ضيعت مني موجبات المهنة (القمة) موعدين مع أستاذنا نجيب محفوظ، الاول ”سهرة الحرافيش”، وهي تعقد مساء الخميس من كل اسبوع، ثم جلسة على العوامة ”فرح” يوم الثلاثاء، وهي محدودة وذات طابع نقدي عام.
وفهمت من الفنان الصديق بهجت عثمان ان ”عمنا” نجيب قد استذكر مع الحرافيش حكاية بيان كبار المثقفين المصريين المعترض على إجراءات الرئيس المصري الراحل أنور السادات ضد الصحافة والكتاب (العام 1972)، والذي أثار نشره في بيروت أزمة أكبر من أزمة صدوره.
كذلك فقد أبلغني الروائي الصديق يوسف القعيد ان جلسة الثلاثاء قد تركز النقاش فيها على حكاية البيان ذاته، وكيف ومن أوصله إليّ لنشره في بيروت، وماذا قال السادات في ذلك.
كان أنور السادات يتخبط، آنذاك: عاجزاً عن الحرب او غير راغب فيها بينما الشارع والجيش والأوضاع عموماً ضاغطة ومطالبة بالحسم وبالخروج من دوامة اللاسلم واللاحرب ومن ”عام الضباب”، التي كانت سائدة منذ أواسط سنة 1970، وبعد قبول مبادرة روجرز الشهيرة، والتي تفاقمت خطورتها وانفتحت على المجهول بعد رحيل جمال عبد الناصر في أيلول 1970.
وبلغ ضيق صدر السادات بالاصوات المنتقدة والمعترضة انه أمر باعتقال العشرات من الكتاب والمفكرين والصحافيين، كما انه ”نقل” بعض الصحافيين المغضوب عليهم (وجلهم من اليساريين) الى مصانع او مكاتب إدارية او محلات بيع أحذية.
وبلغت موجة الاعتراض ذروتها حين انضم اليها قمم الثقافة في مصر آنذاك: توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، لويس عوض، الحسين فوزي (وكانوا جميعا في ”الاهرام” التي كان الاستاذ محمد حسنين هيكل لا يزال سيدها)، اضافة الى العديد من المفكرين والكتاب وأهل القلم والرأي عموما.
وتبلور الاعتراض في شكل مشروع عريضة اتفق على رفعها الى الرئيس الراحل. وكان للكاتب المعروف غالي شكري دور متميز في الاعداد لها والتذكير بها حتى كتبت صيغتها الاولى تمهيداً لمراجعتها وتدقيقها، خصوصاً ان كل واحد من الموقعين لم تشتهر عنه الشجاعة (وظيفياً) ولا الحدة في إبداء الموقف السياسي.
وتصادف ان كنت في القاهرة. وكانت ”الأهرام” تشكل محجتنا ومكتبنا ومستقر العديد من زملائنا الأصدقاء، اضافة الى أساتذتنا الكبار. وسمعت بطبيعة الحال بالعريضة، وقدرت خطورتها وأهميتها الفائقة، وبات همي الحصول على نسخة منها.
ولما كنت غنياً بصداقاتي بين الكتاب والصحافيين، فلقد وجدت مساعدة من العديد منهم بينهم مصطفى نبيل (رئيس تحرير مجلة ”الهلال” الآن) ومصطفى الحسيني (وكان يومها مديرا لتحرير مجلة ”روز اليوسف”) ومكرم محمد احمد (رئيس مجلس ادارة ”دار الهلال” الآن، وكان آنذاك محررا رئيسياً في ”الأهرام”) وغالي شكري الذي كان وما زال على الأرجح مقتحماً، خارقاً، حارقاً، ودؤوباً متابعاً وممرضاً ناعماً من الدرجة الاولى.
وذات مساء، وفر لي بعض هؤلاء الزملاء النص الأصلي للعريضة- الوثيقة، وكانت بخط أستاذنا الكبير توفيق الحكيم، وقد كتبها على عادته بالقلم الرصاص.
بيضت العريضة بخطّي وأنا أكاد أطير من الفرح، وسارعت الى إرسالها الى بيروت باعتبارها ”رصاصة الرحمة” على أنور السادات ونظامه: فاذا كان لا يستطيع استقطاب أقطاب الاعتدال مثل الحكيم ومحفوظ وعوض وفوزي، ويستفزهم ويحرجهم فيخرجهم الى درجة الاعتراض العلني على تقييده الحريات وتنكيله بالأدباء والكتاب وأهل الرأي والصحافيين، فمن تراه استبقى في صفوف مؤيديه والمصدقين لمقولته الشهيرة حول ”دولة القانون”؟!
كنت أعمل في ”دار الصياد” آنذاك، مراسلا متجولا في الوطن العربي.
ولقد نشرت جريدة ”الانوار” العريضة في صدر صفحتها الاولى، فقامت القيامة في القاهرة.
تحقيقات تولتها وزارة الاعلام والثقافة، وتحقيقات اخرى تولتها الاجهزة الامنية، وتحقيق استثنائي فتحته رئاسة الجمهورية مباشرة.
وكان ان استدعى الدكتور عبد القادر حاتم، الذي كان وزيرا للاعلام آنذاك، رهط الاساتذة الكبار، الذين ذهبوا اليه وهم يرتعدون، وجلسوا اليه مذعورين، وكادوا ينكرون صلتهم بالعريضة او معرفتهم بي.
حتى بعد ان خرجوا من لدنه كانوا ما زالوا مرعوبين، خصوصا وقد أبلغهم عمق الجرح الذي أصاب السادات ”لا سيما ان العريضة قد نشرت في الخارج فاتخذت طابع التشهير بمصر وليس فقط بنظامها”!!
وظللت أياما اتحاشى اللقاء بأي من أساتذتنا الكبار، حتى هدأت سورة غصبهم، وحين التقينا مجددا كان همهم ان يعرفوا ”مصدري”: من سرب إليَّ الوثيقة؟!
حتى اليوم لا يزال نجيب محفوظ يسأل، وهو، كما يقول نديمه يوسف القعيد، لا يزال خائفا… من السادات.