طلال سلمان

نجيب محفوظ: مع الحرافيش في “الداخل” و”الخارج”!

كان اللقاء الاول مع نجيب محفوظ عارضاً، ومن دون تخطيط مسبق، بأفضال بهجت عثمان الشهير ببهاجيجو، ووسط شلة من “الحرافيش”، في منزل أظرف كاتب قرأت له: محمد عفيفي.

ولقد تعددت لقاءاتنا، في ما بعد، قبيل الغروب في مكتبه في طابق الخالدين، أي الطابق السادس من العمارة الانيقة لجريدة “اهرام هيكل” في شارع الصحافة ببولاق.. وغالباً ما كانت تتحول إلى جلسة رباعية، اذ يدعو اليها الاديب الكبير توفيق الحكيم وكاتب الرحلات الممتعة الحسين فوزي.

أما اللقاءات مساء الخميس من كل اسبوع ففي سهرات الحرافيش التي كانت تنتظم في بيت سعد كامل غالباً، او في بيت آخر من الشلة إذا ما كان سعد على سفر.

كانت اللقاءات في “الاهرام” سياسية بامتياز، وفي الغالب الاعم على شكل حوار بين العروبة والوطنية في كل قطر عربي، وبالتحديد في مصر، اذ كان توفيق الحكيم مصرياً بتأثيرات ثقافية فرنسية، بينما الحسين فوزي مصرياً بتطلع إلى اوروبا متجاوزاً العرب والعروبة، في حين كان نجيب محفوظ مصرياً طبيعياً من دون موقف عدائي تجاه العرب.

أما في سهرة الحرافيش فكان نجيب محفوظ هو حبة العقد في اللقاء المقفل على “الاعضاء” الذين كانوا ـ في العادة ـ اقل من عشرة، الا إذا انضمت الممثلة ذات النضج السياسي ناديا لطفي، والمخرج المميز يوسف صالح، او الممثل الفارس احمد مظهر.

السهرة مفتوحة على مسائل الساعة، بما فيها ما تشهده بلادنا من تطورات: قد تتناول بعض الاحداث السياسية، في نقاش مفتوح يستهدف العرض من دون تحديد موقف، وان كانت المواقف مضمرة..

ذات سهرة، سألني نجيب محفوظ عن الوضع في بيروت ومن حولها فقلت ما مفاده أن الوضع في لبنان يشكل صورة مصغرة عن الحالة العربية عموماً في ظل الصراع الدولي حول المنطقة بعنوان الصراع العربي ـ الاسرائيلي ومضمونه الفعلي مآل القضية الفلسطينية.

هب احد الحرافيش معترضاً: سألك “الأستاذ” عن لبنان، فلماذا تريد توسيع دائرة النقاش حتى نضيع فيه..

ونبر “الأستاذ”: اترك الرجل يجيب على راحته.. طبيعي أن لبنان الصغير بمساحته، والمتميز بثقافته وحيوية اهله، يؤثر ويتأثر بمحيطه العربي، خصوصاً وان نظامه كوزموبوليتي..

قلت: لطالما تمنينا أن تأتينا في لبنان.. ستكون رحلة ممتعة، ويمكنك أن تجيء الينا بحراً.

ابتسم نجيب محفوظ، وغمر بعينيه من خلف نظارتيه، ثم غير الموضوع..

*****

في سهرة أخرى مع “الحرافيش” دار النقاش حول الموسيقى والطرب. وكان واضحاً أن نجيب محفوظ يحن إلى الغناء الاصيل والاصوات التي لا تلحن ولا تشوه الشعر او اللحن… ومرت أسماء محمد عثمان وعبده الحامولي ثم محمد عبد الوهاب وام كلثوم وليلى مراد واسمهان..

وقال نجيب محفوظ: واسمع ايضاً عبد الحليم حافظ في بعض اغنياته. انه مطرب مجتهد… لكنني، عموماً، اسمع ما يذكرني بشبابي.

*****

ذات عصر، ضبطت نجيب محفوظ في مكانه الأثير: المقهى الشعبي في حي خلف مسجد سيدنا الحسين.

كانت الاحياء التي حملت ثلاثية القاهرة اسماءها: بين القصرين، قصر الشوق والسكرية، تتناثر من حول المسجد، خلفه، وخلف الخلف، والى جانبه.

مشيت مع العاشق العظيم نجيب محفوظ الروائي الذي رحل عن دنيانا في 29 اب (اغسطس) 2006، أستمع بمتعة فائقة إلى شرحه المسهب لفن العمارة بالقناطر والشبابيك التي بحجم الابواب، والشرفات المغطاة بالشبك التي تطل على المشهد، فترى منها من تراك، ولا تراها.

مرة ثانية التقيت “الأستاذ” جالساً في مقهى الفيشاوي.. اما في المرة الثالثة فقد التقيته امام المقهى ـ المطعم الذي اقامته وزارة السياحة في المنطقة التي يعشقها نجيب محفوظ، واعطته اسمه.

تقصدت أن اقترب منه محيياً، وأمامه فنجان القهوة، وعيناه تتفحصان المارة من خلف نظارتيه الرماديتين.. قال لي: احب أن اتأمل الناس وهم في سعيهم إلى حيث يقصدون.. ولست احب هذا المقهى الذي وضعوا عليه اسمي، لأنه هجين، يرونه شعبيا، ويأتون اليه ـ كما عرفت ـ بمطرب مبتدئ ومعه عوده المستعار، لكي ترقص على موسيقاه الصبايا..

ضحك، وتلفت حوله قبل أن يضيف: ربما لو كان بصري افضل لكنت استمتعت بمشهد الصبايا يتمايلن مع النغم..

سألت بحشرية الوافد: لكن نظرك كان ثاقباً حين كتبت الثلاثية. لقد اخترقت الجدران واسرار البيوت بالأب المتجبر والزوجة المطواع والفتى الذي “ضبط” والده في بيت “العالمة” مع السكارى والحشاشين..

بدا وكأنه لم يسمعني، فغيرت موضوع الحديث، وانطلقت اسأل عن تاريخ هذه المنطقة، هل كانوا الفاطميين ام المماليك..

وانطلق نجيب محفوظ يشرح لي فنون العمارة، والفوارق بين الفاطميين والمماليك، والفوارق بين بناء الكنائس الذي لا تخطئ العين في نسبته إلى المصريين القدماء، او الفراعنة، كما تسميهم العامة، وفنون العمارة الاسلامية التي تحمل بصمات الفاطميين اساساً، الذين جددوا بناء القاهرة، ثم المماليك لا سيما ايام السلطان قلاوون.

*****

المرة الوحيدة التي خرج فيها نجيب محفوظ من مصر كانت حين حمل في سيارة عسكرية إلى طائرة عسكرية كانت تنتظر في مطار القاهرة الحربي.. وقد نقلت عدداً من الكتَّاب والفنانين إلى اليمن ابان الحرب السعودية عليها، وبينما كان الجيش المصري يحمي ثورتها. وغالباً ما كان يتجنب الحديث عن تلك المغامرة التي قام بها برغم انفه.. وان كان يشير إلى انه قد أحب صنعاء.

أما المفاجأة اللطيفة فكانت حين وافق نجيب محفوظ على أن يكون لقاء الحرافيش يوم الجمعة بدلاً من مساء الخميس، وفي القناطر الخيرية.

كان النيل يخرج من بين القناطر التي بنيت ايام محمد علي، فتمتد مياه النيل على مساحة واسعة جداً قبل أن تعود إلى الانتظام في مجراه.. ونحن غارقون في تأمل المشهد المهيب. فجأة انتبهنا إلى أن نجيب محفوظ يحمل منظاراً ويدور به على “الجمهور”، مركزاً على الصبايا الفاتنات.. وبين الحين والآخر يعود الينا ليتفقد حضورنا.

قال بهاجيجو: هل انتبهت.. نفترض اننا نتفرج عليه فاذا به هو من يتفرج علينا وعلى الآخرين!

ـ للقاءات تكملة..

 

Exit mobile version