الرأسمالية تضع البشرية أمام خيار واحد هو البربرية والوحشية، ولا تسمح بالخيار الآخر وهو التعاون والشيوعية. فعلت كل ما بوسعها لمنع الخيار الثاني. أصرت على أن التنافس والتقاتل هما الطبيعة البشرية، وأنها، أي الرأسمالية، توازي هذه الطبيعة أو هي تعبير عنها.. وكل تعاون بشري هو خروج عن الطبيعة، وتكاد تعادل ذلك بالميوعة والسذاجة.
جشع الرأسمالية لا حدود له؛ ثروات تفوق الخيال وهي مقتطعة من عمل الآخرين. شراستها تبلغ ما يفوق احتمال الجنس البشري، إذ هي تلتهم الناس في الحروب العالمية الكبرى والصغرى والمحلية. في ذلك هي تنتهك البيئة (الطبيعة) بما يفوق ما يمكن أن يحافظ على توازناتها. تهب العواصف المدمرة في غير الفصول المعتادة. كذلك تنتشر الحرائق والفيضانات في مناطق، والجفاف وانقطاع المطر في أماكن أخرى في غير مواقيتها وأماكنها المعتادة. وسلسلة الكوارث تطول، منها ما هو واقع فعلاً، ومنها ما لم يقع بعد، لكن الحديث عنه أصبح يومياً ومعتاداً عليه. فكأنه في أمر اليوم أو الغد التهديد النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل. ما احتاجت حروب الإبادة الى هذه الأنواع من السلاح بعد، لكن الحروب الواقعة في مختلف أصقاع الأرض تبدو مقدمات لما يمكن أن يحصل، ولدى العرب من أثر هذه المقدمات ما يُخيف.
وكي لا تبقى الشيوعية والماركسية مجرد نقد سارٍ للرأسمالية، يتوجب علينا البحث بل العمل لتغيير مسار الجنس البشري، وهذا فعلاً قد فقد زخمه، إن لم تكن قدرته، على التغيير. فقد تحدث الكثيرون من الكتّاب والأكاديميين عن تطويع وتدجين البشر عن طريق مجتمعاتهم التي صارت ذات محتوى واحد، هو أنها تحولت إلى مجتمعات استهلاكية. الإنتاج تصنعه البروليتاريا وتصادره الرأسمالية. أما الاستهلاك فهو متروك للبشر عامة، الذين تغرق مجتمعاتهم بالفقر والجوع، الظاهر أو المستتر، والبطالة الفعلية أو المخفية، واللامعنى المحقق واقعاً، وتفاهة الوجود إلا بأوهام ما يضخ الى الأدمغة من معلومات شبكة الانترنت وبقية وسائل الإعلام، وهي ما يظن متلقوها أنها معرفة، ويجهلون كونها أدوات تدجين وتطويع، بل إخضاع لنظام العالم الرأسمالي كما هو. تكثر في الزمن الحاضر وما قبله الانقلابات العسكرية في البلدان التي كانت تسمى عالماً ثالثاً، الى أن حصلت محاولة الانقلاب على الانتخابات في الولايات المتحدة في كانون الثاني/يناير 2021، أي في مركز الامبريالية، فكدنا نظن أن الرأسمالية لا تريد نفسها فقط، بل تريد نفسها وبقية العالم على الصورة التي رسمتها الطبقة العليا.
حتى الآن نجحت الطبقة العليا في تطويع وتدجين الطبقات العاملة والطبقات الدنيا عموماً، ونجحت في “إقناعها” أن هذا هو الواقع الذي كُتب لها، وأنها لن تستطيع اختراق النظام إلا لبعض الأفراد المحظوظين. وأفلحت الطبقة العليا في إقناع الطبقات الدنيا أنها انتخبت بالديموقراطية من يمثلها، علماً بأن مختلف المرشحين هم من الطبقة العليا الذين تربطهم بمصالحهم روابط أقوى من الدوافع الإنسانية. ورضي، حتى الآن، فقراء البشرية بأشكال الإحسان، وما تقوم به المنظمات الإنسانية (وما يسمى منظمات المجتمع المدني التي تتميّز بنزعة تطوعية).
التفكير بالمستقبل عمل يقوم به أكاديميون في مراكز تُموّلها الطبقة العليا أو الدولة التي تسيطر عليها هي. وما يُنشر في وسائل الإعلام أو ما يسمى “التواصل الاجتماعي” هو بث لتفكير الطبقة العليا. لا سردية واعية وثورية إلا عند قلة من الناس، خاصة بعض أكاديميين ومثقفين ذوي مواقع خارج النظام مادياً أو معنوياً. لذا، يبدو المستقبل كالحاً.
سوف تستمر الرأسمالية في نهبها لعمل البروليتاريا، والفقراء عموماً، وفي استباحة البيئة وتخريبها، وفي خوض الحروب، ليس لاستهلاك البشر وحسب، بل لاستهلاك وعيهم أيضاً. تحليلات الجيوبوليتيك الصادرة باستمرار والمبثوثة بواسطة الإعلام، تدور كلها حول موازين القوى والحروب القادمة. كل فريق، كبر أو صغر، عليه أن يتحسّب تجاه الأخطار القادمة. هو نظام رأسمالي للمنافسة الاقتصادية. وهو في الوقت نفسه للمنافسة العسكرية، حتى دون حروب واقعة ضد أخطار محتملة. ربما كان في أساس الحرب منذ أقدم الأزمنة أن الكل يعتبر نفسه مهدداً ممن يحاربه. تصير الحرب احتمالاً عند الشعور بالخوف حتى ولو لم يكن مبرراً. إن أكلاف كل حرب تفوق مردودها إلا إذا كانت السيطرة لبلد على آخر تمنحه الفرصة لنهب البلد المغلوب. فالامبريالية تبدو متجذرة وإن بأشكال مختلفة.
برغم كل ذلك، يتوجب على كل الذين يعتقدون باستحالة دوام الرأسمالية، وما يرافقها كنظام للحرب والنهب والسيطرة، أن يعملوا ويستعدوا باستمرار من أجل إسقاط النظام الرأسمالي الذي لا يستطيع أن يعد البشرية إلا بمستقبل مضمونه البربرية، وإن بدت الظواهر غير ذلك. العمل الثوري واجب على كل ذي شرف وصدق ونزاهة. لكن التوقعات يجب أن لا تفوق الاحتمالات إلا عند المتهورين الذين يمكن نعتهم بأنهم لا يدرون من الثورة إلا أنها مؤنث.
على الرغم من وجوب تحويل الثورة الى عمل إرادي بالسعي الدؤوب واليومي لنشر وعي ثوري يكشف المستور عن النظام، إلا أن ذلك لا يمنع أن الثورة متى حصلت، لن تكون فعلا إرادياً، على الأقل لن تكون إرادة نخبوية. الثورة الحقيقية لن تكون إلا مجتمعية، تشارك فيها جماهير الناس. وهي بذلك تتجاوز الإرادة الفردية، أو إرادة جماعات من الزمر والنخب مهما كانت شديدة التنظيم. الثورة تحدث، وسوف تحدث، تلقائياً لدى الجماهير، وإلا كانت انقلاباً، علماً بأن الانقلابات في غالبيتها عسكرية، وهي صارت ممجوجة ومشبوهة. الثورة زلزال يحدث كما ظواهر الطبيعة. لا يمكن أن تكون هناك نظريات ثورية إلا تقريبية وتجريبية كما نظريات الزلازل والعواصف في علم الجيولوجيا.
مشكلة من يتصدى للثورة مزدوجة، تتعلّق بالفهم والممارسة. الفهم يأتي أولاً عند النخب لكن للممارسة الأسبقية عند الجمهور. ليس المطلوب أن يكون الجميع أصحاب نظرية، لكن أن يكونوا أصحاب ممارسة. تختلف القدرات العقلية كما الجسدية عند الناس. لكن في جميع الأحوال لا يجوز حجب المعرفة الثورية عن العامة، علماً بأن هؤلاء لم يصيروا كذلك إلا لأن النظام صيّرهم كذلك. فالعمل الثوري يكون بجزء منه تثقيف العامة، ولا خجل من استخدام تعبير فرضه النظام، شكلاً ومحتوى.
عندما حدثت الثورة العربية عام 2011 لم تكن مشكلتها عدم وجود برنامج، بل عدم وجود النخبة المدنية التي تقود الناس، فانقسمت الثورة بين الإسلاميين والعسكر، وكلاهما من طينة ذهنية واحدة، وهي طينة التأخّر والاستبداد بالرأي والقبض على الحقيقة والاستعلاء على الآخرين والانغلاق الفكري والاجتماعي. في السودان، كانت ثورة عارمة شعبياً، لكن العسكر استلموا السلطة ودخلوا في صراع مع الجيش الموازي (قوات التدخل السريع). وفي تونس التي انطلقت منها ثورات كل البلدان العربية الأخرى، تسلّم السلطة بعد سنين من حكم حزب النهضة رئيس منتخب هو سابقاً استاذ جامعي حقوقي، لم يكن أقل استبداداً.
يقع على عاتق النخبة الثقافية العربية عبء دراسة هذه التجارب وغيرها في البلدان العربية. لا يكفي أن نضع الملامة على الثورة المضادة أو الامبريالية أو العسكر، أو ما شابه ذلك؛ الحقيقة أن الثورة حدثت، وهي تتكرر. قام بها جمهور الأمة لكنه انهزم، ولم تكن هناك نخبة عالمة عارفة كاريزمية قادرة على الإمساك بزمام الأمور كي تقودها.
ما لدينا هو فقرة تتلو فقرة، بالأحرى فكرة تتلو فكرة، والأفكار تتردد وتتكرر. مثقفونا كسالى. لا تتشكّل نخبة فاعلة من أمثال هؤلاء. نعجز عن التفكير بحالة النهوض أو التمييز بين ذلك والثورة. يشكل العرب جزءاً من العالم، وأنظمتهم بات جزءاً هاماً من الرأسمالية العالمية. لكن الأهمية تحولت تفاهة. لا يحكم من يحكمنا لولا هذه التفاهة.
حقٌ علينا أن نفكر بالرأسمالية وبنظامها العالمي وموقعنا فيه عوض أن نلقي اللائمة في مصائبنا على ما نسميه الامبريالية. هي واقع لا نعرفه، ولا يعرفه عارفونا. لغتنا تحتاج الى مصطلحات جديدة كي نفهم العالم بواسطتها. ندعو للخروج الى العالم والانخراط فيه، وإذا فعلنا فنحن مثل “دويك” في أول نزوله من القرية الى المدينة.. “وتخجل العروبة من عروبتنا”، كما قال نزار قباني.
أمة مسحوقة عاجزة مهزومة في نظام عالمي رأسمالي لا يرحم. ما نسميه الامبريالية هو نظام سيطرة ونهب وسرقة. الغالب يسيطر بالقوة أو احتمال استخدام القوة، لكن القوة ثقافية وعسكرية. ثقافة المهزومين تبقى مقيدة بثقافة الغالبين حتى إشعار آخر، وعلينا التفكير بكيفية الخلاص من ذلك. وما الظن أن الأمر سوف يتحقق دون نهوض مجتمعي يعتمد فكراً نظرياً جديداً مبدعاً خلاقاً. حتى الآن لا يبدو أننا ولجنا هذه الطريق؛ ولا انتهجنا سبيلاً يختلف عما سبق.
يتبع…. لكن عن الحداثة هذه المرة.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق