، لا يعرف الكهنوتية، ولكنه صحيح أيضا أن الأزمة الراهنة في العلاقة بين رجال الدين والمجتمعات التي يعيشون فيها سببها ما راج من حقائق وأساطير عن سلوك كثيرين من رجال الدين وعن طموحاتهم السياسية. هذه الأزمة لن يحلحلها اعتذار من القمم الدينية يصدر في شكل خطاب أو بيان. هناك أيضا اضطهاد المصريين المسلمين للمصريين المسيحيين والظلم الذي وقع على شعوب أفريقيا من دول الاستعمار والخراب الذي حل بالعراق على أيدى القوات المسلحة الأمريكية وقوات المرتزقة. هناك الإبادة المنظمة لتاريخ وحقوق شعب فلسطين على أيدي الغزاة من اليهود. كلها وقائع وأوزار أخطاء وظلم لن يخفف منها إلا اعتذار عنها تضمنه إجراءات حقيقية تضمن عدم تكرارها وإزالة آثارها.

***

أشكرك على التزامك حسن الإنصات كعادتك. أفوضك في أن تنقل لزوجي، ولكل من أخطأ وأراد الغفران، أن يعيد صياغة اعتذاره بحيث يتضمن ضمانات جادة بعدم التكرار. إذا لم يفعل وعاد إلى اعتذاراته الجوفاء فستعذرني إذا رفضت اعتذاره وأبقيته في تاريخي معلقا بحبل واه يمكن أن ينقطع في أي لحظة.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version