طلال سلمان

نحلم لنعيش

فؤادة: اشتقت لك. تباعدت المسافات فلم نعد نلتقي كثيرا كما تعودنا. تعرفين كم  فرحت بزواجك. لم أقدر وقتها صعوبة الفراق. لعلك  تذكرين لحظة ودعتك عند باب غرفتك في الفندق وأنت ترفلين في فستان عرسك وزوجك يستعجل رحيلي بعينيه وتوتر ساقيه وتلعثم كلماته، أنا أّذكرها. كانت لحظة مشحونة بتفاصيل علاقة حب توشك أن تتحول إلى علاقة أخرى. كدت، من فرط تأثري بمشهد فتاة رائعة بكل المقاييس تسلم نفسها لغريب بعقد طويل الأجل إن لم يكن أبديا، كدت أكرر السؤال ونحن على باب الغرفة، هل أنت يا صديقتي واثقة من هذا الخيار؟. كنت أعرف حرصك على ضرورة توخي الحذر عند اختيار رفاقك من جنس الرجال. كنت أعرف أيضا أن الرجل في حساباتك مسألة معقدة لا تنفع العاطفة وحدها في حلها. تذكرين كم اختلفنا عند الحكم على رفيق في رحلة أو زميل في العمل أو معلم في الفصل أو مدير في العمل. كنت أضع شرطا للحكم عليه ترفضينه على الفور.

مريم: عزيزتي فؤادة، أعرف تماما ما تفكرين فيه وأتحسب له. أظن أن الفارق بيننا يتجاوز موضوع الحكم على أشخاص. نحن مختلفتان في طبيعتنا وأعتقد أن لهذا الاختلاف فضل على متانة العلاقة التي تربطنا. كنت دائما تنتقدين ما كنت تطلقين عليه برود عواطفي بل وذهبت إلى حد إنكار حيازتي لعاطفة تجاه أي كائن وأي شيء. تحدثت يا صديقتي عن ليلة زفافي وبالتحديد عن لحظة وصولنا معا إلى باب الغرفة التي سوف تكون الشاهد الوحيد على تفاصيل وأحداث الليلة الأولى في حياتي الزوجية. رأيت في وجهك في تلك اللحظة نظرة إشفاق وكأنك جازمة في اعتقادك أنني أخطو نحو أولى مراحل الزواج متحررة من أي عاطفة تجاه الرجل الذي سبقني في الدخول إلى غرفة النوم. أعذرك إن صح ما رأيت على وجهك من إشفاق أو ما يشبه الإشفاق فلم أتحدث أمامك عن خطيبي كما تتحدث صديقاتنا عن أحبابهن وخطابهن وكيف أن العشق كاد يذهب بعقولهن. كثيرات منهن انتهى زواجهن إلى انفصال أو إلى كارثة الطلاق المصحوب بأطفال بدون ذنب ارتكبوه. تعرفين كما أعرف أنهن لم يكلفن أنفسهن عمل حسابات ضرورية تحصن العلاقة ضد جنون العواطف.

فؤادة: نعم نحن مختلفتان، ونعم أنا أشفقت عليك ليلة زفافك من برود عواطفك، ونعم أنا قلقة على مستقبل هذا الزواج، ومع ذلك يبقيني متمسكة بك حبي لك وكل التجارب التي دخلناها معا. تعرفين أنني أعيش لأحلم.

أحلم في النوم وأحلم في اليقظة. تستنكرين ولعي بأحلام اليقظة التي فضلتها على أحلام الليل. يا صديقتي، أحلام اليقظة تعيش أطول من أحلام الليل وتتطور بإرادتنا الحرة والواعية. أحلام الليل يضيع بعضها أو أكثرها في النوم، أفضلها لأني خالقتها ومهندستها على عكس أحلام الليل التي لا تخضع لأهوائي ولا تتأثر بطموحاتي وأهدافي. أحلام اليقظة تسمح لي بأن أعيش مع أحبابي وأصدقائي في الوقت الذي أختاره وأن اشتبك مع المتنافسات ومثيري ومثيرات الفتنة والمفسدين والمفسدات. أستخدم فيها أسلحة أبتكرها وأسلحة استنسخها من أدوات الحب والحرب والكيد الناعم والمبالغة المحببة والكلمات المطعمة بعظائم المشاعر والعواطف. تأتي النهاية وأخرج دائما منتصرة فأنا لا أسمح لخصومي بتحقيق فوز على أرضي وتحت سمائي أو لحافي. تمتعني أحلام اليقظة بصخبها وانحناءاتها ومبالغاتها بقدر ما تقلقني أحلام النوم بصراحتها وصعوباتها وسرعة توالي أحداثها وعجزي عن التأثير فيها.

عزيزتي، لا أنكر ولا أقلل من فضل انحيازك للواقعية واعتمادها فلسفة حياة وأسلوب ممارسة ومعايشة. أنا نفسي أستعين بها أحيانا، وإن نادرة، لأخفف من غلواء سلطان العاطفة على أجهزة صنع القرار في قلبي وعقلي وباقي جسدي. أدعوك أيتها الصديقة الفضلى إلى الإكثار من تشغيل عاطفة أو أكثر من عواطفك وتنصيبها بين الحين والآخر حكم شرف في منظومة علاقاتك بأصدقائك ولكن بزوجك بخاصة. أخشى ما أخشاه أن يهرب هؤلاء من شدة برودة أعصابك وتصلب أوتار قلبك وجفاف منابع الإحساس في جسدك، أحسوا بها أو نقلتها إليهم أحاديث السير والنمائم.

مريم: يا فؤادة يا أقرب الناس إلى عقلي، تطلبين مني أن أتغير لغرض لا ألمسه ولا أحسه. تذكرين أنني استجبت لك أكثر من مرة، جربت وفشلت. تيقنت من ناحيتي أن مثل هذه الأمور لا تخضع للتجارب إلا في معمل مغلق وليست في عالم مفتوح يضج بالعواطف والرغبات والشهوات غير المحكومة. جربت فيما جربت، كما لا شك تذكرين، أحلام اليقظة وكنت إلى جانبي عندما تأكدنا معا أن هذا النوع من الأحلام يشترط لوقوعه توفر مؤهلات بعينها أهمها اعتماد الخيال مصدرا رئيسا للابتكار والتأليف، والحب إذا احتاج.

أقولها لك مرة أخرى وأكررها لثقتي في صحتها، أنا يا فؤادة كما تعلمين بنت الريف. في الريف ولدتني أمي وفي الريف نشأت. هناك تلقيت على أيدي جدتي وخالاتي وأخوالي أهم دروس الحياة. أنا لست مثلك بنت مدينة تعج بالصخب والعلاقات والمشكلات وحبلي على الدوام بكل أنواع التحدي وألوان الغواية وحوافز المغامرة. أنا بنت ريف ساكن وحافل بكل مألوف ومعتاد وكل ما هو غير قابل ببساطة للتغيير والتجديد. نعم أنا مختلفة عنك. أحبك ولكن لا أريد أن أكون مثلك وأتمنى ألا تجربي أن تكوني مثلي.

فؤادة: هنيئا لك يا مريم أسلوبك في الحياة طالما وهبك السعادة وراحة البال وأمنك ضد عواصف الدنيا وأنوائها. أود فقط وأنا أودعك أن ألفت انتباهك إلى حقيقة تمس حياتنا نحن الاثنتين.  يا صديقتي، قد لا يكون الخيال ضروريا لانطلاق علاقة زواج ولكنه بالتأكيد ضروري لاستقرار هذه العلاقة واستمرارها.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version